حنا صالح:على صفيح ساخن/لاعتبارات إقليمية من جهة، ومن جهة أخرى رغبة حزب الله إفهام الآخرين تكراراً أنه وحده الآمر الناهي، عاد ملف التأليف إلى نقطة الصفر

54

على صفيح ساخن
حنا صالح/الشرق الأوسط/10 كانون الثاني/19

لا حكومة لبنانية في القريب، والتكليف بالتأليف الذي مضى عليه 231 يوماً بات من عاديات الأمور، والبلد يتجه إلى مزيدٍ من التأزيم، وما على اللبنانيين إلا انتظار جلاء أبعاد التطورات في سوريا بعد القرار الأميركي بالانسحاب البطيء من شرق الفرات، كي يفك «حزب الله»، صاحب الكلمة الفصل، أسر الحكومة. البلد المخطوف القرار بفعل تغول الدويلة دخل أزمة توريث وهو مكبل بدين تجاوز 100 مليار دولار، ومقيد ببطالة تجاوزت الـ35 في المائة، ومنتهك السيادة واستقلاله معلق، إنه في إجازة غالية الثمن باهظة التكلفة، ولم يتجرأ أي مسؤول على مصارحة الناس بالأسباب الحقيقية، ودور الخارج المهيمن في التسبب بالتأزيم السياسي وتداعياته الاقتصادية، بل جرى ترك المواطنين ضحايا أخبار «المصادر المطلعة» التي لحمتها وسداها، أن أطرافاً محلية ولأسباب داخلية محضة جعلت البلد يقف على رِجل واحدة!

حتى الآن خسر العهد سنة كاملة، الأشهر الأولى كانت مرحلة الإعداد للانتخابات التي جرت في السادس من مايو (أيار)، والأشهر التي تلت استُهلكت في عملية تأليف لم تنته، مع التأكيد أنه عندما سيُفرج عن الحكومة لا أحد ينتظر متغيرات كبيرة، القرار سيبقى خارج مجلس الوزراء، وعلى جري العادة من أيام الاحتلال السوري، ستنخرط السلطة التشريعية بكليتها في السلطة التنفيذية لتبقى المحاصصة الطائفية مُصانة وبعيدة عن المُحاسبة. لكن الأمر الذي خلّف أضراراً إصلاحها ليس بالأمر السهل، هو أن الرئيس عون لم يأخذ المسافة الضرورية عن حزبه، وأكثر ما برز ذلك كان مع وقائع الأشهر الأخيرة التي تُوجت بتكليف الوزير جبران باسيل أموراً أوحت وكأن الرئاسة منوطة به، ومنها تحقيق ما يؤمّن لهذا الفريق منفرداً، الثلث المعطل في مجلس الوزراء، لتحميه من غدرات الزمان! وكل الأمور التي تصارعت حولها المجموعات النيابية قدمت الدليل أن الطبقة السياسية فقدت المعايير الأخلاقية، فلبنان من نهاية عهد الرئيس إميل لحود لتاريخه، أي خلال عشر سنوات ونيف عاش من دون حكومة 1877 يوماً، أي 5 سنوات و52 يوماً انتقلت خلالها الطبقة السياسية بكاملها من همّ البحث عن حماية مستقبل لبنان ودوره ضمن منطقة على صفيح ساخن مشتعلة ومهددة بإعادة رسم حدودها، إلى تأمين أولوياتها المطلقة «حقوقها» الخاصة، ليشهد المواطن اللبناني نماذج من متسلطين يديرون شركات حزبية تقودها شهوة قضم المتيسر من المال العام؛ ما وضع الوطن الصغير أمام انسداد مظلم وغير قابل للحياة، ثم يتحدثون عن نظافة الكف في حين الفساد بلغ أرقاماً فلكية. والفساد له بينهم أم وأب وهو المرآة للقرار السياسي منذ نهاية الحرب الأهلية و«مشرع بالقانون» وفق الرئيس فؤاد السنيورة!

لكن بعيداً عن التراشق الإعلامي والتوتر بين «التيار الوطني» حزب الرئيس عون و«الثنائي الشيعي» والتحريك المشبوه للشارع والمسؤولية عن الانقلاب على تسمية السيد جواد عدرا وزيراً عن «السنة» التابعين لـ«حزب الله» من حصة رئيس الجمهورية (…)، وبعيداً عن الدور الذي يؤديه الوزير باسيل صاحب الطموحات السلطوية الذي أُلبس وحده مسؤولية عرقلة التأليف لأنه يخوض معركة الرئاسة لا الحكومة، فمهما كان دوره وكانت أهدافه لو أراد من يملك القرار فك أسر التأليف لكانت الحكومة تألفت بطرفة عين. لذلك؛ كله وبعيداً عن حكاية تمثيل هؤلاء النواب «السنة»، فإن ما يجري من تعطيل عام ليس جديداً على الحياة السياسية اللبنانية، بل هو جزء من الأدوار الخفية – المعلومة والممارسات المتبعة من 10 سنوات وأكثر بفعل فائض القوة التي يمتلكها «حزب الله» والهدف نقل البلد من حالٍ إلى حال. باختصار شديد بعد حرب عام 2006 قال: «حزب الله» لكل اللبنانيين أن الاستقرار بيده وأنه الضمانة ويريد من الآخرين الإقرار له بثمن حروبه، الإقرار بوضع يده على تأليف الحكومة وقرارها والتحكم بالرئاسة والبرلمان تكريساً لغلبة طائفية.

