حازم صاغية/نقلاً عن موقع درج: الصراع على الزعامة الدرزيّة في لبنان

78

الصراع على الزعامة الدرزيّة في لبنان
حازم صاغية/نقلاً عن موقع درج/18 كانون الأول/18

في الخمسينات والستينات، بدت الزعامة الدرزيّة موزّعة بين رأسين يستلهمان الانقسام العصبيّ القديم إلى جنبلاطيّين ويزبكيّين: كمال جنبلاط، الذي باشر حياته السياسيّة حليفاً شابّاً لإميل إدّه و”الكتلة الوطنيّة” المتّهمَين بمحاباة فرنسا، ومجيد أرسلان، المنتسب إلى “الكتلة الدستوريّة” التي أسّسها بشارة الخوري وأُخذت عليها وعليه “إنكليزيّتهما”. جنبلاط كان يقف على رأس الجنبلاطيّين، وقاعدةُ قوّته الشوف. أمّا أرسلان، وإن كانت عائلته جنبلاطيّة بحسب الانقسام التقليديّ، فيتزعّم اليزبكيّين في عاليه ومحيطها.
الزعامتان، المتفرّعتان عن أصول اجتماعيّة أساسها ملكيّة الأرض، تطوّرتا على قدر من التوازي. زعيم الشوف وجد في شبلي العريان حليفاً وامتداداً لزعامته في راشيّا. زعيم عاليه وجده في منافسه سليم الداوود. الأوّل “عطف” على الشيوعيّين (مع أنّه في شبابه الأوّل غازل القوميّين السوريّين). الثاني على القوميّين.
احتكار الزعامة الدرزيّة هذا كان سبباً لاحتقان وغضب دائمين يصيبان آخرين. الغاضبون شبّان في الطائفة لمسوا في أنفسهم جدارةً مصدرها العلم أو الثروة، لكنّهم رأوا أيضاً أنّ الوجهين التقليديّين يسدّان الأبواب عليهم: الأستاذ الجامعيّ بشير العريضي قضى عمره يخوض الانتخابات النيابيّة ضدّ “الإقطاع” ويرسب. المحامي عصام نعمان اختار طريقاً التفافيّة عبر حزب البعث انتهت به، وهو مُحبَط، إلى حزب جنبلاط، التقدّميّ الاشتراكيّ. المليونير نجيب صالحة حاول أن يستخدم التمايز النسبيّ لمنطقته، المتن الجنوبيّ – بعبدا، ذات الأكثريّة المارونيّة، فيفاوض الزعيمين من موقع قويّ نسبيّاً.
الشركاء في الاحتقان والإحباط كانوا المسيحيّين. هم، في الشوف وعاليه، أكثر عدداً وتعلّماً وثراء، لكنّ الزعامة لا بدّ أن تكون في يد قطب درزيّ. هذا “القدر”، الذي لا رادّ له، أسّس مظلوميّة مسيحيّة في الجبل كان كميل شمعون أبرز الناطقين بلسانها والمتمرّدين عليها، كما أبقى ذاكرة القرن التاسع عشر حيّةً، لا تكاد تخبو حتّى تشتعل.
المرارة المسيحيّة كانت في الشوف أشدّ منها في عاليه: ذاك أنّ مجيد أرسلان ليس ذاك المناوىء للرئيس المارونيّ الذي كانه كمال جنبلاط. إنّه، على العكس، حليف الرئيس الدائم، وبالتالي حليف المسيحيّين في العاصمة – المركز. وإذا كان سيّد الشوف، أقلّه منذ أواسط الخمسينات، صاحب خيارات عربيّة لا يستسيغها المسيحيّون، فإنّ سيّد عاليه لم يملك ترف الخيارات التي تتعدّى قضاءه أو فضولها.
