د. منى فياض/مشاهدات حول تظاهرة المطالب الغائمة ذات السترات الصفراء

65

مشاهدات حول تظاهرة المطالب الغائمة ذات السترات الصفراء
د. منى فياض/الحرة/27 كانون الأول/18

قبيل المساء، يلاحظ السائر في شارع الحمرا في بيروت حركة غير اعتيادية. جيش ورجال أمن في أماكن متفرقة. تجمعات مختلفة لشبان ويافعين هنا وهناك، وخصوصا في الزوايا ومفترقات الطرق. بعضهم يلتقي في مجموعات صغيرة ويركض. بعض آخر يقف متحدثا أمام كاميرا التلفزيون، شارحا ومعلقا على الحراك والمطالب. من يراقب حركتهم في الشارع البيروتي الأكثر شهرة، بتنوعه السياسي والثقافي والاجتماعي والديني، أو الذي كان كذلك، ينتابه الشعور أنهم في تجمعهم يبدون كمن يعرفون بعضهم بعضا وينسقون فيما بينهم! يمر شخص قرب فتاة ضمن مجموعة يقول لها شيئا ويكمل كل منهما طريقه. يتجمعون خمسة أو عشرة أو خمسة عشر، يقف بينهم شخص مع سترة صفراء، يبدو وكأنه منسق المجموعة.

علقت سيدة على مجموعة تركض وسط الشارع لصديقتها بتعاطف: أترين كل هؤلاء؟ إنهم من دون عمل.

في أحد المحال المطلة على الشارع، تعلق البائعة الواقفة وراء الصندوق على التحركات في الشارع: سيكسرون ويخربون الدنيا الآن!

أسألها: من تقصدين؟ فترد: هؤلاء الشباب الذين ترينهم. وتردف: ربما أحسن! أسألها أحسن أن يخربوا الدنيا؟ ترد: شايفة الوضع كيف؟ شايفة حالتنا؟ على كل حال إن خربوا الدنيا أو لا، فالوضع سيئ في كل الأحوال. تعليق البائعة هو لسان حال اللبناني الذي لا يعرف ماذا عليه أن يفعل!

هذه التجمعات الشبابية المسائية في الحمرا وفي عين المريسة ورياض الصلح أمام السراي الحكومية؛ هي بمثابة استكمال للتظاهرة الحاشدة التي حصلت في وسط بيروت صباحا وحتى الثانية بعد الظهر حين أعلن المتظاهرون أنهم سيتوجهون إلى شارع الحمرا. هناك أشعلوا النار في مستوعبات القمامة عند وصولهم، وحصلت بعض المناوشات مع قوى الأمن تم استيعابها.

ضمّت تظاهرة الصباح كثيرا من المواطنين العاديين من جميع الاتجاهات، ورفعت مطالبات مختلفة ومنوعة. البعض منهم طالب بإسقاط النظام، كالعادة. كثيرون أعلنوا أنهم اكتووا من ارتفاع الأسعار ومن البطالة وغياب أبسط الحقوق التي يدفعون كلفتها مسبقا من جيوبهم، على شكل ضرائب مرئية وغير مرئية، من دون أن يحصلوا على أي خدمة من التي تؤمنها سائر دول العالم كحق مكتسب.

وجهت الانتقادات في كل الاتجاهات. وصف أحدهم الوضع: “إنهم مثل الدجاج بياكلوا وبيشربوا وبيوسخوا علينا”. وأعلن آخر: “أنا جنوبي حقوقي مضطهدة أكلتها الأحزاب والدولة. بالدولة القوية زادوا البنزين والخبز والناس بتخاف تنزل لأنها بتخاف تضحي بالعشرين دولار”. وأنهى كلامه بشتم المواطنين وأردف و”أنا منهم”.

لوحظ تركيز عدد من المتظاهرين على وحدة اللبنانيين وأنهم لا يريدون الطائفية مشيرين إلى أنهم يعلمونهم أن يكونوا ضد بعضهم وبأن السني عدو الشيعي والدرزي والمسيحي والعكس.

لكن أكثر ما تردد على لسانهم كان مطلب “البطاقة الصحية” وتأمين الطبابة. علقت سيدة “خذوا ما تريدون لكن لا تتركوا أطفالنا يموتون”. فيما أعلنت سيدة أخرى: “نحن لسنا قطعانا، نريد حقوقنا نحن مواطنون وأريد لأولادي أن يبقوا، لا نريد أن نهاجر”. فيما اقترح أحدهم، بعد أن انتقد غياب الدولة أن يوضع النواب والوزراء في المجلس ويقفل عليهم وتقطع عنهم الماء والكهرباء والطعام وكل شيء ويتركون.

اعتبر أحدهم أن التهديد بقطع الرواتب هو “لإلهائنا وإضعافنا كي ننسى حقوقنا ونطالب بمعاشنا فقط. أوصلونا إلى هذه الدرجة ـ يقصد من الذل ـ فمن المسؤول؟”. أعلن كثر أنهم لم ينتخبوا لأن هذه الانتخابات لم تعجبهم وكانت مزورة.

