الياس الزغبي/سياسة النَكَد

288

سياسة النَكَد

الياس الزغبي/لبنان الآن/08 -11-14

بعض السياسة في لبنان، لا يُمكن تصنيفها وتوصيفها، لا في معايير المعجم السياسي، ولا في نماذج التاريخ والجغرافيا، ولا في محرّكات غوغل وعائلته. حتّى في الأنظمة الديكتاتوريّة والملَكيّات المطلقة والسلطنات وحكم القبائل، يُمكن العثور على مقياس أو تقليد أو سند ما، في النصوص أو الأعراف، لتفسير أو تبرير موقف أو سياسة أو قرار، في هذا الشأن أو ذاك. في لبنان، وفي غمرة حروبه وأزماته وصراعاته المفتوحة، كنّا دائماً نجد ترتيباً واقعيّاً عقلانيّاً، لمداراة أزمة، أو للخروج من مأزق، أو، على الأقلّ، لتأجيل مشكلة وتخدير مواجهة وتفادي انفجار. ما حصل في مسألة التمديد الجديد لمجلس النوّاب كشف نوعاً من السياسة “الجديدة” التي لا أصل لها ولا مستند ولا وصف: فريق يأكل من التينة ويلعنها، يدفع بكامل وعيه نحو حالة قاهرة ثمّ يتبرّأ من نتيجة عمله، يتنعّم أكثر من سواه بمكتسبات في السلطة والسياسة والمال والنفوذ ويشتم مانحيه وشركاء فعلته. بكلّ بساطة، هذا ما فعله فريق ميشال عون، وما يفعله عمليّاً منذ دخوله جنّة السلطة قبل 7 سنوات. يقطف ثمار الشجرة التي أصعدوه إليها ثمّ يرجمها، ولكن بدون أن يقطع الغصن الذي يقف عليه، خوفاً من السقوط الكبير و .. الأخير. ففي أيّ خانة يُوضع رفضه النظري والمسرحي للتمديد؟

إذا كان في خانة الموقف المبدئي، فأبسط مبدأ هو الاستقالة من السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة اللتين اشتركتا في إقرار التمديد لمجلس النوّاب. ولا يعني عدم الحضور وعدم التوقيع على مرسوم القانون، وحتّى الطعن فيه، شيئاً، إلاّ محاولة إيهام الناس ب”مبدئيّة” هذا الفريق، ولا يعدو الأمر إذذاك السلوك الديماغوجي “الشعبوي” الذي يطبع سلوك الفريق العوني منذ تشكّله النيابي والوزاري، بل منذ انتمى صدفةً إلى السياسة.

وإذا كان في خانة الموقف الأخلاقي، فلم يعُد اللبنانيّون مخدوعين بهذه اليافطة التي سقطت، ليس بالتحالفات الغريبة المريبة فقط، بل بالأداء النفعي المكشوف في الوزارات والإدارات، واشتراط توزير البطانة والأقارب، والكيل بمكاييل متعدّدة في السياسة الداخليّة والخارجيّة.

أمّا إذا كان رفضهم التمديد يندرج في البعد السياسي أو الوطني، فإنّ حقيقتين تنفيان ذلك:

الأُولى، نكوصهم عن أيّ إجراء أو امتناع أو ضغط داخل مجلس الوزراء للدفع نحو إجراء الانتخابات النيابيّة، برغم تمثيلهم الوازن داخله. وكان يكفي وزير واحد يطالب بصدق باتخاذ إجراءت الانتخاب أو الانسحاب، الأمر الذي لم يحصل لا بالكلام ولا بالأفعال.

والثانية، إستنكافهم عن طرح أيّ مخرج لمأزق الانتخابات، وهم لا يملكون أصلاً أيّ مخرج واقعي، ويعلمون أنّ التمديد أمر واقع لمنع الفراغ. فإذا كانوا لا يعلمون بحتميّة الفراغ فتلك مصيبة، وإذا كانوا يعلمون ويسعون إليه بعيون مفتوحة فالمصيبة أعظم.

في الحقيقة، هم يعلمون بحتميّة الفراغ الكامل في السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة في حال عدم التمديد، بدءاً من رئاسة الجمهوريّة إلى مجلسي الوزراء والنوّاب، وفي حسابهم أنّ الفراغ لا يملأه إلاّ “الأقوياء” المخطّطون لنظام مجهول، وهؤلاء الأقوياء هم حاملو السلاح وأصحاب الشعبيّة الحديديّة المقفلة. ولا يخفى أنّ شريكهم القوي “حزب الله” لم يَعُد في الموقع الذي يفرضه أمنيّاً وسياسيّاً كما في 7 أيّار وانقلاب “القمصان السود”، فسار بالتمديد مضطرّاً، أولعدم جهوزيته. أمّا هم، فلم يكن أمامهم إلاّ تمثيل دوربطل الروايات الوهميّة، لعلّ ذلك يعوّم شيئاً من الشعبيّة ويعوّض بعضاً من الحلم الرئاسي المفقود.

وفي الحساب السياسي، إنّ ما يعتبرونه كسباً سياسيّاً شعبيّاً، ليس سوى برق خُلّب، وقد انكشف وضعهم على عريه بعد ثبوت هزال حجّتهم وغياب بدائلهم، وبعدما فارقهم شريك أساسي هو كتلة المردة وشريك آخر هو حزب الطاشناق بحضوره الجلسة، وبعدما اتّضح من هو العاقل الحريص على مستقبل لبنان ومسيحيّيه، ومن الذي لا يُعير مستقبلهم أيّ تصوّر إيجابي، بل يحوّلهم إلى مجرّد وقود لأطماعه. حين يَحلّ وقت الحقيقة، وحدهم العقلاء أهل التاريخ السياسي والتعقّل الوطني يتصرّفون بحكمة، ويلتزمون موجبات الواقعيّة السياسيّة والقرارات الصعبة، أمّا الطارئون المحدودو الآفاق فيلعبون لعبة الغلمان ويستسيغون خفّة البهلوان. وإذا كان يصعب على أيّ مراقب سياسي أن يصنّف أداء الفريق العوني وسلوكه ومواقفه وفق المعايير المتّبعة في السياسة العامّة والنماذج العلميّة لأنماط الحكم، معارضة وموالاة، فإنّ البحث عن وصف لهذا الأداء يقوده حكماً إلى تعبير غير علمي مثل “النَكَد”، “النكاية”، “الانتقام”، “التشاوف”، “المَقدحة”، “النمردة”، “الحَرَد”، “الهَوَس”، “الهوبرة”، “البطولة الفارغة”، “الدونكشوتيّة”، “إتقان فنّ الهزائم”.. وكلّها توصيفات لكاسر مزراب العَين، الذي يخالف ليُعرف.