بين “البك” و”المير”
الفارق بين الزعيمين لم يكن بسيطاً: فجنبلاط ديناميكيّ، له، وإن بطريقته الخاصّة، مداخلات ومواقف تبدأ بأديان الهند ولا تنتهي بفلسفات اليونان وأوروبا، وله كذلك جولات تحمله إلى دمشق والرياض والقاهرة وموسكو، ومنذ أواخر الستينات غدا، هو الآخر، يملك سهماً في “تحرير فلسطين”. في بداياته كان واحداً من رموز النخبة الجبليّة واللبنانيّة الناطقة بالفرنسيّة، والتي وجدت مصنعها ومنبرها في “الندوة اللبنانيّة” لميشال أسمر. بعد حين، بات يؤسّس الجبهات “الوطنيّة” و”التقدّميّة” التي توسّع نطاق طائفته الصغيرة العدد وتكبّر نفوذها. أمّا الطموح الذي استبدّ به فأقنعه أنّه يستحقّ أكثر ممّا يستحقّ “فلاّحونا” الموارنة الذين لا بدّ أن يكون منهم رئيس الجمهوريّة.
زعامة جنبلاط درجت، بالتالي، على أن تردّ الصاع صاعين للرئيس المارونيّ، فتقدّم نفسها عابرة للطوائف من غير أن تُخفي استهدافها لطائفة واحدة يُراد تصغيرها واستصغارها، هي طائفة الرئيس
لقد اجتمعتْ في يده زعامة التقليد وزعامة التجديد: طائفته المحافظة منحتْه ناصية الزعامة الأولى. الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، ومن ورائه موسكو السوفياتيّة، بايَعَاه على الزعامة الثانية التي سبق أن أسّس لها حزباً يحاول الظهور بمظهر حديث. في الانتخابات النيابيّة، بات لجنبلاط وحزبه مرشّحون، ولو أنّ معظمهم رمزيّون، في بعلبك والجنوب وطرابلس، وكان له نائب في بيروت هو فريد جبران، ونائب آخر يتقاسمه مع صائب سلام هو نسيم مجدلاني، والاثنان مسيحيّان. ولئن بنى عدوُّه كميل شمعون، حين كان رئيساً، مواقع له داخل الطائفة الدرزيّة، كبشير الأعور وفضل الله تلحوق وقحطان حماده، فقد اقتطع جنبلاط لنفسه مواقع داخل الطائفة المارونيّة نفسها، وكان بعض مَن اقتطعهم، كفؤاد عمّون وفؤاد الطحيني، من أبناء بلدة شمعون، دير القمر.
زعامة جنبلاط درجت، بالتالي، على أن تردّ الصاع صاعين للرئيس المارونيّ، فتقدّم نفسها عابرة للطوائف من غير أن تُخفي استهدافها لطائفة واحدة يُراد تصغيرها واستصغارها، هي طائفة الرئيس. في وجه المرشّح المارونيّ للمنصب الأوّل كان يرشّح “المناضل الوطنيّ” جميل لحّود ثمّ يسحبه، وحين يكون اسم المرشّح سليمان فرنجيّة أو الياس سركيس، كان يُخضعه لامتحان. لقد عامل “البكُ” نفسه كرئيس ظلٍّ مستعدّ دوماً للقفز إلى الضوء الذي يرفل فيه مارونيّ مشكوك باستحقاقه له.
المير مجيد إرسلان عام 1964
أرسلان، في المقابل، كان بطيئاً وضيعويّاً. لقد بدا، بطربوشه وشاربيه، كأنّه يمثّل التاريخ في الحاضر ويستحضر الفولكلور إلى الواقع. يضيّق الطائفة إلى حدود قصره في خلده. يكفيه أنّ لائحته تفوز كلّها في انتخابات عاليه، فهذا “أكثر ممّا نستحقّ”. وهو لم يُعرَف بمزاعم علميّة أو فكريّة كالتي وُصف بها، على نطاقين عربيّ وإسلاميّ، قريباه الأخوان شكيب وعادل أرسلان. منطقته عالمه والعالم في عرفه كتلة عتم وغموض. دوره، كـ “بطل الاستقلال” ثمّ كوزير دفاع لبلد مسالم، أسبغ عليه صورة “القبضاي” القديم، وهيئةَ القويّ الذي تُعامَل قوّته كأمر واقع يخضع للتكريم ولا يخضع للاختبار.