من هنا بدت التظاهرة كأنها تضم الأضداد الذين لم يرغبوا في الإفصاح عن هوياتهم. وفيما اتهموا الجميع بالفساد، لوحظ أنهم ينزهون “السيد حسن” وحده لا غير “الذي لا يعرف أبدا أن جميع من حوله يسرقون وينهبون”.

تعليقات كثر على وسائل الاتصال الاجتماعي أشارت إلى أن التظاهرات تبدو برعاية الطبقة السياسية التي تريد أن تغطي فشلها بتنفيس غضب الشارع ونقمته.

رأى عديدون أن من حق المواطن السعي للمطالبة بالحقوق من السلطة الجائرة الفاشلة. لكن أن يشترك في التظاهر بعض أحزاب السلطة في الوقت ذاته فهو مؤشر إلى عدم براءة التحرك. كما أن التظاهر ضد الجميع فيما “المقاومة خط أحمر” يبدو كتقديم أوراق من الداعين للتظاهر لأحد مكونات السلطة، التي يعترضون على أدائها. وهو الطرف الذي تشير جميع العلامات إلى مسؤوليته الحصرية عن التعطيل. والتظاهر في العادة يحصل لمطالبة الحكومة بتحقيق المطالب، فأين الحكومة؟ ومن يطالبون؟ في حين أن الطرف المعفى من المساءلة يمنع تشكيل الحكومة تحديدا!

إن الانطباع الذي يتأكد مع الوقت، أن من بيده الحل والربط في لبنان، هو من يعفى من المساءلة. إنه الطرف الذي يطلق على نفسه لقب “المقاومة”.

من يتابع حركة الشارع اللبناني يخرج بانطباع بوجود شيء ما حقيقي يتحرك، وأن الناس تعاني حقا. أفلتت من بعضهم ومن “الرقيب” عبارات مثل: “الضاحية احترقت بالمخدرات… حلّوا عنا. المحاكم فساد. القضاء فساد. كله فساد”. ونقل عن أحدهم: “انتخبت محمد رعد وبس احترق بيتي طلعت لعنده زعبني (طردني) شو هال…”. لم ينتبه إلى أن مطرب “محاكم التفتيش” علي بركات وأشباهه كانوا من الدعاة للتظاهر.

تبدو الأمور مختلطة حتى لو “حزب الله” أو غيره محركها، وقد تتجه بأي اتجاه آخر. لا ندري ما إذا كان “حزب الله” يخطط أيضا لهذا الشيء الآخر، أي كي تتفلت الأمور. قد يكون هذا من مصلحته، فهو يريد ضمنا قلب الطاولة على الجميع لإعادة النظر باتفاق الطائف.

وقد يكون هدف هذه التحركات الضغط على وزير الخارجية جبران باسيل في ضوء التسريبات التي تخرج إلى العلن أو ينقلها بعض الصحافيين القريبين من “الحزب” رغم نفيه لذلك، حول تناقض المواقف بين “حزب الله” وباسيل كمنفذ لسياسات العهد.

يعتبر البعض أن العقدة تكمن في أن الوزير باسيل، رئيس التيار الوطني (حزب رئيس الجمهورية القوي) الراغب بقوة بترؤس الجمهورية بعد انتهاء ولاية عمّه، يريد الحصول على الثلث المعطل. بينما لا يرغب حليفه “حزب الله” بذلك، ربما لأنه لا يثق به.

ناهيك عن عقدة سنّة “حزب الله” التي يبدو الغرض منها المجيء برئيس حكومة ضعيف ومقصوص الأجنحة. ويربط بعض آخر بين التعطيل وبين القمة الاقتصادية العربية في كانون الثاني/يناير.

وتأتي هذه التحركات في ظل الضغط الممارس من قبل طهران في مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية. وتجاهر طهران بأنها حصلت على نصف مقاعد البرلمان اللبناني لصالحها، وتتخذ لبنان صندوق بريد لمجابهة العقوبات.

في هذا الوقت لوحظ أن التحرك طال عددا من المناطق والمدن. لذا قد يكون كل ذلك ـ بتحفظ ـ بداية انفجار البركان والانزلاق نحو العنف. فالسيناريوهات الممكنة متعددة وهي مرتبطة بالتطورات الإقليمية والدولية وبكيفية تفاعل الداخل معها.

نقل أحد الأصدقاء كلام أحد زملائه العراقيين تعليقا على التحركات اللبنانية:

” ـ مش قلت لك إحنا السباقين وانتو اللاحقين؟

ـ ما فهمت قصدك عن شو عم تحكي؟

ـ عن السياسة يابا.. بكرا تدخلون في دوامة التظاهرات المجهولة التي تقتحم الإدارات والوزارات وما حد يقدر يوقفها غير المرجعيات.

ـ بس نحنا شعب متعدد الطوائف والمذاهب.

ـ وإحنا أيش كنا عاد؟”.

هل دخلنا دوامة الفوضى؟