منير الربيع: إفشال قمة بيروت: انتصر قاسم سليماني وغاب العرب/باسيل يلعب دور ممثل النظام السوري في قمة بيروت

110

إفشال قمة بيروت: انتصر قاسم سليماني وغاب العرب
منير الربيع/المدن/المدن/19 كانون الثاني/19

جملة من التناقضات السياسية تفرض نفسها، لتفسير أسباب بهوت القمّة الاقتصادية في بيروت. وهي لا تدلّ عن موقف واضح أو موحد، يعلل مسببات تخفيض التمثيل إلى هذا المستوى، والذي تدحرج بشكل دراماتيكي بعد تأكيد حضور سبعة رؤساء دول، لينتهي العدد إلى إثنين.

لا أحد يمتلك رؤية واضحة تقف خلف أسباب إفشال القمّة. العرب يصرّون على عقدها في بيروت، لتمسكهم ببيروت العربية لا الإيرانية، لكن هذا التمسك لا يقودهم لغير إظهار موقف عقابي ربما، عبر إرسال وفود منخفضة المستوى. كأن القمة منعقدة من باب رفع العتب، وإثبات أن بيروت حاضرة عربياً، والعرب حاضرون فيها. لكنهم أيضاً يظهرونها هزيلة، على نحو يفسح المجال أمام القوى المعارضة لعقد القمّة، إلى إظهار دورها وقوتها في إفشالها. وكأنه ممنوع على العرب إثبات وجودهم في بيروت إلا شكلياً، تماماً كما هو حال القمّة.

طريق المطار.. طريق دمشق
قبل الدخول في القراءة السياسية لما تصوّره القمّة من تجاذب على لبنان. ثمة سؤال لا بد من طرحه. ماذا لو لم يعتذر الرؤساء والقادة العرب عن الحضور إلى بيروت، فهل كانت الأمور ستقف عند هذا الحد، أم ثمة مؤشرات مشابهة لما تعرّضت له ليبيا في الشارع، كانت ستحدث ربما على طريق المطار، تؤدي إلى إحجامهم عن المجيء في اللحظة الأخيرة؟ خصوصاً أن ثمة لافتات رفعت على طريق المطار، تدين بعض الدول العربية وقادتها، بمعزل عن أحقية الشعارات من عدمها، لكنها بالغة الوضوح في مصدرها وفي من تستهدف.

هذا السؤال يقود إلى خلاصة واحدة، وهي أن ثمة أطرافاً متعددة لا تريد للقمة أن تنجح، ولا أن يكون لها دويّ عربي، خصوصاً أن أي مفاعيل جدية لها سُحبت قبل لحظة الإعتذارات والإعتكافات، فخرجت الجامعة العربية مؤكدة أن قمة بيروت لن تبحث ملف إعادة الإعمار في سوريا، ولا مشاريع اقتصادية تتعلق بها. كما أنها أكدت عدم طرح مسألة إعادة سوريا إلى الجامعة العربية. وبالتالي من كان يسعى إلى التعويض عن عدم دعوة سوريا إلى القمّة، فقد سبباً لإفساح المجال أمام إنجاحها، طالما أنها لن تخرج بقرار رمزي في اجتماع وزراء الخارجية العرب ببيروت، لإعلان عودة دمشق إلى الجامعة العربية.

مطبات لبنانية
لا شك أن ملفات متعددة، مرتبطة بدمشق، هي التي فرضت مسار التعاطي العربي مع القمّة. الغريب هو ما أكده السفير السوري في لبنان عن تلقيه دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور القمّة، لكنه اعتذر عن المشاركة، بينما سوريا لم تعد إلى الجامعة العربية. وهذا أول مطبّ واجهه لبنان. إذ اعتبر بعض العرب أن هناك تجاوزاً لما يرتضونه. المطب الثاني، هو المساعي الحثيثة التي بذلها وزير الخارجية، جبران باسيل، من أجل إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، تمهيداً لتوجيه الدعوة إليها. وهذا أيضاً يؤكد ارتباط سوريا بإنجاح القمة أو بفشلها.