هكذا تأدّى عن الضعف القياديّ في زعامة البيئة اليزبكيّة نموّ الحزب السوريّ القوميّ فيها وتمدّده في عائلاتها. حتّى لوائح أرسلان الانتخابيّة نفسها ضمّت وجوهاً كتلحوق وإميل مكرزل، وهما شمعونيّان أكثر منهما أرسلانيّين، كما ضمّت منير أبو فاضل، وهو شهابيّ أكثر منه أرسلانيّاً، ناهيك عن خليل – بشارة – الخوري بوصفه ابن أبيه قبل أيّ اعتبار آخر. زعامة “المير” كان يعصف بها القلق والتردّد على عكس الثقة الذاتيّة المفرطة التي استوطنت الزعامة الجنبلاطيّة. الأولى كان كلّ جديد يهدّدها. الثانية كانت تزعم أنّها مصدرٌ لكلّ جديد.
انتخابات 72
على مدى الستينات، أمكن للزعامتين أن تتساكنا، بقليل من التوتّر وكثير من اللياقات، تحت سقف الخيمة الشهابيّة: جنبلاط سيّد الشوف بلا منازع. في مواجهته أُسقط المرشّح كميل شمعون في انتخابات 1964. مع هذا فتمدّده في اتّجاه عاليه غير مسموح به إلاّ رمزيّاً. يحقّ له أن يرشّح المحامي الاشتراكيّ شكيب جابر في مواجهة اللائحة الأرسلانيّة، لكنّ الفشل بفارق كبير سيكون مضموناً.
أرسلان، بدوره، مُعزّز مُكرّم في عاليه، أمّا أن يتقدّم نحو الشوف فهذا ما لا يحتاج شهاب إلى ردعه عنه لأنّه هو نفسُه يردع نفسَه. لقد رأت الشهابيّة فيه نافذة لا بأس بإبقائها مفتوحة على شمعون، وربّما عصا يمكن التلويح بها لجنبلاط حين تنفجر فيه العَظَمة أو تستعصي على الضبط.
من اليمين: كمال جنبلاط، بيار الجميل، ياسر عرفات، صائب سلام
لكنْ مع تصدّع الشهابيّة واحتدام التناقضات اللبنانيّة بأنواعها كافّة، ضرب كمال جنبلاط “ضربة معلّم” وحّدت الطائفة سياسيّاً للمرّة الأولى. آثار ذاك الإنجاز تجلّت لاحقاً، في “حرب الجبل” التي اندلعت بعد سنوات ستّ على اغتياله.
ففي 1972 تشكّلت في عاليه لائحة مشتركة برئاسة “المير” ورعاية “البك”، استُبعد منها الشمعونيّون العتاة كتلحوق ومكرزل، وحلّ محلّهم “معتدلون” كالدرزيّ توفيق عسّاف والمارونيّين بيار حلو وشفيق بدر، فضلاً عن الأرثوذكسيّ أبو فاضل. ولائحةٌ تجمع بين “المير” و”البك” هي حتماً “لائحة الدروز”. اللائحة المقابلة ضمّت تلحوق ومكرزل وصاحب جريدة “النهار” غسّان تويني والسوريّ القوميّ عصام العريضي. الأخيرون تحدّثوا كثيراً عن “دور الشباب” و”مكافحة الإقطاع”، غامزين من قناتي جنبلاط وأرسلان، وكانوا كلّما تحدّثوا يؤكّدون للدروز أنّهم “لائحة مسيحيّين”.
عامذاك بدت المواجهة الانتخابيّة أقرب إلى استنفار عصبيّ تبيّن لاحقاً أنّه تمرين مبكر على حرب أهليّة مقبلة. لائحة أرسلان – جنبلاط فازت كلّها بطبيعة الحال.
الأمر انعكس على مشيخة العقل. فبعدما قسّم خلافُ الزعامتين “العقلَ” بين شيخين، واحد جنبلاطيّ هو محمّد أبو شقرا، وآخر يزبكيّ هو رشيد حماده، توافق الطرفان، مع رحيل حماده في 1970، على أبو شقرا. لقد بدا الدروز موحّدين في الدين والدنيا.
