يوسف بزي: ذكرى 14 شباط ونواف الموسوي في البرلمان/الحرب الأهلية هزمت الجميع وهذا الجميع أعلن هزيمته إلا حزب الله فعنده الموت نفسه انتصار

119

ذكرى 14 شباط ونواف الموسوي في البرلمان
الحرب الأهلية هزمت الجميع. وهذا الجميع أعلن هزيمته.. إلا “حزب الله”. فعنده، الموت نفسه انتصار

يوسف بزي/المدن/ الخميس 14/02/2019

ليس بسيطاً ما قاله نواف الموسوي في مجلس النواب يوم الأربعاء. وليست أهمية كلامه بما تفوّه به حرفياً. فهذا من عاديات الأدبيات السياسية الدارجة بين اللبنانيين لعقود.
اللبنانيون، إجمالاً، منقسمون في سردية الحرب وروايتها. كما هم منقسمون في الأيديولوجيا السياسية التي يريدونها للبنان.
وهو انقسام يغذيه ويديمه “حزب الله” وحلفاؤه، باستبسال وعزيمة وإصرار.
المهم في كلام نواف الموسوي، أنه يحيلنا إلى المعضلة الكبرى التي لم نجد بعد حلاً لها مع “حزب الله” أولاً، ومع عصبة “الممانعة” وخطابها التعبوي، تالياً.
المعضلة أن الحرب الأهلية هزمت الجميع. وهذا الجميع أعلن هزيمته.. إلا “حزب الله”. فعنده، الموت نفسه انتصار.
والمصيبة أنه يطلب الموت لنفسه ولغيره من دون حد أو كفاية. وغصباً عن الجميع.
معضلتنا، أن “حزب الله” لم ينهِ الحرب الأهلية، التي توقفت عام 1989 رسمياً، وعام 1991 ميدانياً.
لم يكتف ببقائه على سلاحه باسم “المقاومة” دون سائر اللبنانيين، إنما بقي أيضاً على عداوات الحرب سياسة ودعاية وتربية.
بقي خارج ديناميكيات السلم وما نتج عنه طوال التسعينات.. وحتى اليوم.
بقي وحده “يقاتل” فيما الآخرون ذهبوا إلى تحولات السياسة والاجتماع والاقتصاد.
ليس صدفة أن “حزب الله” اختار عمداً أن يبقى بعيداً، عن الحياة اللبنانية العامة وعن الدولة والحكومة والبرلمان.
ببساطة كان يريد أن يحمي نفسه (وبيئته) من “فتنة” ما بعد الحرب. حتى عندما اضطر عام 2005 لخوض الانتخابات والدخول إلى الحياة السياسية، فقد مارس هذا كامتداد لضرورات حربه.
هو في السياسة “الطبيعية” حريص أشد الحرص على إبقاء “شعبه” في حال اسبارطية. السياسة قتال، والانتخابات مبايعة وتكليف شرعي أو “استنفار” و”معركة”.
ما حدث، أن المسيحيين والمسلمين، اليسار واليمين، وما بين هذا وذاك من تلاوين وأجنحة وتيارات وأحزاب وجبهات، ما أن وضعت الحرب أوزارها، انطلقوا إلى ما يسمى “المراجعة”. وفي حالات كثيرة، وصلت إلى “الاعتراف” و”الاعتذار”.
أهل الاحتراب ورموز الميليشيات، وجمهور اللبنانيين عموماً، تبادلوا الشعور العميق بالذنب تجاه اقترافاتهم بحق بعضهم البعض، وبحق بلدهم.
كان لليسار نقده لأوهام “الثورة”، و”الحرب الشعبية طويلة الأمد”، ولخطأ إنكار حقيقة الطوائف، واستهتاره بالتجربة الديموقراطية اللبنانية ومكتسبات الحداثة.
اليمين التقليدي والفاشي معاً، أقرا على نحو جليّ بالخطايا التي ارتكبت منذ بدء إنشاء ميليشياتهما مطلع السبعينات إلى تلك “المغامرة” الرعناء المسماة “حرب التحرير”.
المسلمون، في نهايات الحرب، أيقنوا خطأ تقديمهم “العروبة”، غير القابلة للتحديد لا بعثياً ولا ناصرياً ولا فلسطينياً، على لبنانيتهم وميزاتها.
المسيحيون تأكدوا أن لبنانهم “الكبير” بكل طوائفه ومع مسلميه تحديداً هو الذي يمنحهم الديمومة والبقاء والازدهار.