هذه المساعي اصطدمت بلحظة إحجام عربي عن الإندفاعة تجاه دمشق، وبضغط أميركي لوقف اندفاعة التطبيع مع النظام السوري. بينما باسيل استمر بمحاولة فرض رغبته، فكان لا بد من مواجهته بحزم من قبل الدول العربية، التي لا يمكنها السير وفق ما يريده وزير خارجية لبنان. بل وترى الجامعة بداهة وجوب التزام لبنان التوجه العربي.

في تناقضات التفسير اللبناني لإفشال القمّة، انعكاس للتناقضات العربية كذلك. يتهم فريق ما النظام السوري بتعطيل القمّة، طالما أن سوريا لم تدع. لكن الردّ العربي أتى ملائماً لما يريده المعطّلون، طالما أحجم الزعماء العرب عن الحضور، وبالتالي أسهموا في إفشال القمّة.

وهو المشهد الذي يمنح النظام السوري انتصاراً وفق مقولة: القمّة معطّلة لأنه ليس موجوداً. ويثبت مجدداً فعالية قوته على الساحة اللبنانية. إثبات آخر على ارتباط دمشق بتعطيل القمّة، هو موقف حركة أمل برئاسة رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، الذي كان يعترض على حضور ليبيا.

لكن، وعلى الرغم من مقاطعتها، أعلن الرجل عدم حضوره القمّة، تاركاً حرية الخيار لنواب كتلته في المشاركة من عدمها. وهذا يعني أن التصعيد بوجه ليبيا وتقديم استعراض إحتجاجي في الشارع، كان هدفه أبعد من إستبعاد الوفد الليبي، ويرتبط بإفشال القمّة كرمى لعيون النظام السوري، أو من أجل فتح باب تحسين علاقته مع هذا النظام. موقف برّي يقابله موقف لصديقه “اللدود” وليد جنبلاط الذي اعتبر أن القوى الظلامية عطّلت القمّة.

أسوأ من حال اليمن
لا يمكن للفعالية السورية في إفشال القمّة، أن تكون مستقلّة بذاتها. بلا شك، هي تستند إلى قوة رافدة، ترفض عقد القمّة أيضاً، وثمة من يشير إلى أن إيران أرادت إيصال رسائل أساسية إلى العرب، بأنهم لا يدخلون بيروت إلا بإذنها، خصوصاً أن بيروت مدرجة بين العواصم العربية الأربع التي تبجّح مسؤولو “الثورة الإسلامية” بأنها خاضعة لسيطرتهم. فلا يمكن التساهل مع “استباحة” العرب لها، وفق المنظور الإيراني. وبينما أصرّ لبنان على عقد القمّة، لم تأت التلبية العربية على قدر المتوقع من آمال. لتظهر طهران مجدداً وكأنها حققت هدفها.

قد تكون الإجراءات العربية في خفض مستوى التمثيل، ترتبط بوقف مبدئي من لبنان، الذي أصبح محسوباً على المحور السوري الإيراني، وفيه نوع من العقاب على مواقف اتخذها المسؤولون اللبنانيون، كانت تصب في خانة طهران. هذا الموقف يرتبط أيضاً بحسابات أمنية وسياسية تضع المسؤولين اللبنانيين أمام حصاد ما زرعوه. لا تقتصر الرسالة العربية على رئاسة الجمهورية، فرئاسة الحكومة من بين المستهدفين بالسهام أيضاً، خصوصاً أن العرب يجدون أنفسهم مجدداً بين نارين في لبنان. فالحضور إليه بلا اعتراض فيه تسليم بتسيّد الإيراني عليه، وغيابهم عنه يفسح المجال أمام إيران لملئ الفراغ أكثر.

في الوقت الذي يحتفل فيه البعض بعقد القمّة، والبعض الآخر بإيصال رسالة إلى لبنان بتخفيض التمثيل. ثمّة من يحتفل لأسباب موجبة أكثر، وهي إفشال القمّة واستدراج العرب إلى المشاركة في إفشالها، تحقيقاً لمصالح قاسم سليماني، الذي أعلن عن تحقيق انتصار في بيروت. يتجلى ذلك في جعل لبنان دولة مارقة، لا يمكن اتخاذ قرار فيها إلا بفرض أمر واقع في الشارع، بحيث تكون بيروت الآمنة، عاجزة عن استقبال وفود عربية، في مشهد لا يمكن أن يحصل في اليمن مثلاً، لو تقرر عقد قمة عربية فيه.