موارنة وعلويّون
في 1977، وباختتام “حرب السنتين” على هزيمة “المقاومة الفلسطينيّة” و”الحركة الوطنيّة”، ومع دخول قوّات الردع السوريّة إلى لبنان، اغتيل كمال جنبلاط على مفرق بعقلين – دير دوريت. حاجزٌ للأمن السوريّ اغتاله، لكنّ مسيحيّي دير دوريت هم الذين عوقبوا. حصل ذلك بقسوة دمويّة لن يقلّل من هولها إلاّ الدم الذي سيسيل في الجبل بعد سنوات قليلة. لكنّ رحيل كمال والمأسويّة التي اصطبغ بها صلّبا الوحدة الدرزيّة الناشئة: “المير” الذي يقارب السبعين باتت تخذله همّته. المتذمّرون الدروز من “التورّط” في “حرب السنتين” وتكبُّد أكلافها “كرمى للفلسطينيّين” – وهم موظّفون وأصحاب مصالح زراعيّة وتجاريّة وحِرَفيّة صغرى – طووا تذمّرهم أمام هول الفاجعة وساروا في الجنازة المهيبة.
إلى ذلك، تكشّف الوارث الشابّ، وليد جنبلاط، عن استثمار بالغ النجاح في مكائد السياسة اللبنانيّة. فهو ذهب بعيداً في مبدأ الواقع حتّى استغنى به عن كلّ مبدأ. لقد نفض عنه “الوطنيّة” و”التقدّميّة” وسواهما، وتخفّف من الهموم التي وجدت مَن يصفها بـ “الفكريّة” و”الفلسفيّة” لوالده، مُركّزاً على وحدة الطائفة في ظلّه. ذاك أنّ حجم الدروز وموقعهم حيال الطوائف الأخرى يستدعيان منه أن يستخدم الأفكار والنظريّات انتقائيّاً وبالمفرّق، مانعاً الذاكرات من أن تكون قويّة، ومُجتثّاً كلّ شعور بالذنب قد ينشأ عن قوّتها.
وبالفعل بدا الوريث شديد الاستعداد لأن يكون أشياء كثيرة في وقت واحد، من دون أن يُخلّ بنظام في الأولويّات تنتجه السيطرة على الذاكرة وتستدعيه توازنات القوى. وهو اختار أن يبدأ بالموارنة الذين لم يقتلوا أباه، مُضطرّاً، لإنجاز هدفه، أن يحالف النظام السوريّ الذي قتله، وأن يحالف معه كلّ راغب في التحالف.
والحقّ أنّ انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة، في أعقاب الاجتياح الإسرائيليّ وبفعله، أشعل وليد جنبلاط. ذاك أنّ “القوّات اللبنانيّة” سريعاً ما سعت إلى ترجمة الواقع البيروتيّ الجديد في الجبل: “فليصعدْ إليه مَن هُجّروا منه في حرب السنتين أو إبّان مذبحة دير دوريت. لقد تمّ تهجيرهم بالقوّة، وبالقوّة سوف يعودون”. وهذا بالفعل ما مارسه أنصار بشير بفوريّة وبإلحاح وفظاظة تخبّىء فيها مكبوت التاريخ الضخم. وهم، فيما كانوا يطلبون حقّاً مؤكّداً، بدوا لا يرغبون إلاّ بكسر شوكة الدروز وإذلال مجتمعهم التقليديّ المتباهي.
مذبحة كفر متّى حين قُتل العشرات، وفي عدادهم الشيخ مسعود الغريب، كانت من أفظع أعمالهم. ولأنّ الغريب، المتقدّم في السنّ والمكانة، يزبكيٌّ انتقل إلى بكفيّا كي يهنّىء الجميّل بانتخابه فكافأه البشيريّون بالموت، بدا قتله قتلاً لكلّ درزيّ، خصماً كان أم حليفاً. هكذا استجاب الدروز لرغبة أعدائهم التي عاملتْهم كأنّهم واحد، فهبّوا كواحد، وكواحد فجّروا في وجوههم فائض التاريخ وضيق الجغرافيا.