بالتأكيد لم يشهد لبنان السياسي ورشة لتعديل الدستور أو إعادة نظر بوثيقة الوفاق الوطني، لكن البلد بات يُحكم بالأعراف المستندة إلى ميزان القوى وليس إلى الدستور ومندرجاته. رئيس البلاد هو من يرشحه «الحزب»، وقانون الانتخاب الاستنسابي هو ما يقترحه، رغم أنه لم يكن خافياً على أحد أنه سيمكّنه من الهيمنة على السلطة التشريعية، واستطراداً، يكون تأليف الحكومات وفق أهوائه وتبعاً لأجندته الخارجية، فيتم تقزيم دور الرئيس المكلف ليتولى رئيس الجمهورية بحث عِقد التوزير واقتراح الحلول، وتتسع التدخلات في التأليف ويعرف الرئيس المكلف أن الحكومة التي سيرأس ليست إلا ممثلين عن «لوياجيرغا» القبائل الطائفية اللبنانية، بعدما تكرس منذ اتفاق الدوحة، بضغوط قطرية – تركية بدعة «الثلث المعطل»، وحق التوقيع الثالث، الذي قضى بأن تكون وزارة المالية مكرسة دوماً لفريق «حزب الله» طائفياً!

ما بعد التسوية السياسية في عام 2016 تغير الحال كلياً. بين طموحات استعادة سلطات للرئاسة الأولى عقلنها اتفاق الطائف، وبين سياسة الترهيب لترجمة فائض القوة في القرار العام، تمت إعادة هندسة كاملة للبلد من خارج الدستور أبقت المناصفة بين المسيحيين والمسلمين شكلاً، وعمّقت واقع المثالثة الطائفية عرفياً، وإن تغاضت آنياً عن مطلب استحداث موقع نائب للرئيس يكون من حق طائفة «الولي الفقيه»، بعدما بات «حزب الله» القائد الأوحد للبلد الممسك ليس بقرار السلم والحرب وحسب، بل بكل تفاصيل القرار السياسي والاقتصادي ولا كلمة فوق كلمته فوضع يده على الدولة كصاحب «تكليف» استراتيجي.. وبهذا المعنى لا حكومة إلا بشروطه، أي محكومة بالهيمنة المطلقة على القرار اللبناني، والنتيجة أن الثقة العربية والدولية برئيسها وبالحكم وبالبلد ككل ستتأثر سلباً. هذا يعيد المتابعين إلى محطة التسوية – الخطيئة، فقد كان أمراً غير مألوف الانخراط في تسوية محاصصة مع فريق مسلح، يُعدُّ سلاحه مادة انقسام بين اللبنانيين، ومشروعه أكبر من البلد ومرجعيته طهران، وعندما تدق الساعة فإن موقفه وبندقيته سيكونان في خدمة مشروع الولي الفقيه!

لاعتبارات إقليمية من جهة، ومن جهة أخرى رغبة «حزب الله» إفهام الآخرين تكراراً أنه وحده الآمر الناهي، عاد ملف التأليف إلى نقطة الصفر وتجدد اقتتال أكثر أطراف التسوية السياسية على فتات الدولة يتهالكون على المناصب التي تبيض ذهباً لجني المزيد من المغانم، ولا بأس للبلد الرهينة من الانتظار، فإذا كان متيسراً للحرس الثوري فتح الجسر العسكري البري بين طهران والمتوسط، فإن طموحات النظام الإيراني ووكيله المحلي أكبر من المطروح؛ الأمر الذي سيضفي على الحكومة سمة الغلبة للفريق الممانع، وهذا ما يتحدث عنه يومياً شيوخ «حزب الله»، ولا سيما قاسم، والقاووق، والنابلسي. ليست الأزمة في فصلها الجديد مسألة تأليف حكومة وفق الآليات الدستورية المفترضة، بل إن النقاش المستجد سيتناول الأسماء ووظيفة الحكومة التي ستكون بحق حكومة «حزب الله» الأولى، وبالتالي لا يعود مستغرباً أن تطرح من الآن استراتيجية دفاعية جوهرها تشريع سلاح ميليشيا «حزب الله» أسوة بوضع «الحشد الشعبي» في العراق، وبدء خطوات التطبيع مع النظام السوري ورئيسه وتكريس الأعراف اللادستورية في حكم البلد.