باسيل يلعب دور ممثل النظام السوري في قمة بيروت
منير الربيع/المدن/19 كانون الثاني/19

لم تخرج مواقف الوزراء الممثلين للدول العربية عن السياقات الروتينية، للمواقف المعتادة في هكذا قمم. في القمة الاقتصادية التنموية، تضاف جملة عبارات من قبيل السوق العربية المشتركة، وبناء اقتصاد تشاركي، وإزالة الحدود والفواصل. تبقى الشعارات متلازمة مع هذه القمّة منذ ستينيات القرن الماضي. وجانب من المتكلمين ينحو إلى الكلام في السياسة، بينما البرنامج في هذه القمم غالباً ما يتقدّم بعناوين كثيرة وبرّاقة، لا تجد طريقاً أو خطّة إلى التطبيق.

عروبة باسيل!
في معرض الكلام المنمّق، والذي لا يجد طريقه منذ سنوات إلى أي صيغة عملية أو فاعلة، يتغلّب الملل على المجتمعين، خصوصاً مع بدء إغداق التشكرات على حسن التنظيم والإستضافة. أو في المطولات الكلامية التي ينتهز فيها بعض المشاركين الفرصة لتبادل أطراف الحديث وشوشةً، أو للغرق في هواتفهم أو نومهم.
فيما اختصر رئيس جلسة وزراء الخارجية العرب، وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، المسألة، بالإنقسام العربي وعدم وجود رؤية مشتركة تقوم على التعاون، وفي ظل التضارب بين المصالح، وعالم المؤامرات التي يكيدها العرب إلى بعضهم البعض، أفرغ هذا النوع من القمم من مضمونها. في بعض كلام باسيل وضع للإصبع على الجرح. وقد عرف كيفية توجيه كلماته التي تحاكي كل الشباب العرب، لكن باسيل يعلم أن لا أفق لكلامه، سوى في بعض النوستالجيا الشبابية، التي كانت تختصر سابقاً بعبارة “إن ما سهرنا ببيروت منسهر بالشام” أو المستلهمة من موروثات شعر محمود درويش، كإسقاط جواز السفر، لتبقى كل قلوب العرب جنسية الشباب العربي، في محاكاة لطموح إزالة الحدود والرسوم.

لكن كلام باسيل العاطفي، لا يتلاقى مع موقفه الثابت من اللاجئين، والذي لطالما يغلّفه بمبدأ منمّق كإعادة المهجرين إلى أراضيهم، فيما هدفه مواجهة وساوس الخلل الديمغرافي. هذا يرتبط بطروحاته المتعددة، المناقضة لمضمون خطابه، كحال اقتراحاته المتكررة لإعطاء المرأة اللبنانية جنسيتها لزوجها وأطفالها، باستثناء السوريين والفلسطينيين والمصريين. حتى في الدعوة إلى رفع التمييز، كان يقابلها تمييزاً في كلام باسيل كما في كلام غيره من الوزراء العرب، تماماً كما هو الحال في توصيف الإرهاب والجهة المرتكبة له، فيوسم طرف بالإرهابي، من دون الإشارة إلى الطرف الآخر.

لغو “إعادة اللاجئين”
صوّب باسيل سهامه على بعض الدول العربية التي تقاتلت فيما بينها، بينما لم يشر إلى أي جهة اخرى، ولم يأت على ذكر النظام السوري وما حصل في سوريا، متجاهلاً أن فيها حرباً، مركّزاً فقط على إعادة الإعمار واللاجئين، من دون بحث حقيقي في المسبب بالدمار والتهجير. فيما أسف باسيل باسم لبنان لغياب رؤساء بعض الدول، كانت الرسالة العربية أبلغ في نسبة عدد الوزراء المتكلمين في الجلسة الإفتتاحية لوزراء الخارجية العرب، بحيث بدا وكأن هناك موقفاً جامعاً يستكمل حالة اعتذار الرؤساء، تجسّد في عدم طلب الكلام من قبل أي من الدول الخليجية ومصر مثلاً، مقابل اقتصار الكلام على أمين عام جامعة الدول العربية، وممثلي فلسطين، الأردن، العراق، جيبوتي، اليمن، موريتانيا، والصومال.