لقد فعل الابن ما لم يستطع والده أن يفعله. إنّه، كما قيل بحقّ، قتل فرويديّ للأب، بل قتل لأبوين في وقت واحد
لكنْ إلى سياسات الطوائف وأحقادها ربّما انضافت أسباب تتّصل بوليد جنبلاط نفسه صانعةً حساسيّته الفائقة حيال بشير الجميّل. فالأخير، الذي لا يكبره إلاّ بعامين، صار رئيساً وهو في الخامسة والثلاثين. ثمّ إنّ اسم “بشير” قد يذكّر بشياطين التاريخ والعائلات في جبل لبنان، والذي حلّ في قلبه “صراع البشيرين”، كما أقام التماهي العاطفيّ مع مأساة بشير جنبلاط التي أنزلها به “حليف النصارى” وربّما “النصرانيّ بالسرّ” بشير شهاب. ولربّما قرأ وليد جنبلاط “وصيّة” أبيه التي خطّها في سنته الأخيرة، فكال فيها للعلويّين والموارنة نعوتاً عنصريّة لا تبزّها إلاّ المؤامرات الجهنّميّة المنسوبة إليهم. وبشير، بعد كلّ حساب، طارىء شعبويّ لا يستسيغه ورثة العهد القديم وأريستوقراطيّوه. بيد أنّ التعالي على شعبويّته قد لا تحول دون الغيرة من شعبيّته التي صنعها بيديه ولم يأتِه منها، عبر الوراثة، إلاّ القليل.
في الحالات كافّة، قرّر جنبلاط أن ينتقم من الموارنة وأن يتقرّب من العلويّين، في انتظار أن يقضي الله أمراً.
الابن الذي صار أباً
هناك، في البيئة الدرزيّة، غاب المنافسون. أمّا الحداد المديد والمكتوم على كمال جنبلاط فكان يزيد في تعطيل المنافسة وإطفاء طموح الطامحين. فيصل مجيد أرسلان حاول مبكراً، لكنّه ذهب ضدّ التيّار، وهو أعزل من كلّ شيء تقريباً. وبينما كانت “يا غيرة الدين” الدرزيّة تنطلق صرخةً تشقّ السماء، والمُسنّون يزيّتون البنادق التي احتفظوا بها منذ 1958، اختار فيصل تلك اللحظة ذاتها كي يمتّن صلته بالرئيس المنتخب بشير الجميّل. لقد ارتكب الخطأ الفادح الذي قضى عليه سياسيّاً، سيّما وقد قضى بشير نفسه بانفجار الأشرفيّة بعد أيّام على انتخابه.
طلال، أخوه الأصغر غير الشقيق، استُدعي إلى الواجهة، لكنّه بدا مُلحَقاً بسيّد المختارة الجديد، يسأله ويقلّده ويتعلّم منه. ووليد من أمٍّ أرسلانيّة، هي ابنة شكيب أرسلان، فيما طلال من أمٍّ جنبلاطيّة. لكنّ مصائر الآباء تبقى أشدّ تأثيراً من أصول الأمّهات. وبموجب الحسبة الأبويّة التي لا يُعتدّ إلاّ بها في مجتمعاتنا، كان الحدثُ رحيلَ “المير” الأب في 1983. لقد تبدّى أنّ تدريب طلال قد لا يثمر فيما الزعامة اليزبكيّة كلّها محاطة بعلامة استفهام.
كمال جنبلاط عام 1976
لحظتذاك، كان ممنوعاً على الميّت أن لا يكون شهيداً. معادلات تلك الحرب الفنائيّة صاغها الشاعر الزجليّ الدرزيّ طليع حمدان في ملحمة نقّلت ملاك الموت بحيث زار القرى الجبليّة قريةً قرية كأنّه يطهّر الطبيعة من أدرانها. هكذا ضُمّ “المير” الأب إلى قائمة الشهداء دفاعاً عن طائفة يقودها على الأرض وليد جنبلاط.