المراجعة في الأفكار وفي التجربة، التي أقرّت خطأ الاستقواء بالبندقية الفلسطينية أو الدبابة السورية أو الطائرة الإسرائيلية، كانت تتماشى مع السلوك العاطفي والرغبة العميقة التي دفعت اللبنانيين في أواخر الثمانينات لإبراز الاشتياق الحقيقي للتعارف مجدداً، لمغادرة المتاريس واجتياز خطوط التماس.. وليس هيناً، ولا تفصيلاً مبتذلاً، مشهد اللبنانيين في سياحتهم إلى أطلال وسط بيروت لحظة صمت المدافع، كتعبير لـ”العودة إلى لبنان”.
ترتب على هذا كله حياة كاملة على امتداد 30 عاماً.
وبالتأكيد لم تختف المنازعات السياسية بين المجموعات اللبنانية، وليس لها أن تختفي. فهذا شأن مجتمعات التنوع والتعدد، بل شأن كل سياسة علنية وحرة وديموقراطية، طالما أنها محكومة بقواعد ضبط الدستور وأعراف السياسة وحدود القوانين الناظمة للحياة العامة.
لكن على امتداد ثلاثة عقود، كانت معضلة “حزب الله” هي الاستثناء، والتي تنبّه اللبنانيين أن سلمهم ما زال ناقصاً.
هو الوحيد تقريباً الذي لديه مشروع أيديولوجي للبنان يعمل على فرضه (ربما الآن بصبر أكبر وبنفس أطول).
هو الوحيد الذي يثابر على رفض لبنان كما هو في أذهان السواد الأعظم من اللبنانيين.
لقد تأكد ذلك بعد أيار 2000. فبعد لحظة التحرير جاء استحقاق مستقبل “حزب الله” (والمقاومة). واختار الحزب إبقاء نفسه في الحرب. وبالتالي، إبقاء لبنان نفسه جبهة عسكرية أبدية.
منذ 14 شباط 2005، نعيش الصدام العنيف، البالغ الأذى، بين طموح معظم اللبنانيين في بناء بلد طبيعي (يحلو الاستياء منه أحياناً) من جهة، ومشروع “الممانعة” الذي يجسده حزب الله، من جهة ثانية.
14 عاماً حتى الآن، والكل يعرف ما حدث، قتلاً واغتيالاً وحروباً متعمدة.
ليس صدفة، عشية ذكرى اغتيال رفيق الحريري ما تفوه به “مثقف” حزب الله، نواف الموسوي، الذي لا يعني سوى أن لغة الحرب وحدها هي المعتمدة، وأن معاركها مستمرة.
لكن “الخبيث” في هذا الكلام ليس فقط نية الاحتراب، إنما في هذه الانتقائية للذاكرة والتاريخ.
ففي “ذاكرة” حزب الله، يتم إعادة تصنيع صورة ميشال سماحة وإيلي حبيقة وكريم بقرادوني.. عدا عن محو صورة ميشال عون مع أركان الحرب الإسرائيليين.
وأصلاً ذاكرة “الممانعة” كلها تستطيع عن حق استحضار مجازر صبرا وشاتيلا، لكنها بباطل بشع تمسح “حرب المخيمات” الفظائعية، ناهيكم طبعاً عن “حرب الأخوة” مثلاً.. وغيرها عند الجميع، مما ينضح به عارنا الوطني.
إذا أراد نواف الموسوي استكمال نبش الماضي، فلا تردد أن ننبشه كله.. كله. ولنبدأ من لحظة تأسيس “حزب الله” قبل تسميته بهذا الإسم.
وبلا تحفظ. في هذا اليوم 14 شباط 2005، تم اغتيال رفيق الحريري.. لا لشيء، إلا للعود إلى بدء الحرب.
ولا شيء أغاظ حزب الله، سوى مشهد 14 آذار الذي كان الترجمة الأنصع في كل تاريخ لبنان عن رغبة اللبنانيين المعاكسة.
يريدون سمير جعجع أن يبقى أمير حرب في “الشرقية”،
ووليد جنبلاط أمير حرب في الجبل،
ويتمنون أن يصير سعد الحريري قائد تنظيم “المرابطون” مثلاً..
بل يريدون نبيه برّي آمر ميليشيا “أمل”،
ولا بأس أن يفقد ميشال عون أعصابه ويعود “دونكيشوت” مسيحي يقصف عشوائياً على الجميع.
في هكذا لبنان يجد “حزب الله” حياته..
أما ذاك الـ”لبنان” الذي رسمه وتخيله رفيق الحريري ومواطنوه فيستحق التفجير فوراً.