ركز باسيل الذي ترأس القمّة، متسلماً إياها من وزير الدولة السعودي للشؤون الأفريقية، على توجيه إنتقادات للدول العربية ومواقفها، التي تسببت في تفاقم مشاكل الشعب العربي وتهجيره، وعدم احتضانه في بيئته، والتي ارتكزت على تقديم الكلام الجميل مقابل أعمال غير جميلة. اعتبر باسيل أن العرب لا يجيدون المحافظة على بعضهم البعض، بل يجيدون الإبتعاد عن بعضهم. ومن هنا أراد باسيل لعب دور صوت النظام السوري في القمّة.

دافع عن إعادة الإعمار، في غمزة منه إلى النظام السوري، الذي تتم معاقبته دولياً وإقليمياً في وقف عملية إعادة الإعمار أو منعها. داعياً إلى تأسيس رؤية اقتصادية مشتركة، وخلق مساحة اقتصادية مشرقية تبدأ بإعادة إعمار سوريا والعراق، وإعادة النهوض بلبنان، من دون إغفال مشاريع سكك الحديد والنفط والغاز والكهرباء. مركزاً على وجوب ربط المتوسط بموانئ بالعراق، والبحر الأحمر بسوريا. وصولاً إلى فتح الحدود من دون حصار أو رسوم.

ملف اللاجئين لم يغب عن كلمة باسيل، الذي ركز على وجوب إعادتهم بمعزل عن رغبة من هجّرهم، مشدداً على وجوب تطبيق العودة الآمنة والكريمة، وتحويل النقمة المذهبية إلى نعمة المواطنة. أكثر من مرّة جاء باسيل على ذكر سوريا، التي اعتبر أنها فجوة كبرى في الجسد العربي وهناك شعور بثقل غيابها، معتبراً أنها يجب أن تعود إلى الجامعة العربية، وأن تكون في “حضننا بدلاً من تركها في حضن الإرهاب” بمعزل عن الضغوط الخارجية التي تمنع إعادتها، ويجب عدم تسجيل عار إبقائها خارج العرب بسبب الضغط الخارجي، وإعادتها حين يسمح الإذن الخارجي.

مزايدات محلية
لعب باسيل في القمة لعبة المزايدة في الممانعة. كمن يقاتل من موقعها، ولهذا أهداف محلية وخارجية. في لبنان لديه خصوم يهدف إلى تصفية الحسابات معهم، وإذا كان هناك من يسعى إلى تطيير القمّة في الشارع كرمى لعيون سوريا، يشير باسيل إلى أنه الأقدر على نقل الهوم السورية إلى المحافل العربية الرسمية، فيطلب من أمين العام للجامعة العربية إعادة سوريا، ويوجه دعوة للسفير السوري لحضور القمة، ويتحدث باسمها في الجلسة الإفتتاحية. مزايدة باسيل لا تنفصل، عن واقع الضغوط التي يتعرّض لها من قبل الأميركيين، والتي أراد من خلالها تسليف السوريين والإيرانيين مواقف لطمأنتهم بأنه لن ينجرّ إلى اللعبة الأميركية، طالما أنه متيقّن بأن واشنطن غير مهتمة بتفاصيل المواقف والإعلانات في الزواريب اللبنانية والسورية، بقدر ما تنظر إلى الواقع على الأرض، على قاعدة التعامل مع ملفات المنطقة ككل كسلّة واحدة بعيداً عن تسجيل النقاط الداخلية التي يجد باسيل التلاعب في ميدانه، لمواجهة كل محاولات الحصار التي يتعرّض لها، فاللعب بالورقة السورية غير مكلف دولياً وإقليمياً، إنما يفيد تكتيكياً في الداخل.