اليزبكيّة بدا كأنّها ماتت. وليد بدا وارث الأبوين. طلال كان يتكشّف عن بطء لا يصمد أمام أحداث بالغة السرعة وبالغة الحدّة في آن معاً.
في حرب الجبل تلك حُلّل كلّ شيء. فطلباً للبقاء، أو ما توهّمه الدروز كذلك، استُلّ من معطف قديم لكمال جنبلاط تحالفه مع الفصائل الفلسطينيّة المسلّحة، وأُلصق به تحالف مع القوّات السوريّة يغسل يديها من دماء الأب، كما عُطّل التحالف المارونيّ – الإسرائيليّ بتحالف درزيّ – إسرائيليّ مقابل. العمل جرى دائماً على القطعة، لكنّ النتيجة أتت باهرة بالمجمل. لقد فعل الابن ما لم يستطع والده أن يفعله. إنّه، كما قيل بحقّ، قتل فرويديّ للأب، بل قتل لأبوين في وقت واحد.
صوت النوايا
بحلول الوصاية السوريّة، طوّر وليد جنبلاط ثنائيّ الظاهر والباطن. في الظاهر، مضى حليفاً وطيداً لـ “سيادة الرئيس حافظ الأسد”. ما يصدر عنه خلطة مرغوبة من عروبة وإسلام وفلسطين زُيّنت بالاشتراكيّة والتحرّر الوطنيّ، واستلهام لجدّه من جهة الأمّ شكيب أرسلان، ولسنوات أبيه الممتدّة من أواسط الخمسينات حتّى لحظة الخلاف مع القيادة السوريّة.
في هذه الغضون وطّد، بالتفاهم مع رموز الوصاية، زعامته ومواقعه. فعل ما كان يفعله باقي سياسيّي تلك الحقبة، من رفيق الحريري إلى نبيه برّي ومن سليمان فرنجيّة إلى ميشال المرّ وعصام فارس. سهر على الوحدة الدرزيّة باختيار مرشّحيه، في الشوف وباقي الأقضية، من اليزبكبّين ومن عائلات ليست معروفة بأيّ هوى جنبلاطيّ، كحماده في بعقلين وشهيّب في عاليه والعريضي في بيصور… اختياراته هذه نمّت عن براعة عالية في خدمة الهدف: كلّ شيء للحفاظ على وحدة الدروز في ظلّه.
ميوله تلك وجدت ما يعزّزها في طبيعة المرحلة: فإبّان الطائف وبُعيده، انهار الاتّحاد السوفياتيّ ومعسكره وراج كلام كثير ومتسرّع عن نهاية الإيديولوجيّات من كلّ نوع. حافظ الأسد نفسه ما لبث أن قاتل بقيادة الأميركيّين في الكويت. من جهة أخرى، ولدت الحريريّة في لبنان. مطبعة نقودها راحت تعمل بكامل طاقتها. النتيجة كانت: لا معنى لأيّ مبدأ، والشاطر بشطارته.
أمّا الله الذي كانه حافظ الأسد، ومعه حزب الله، فكانا يسمعان نوايا وليد جنبلاط مثلما يسمعان نوايا رفيق الحريري
ووليد كان شاطراً. نظام الوصاية مدّه بالخدمات والمنافع الكثيرة كما كيّف القوانين الانتخابيّة بما يخدم نفوذه. لقد رُسم واحداً من أعمدة النظام الجديد الذي هُمّش فيه الطرفان المهزومان، المسيحيّون والفلسطينيّون. التفاؤل الكاذب، الذي تبادله الجميع، أشاع أنّ الكلّ في عرس مفتوح، وأنّ الحرب لم تنشب أصلاً.
أمّا في الباطن فالأمر اختلف. ذاك أنّ عالم الطائف لم يكن، لوليد جنبلاط، كلّه عسلاً. إنّه يُملي عليه المضيّ في النسيان الصعب، كما يُبقي تجاوز الأب ناقصاً مثلوماً بالخجل من دم القتيل. فوق هذا، سيكون مُمضّاً على سليل البكوات والأمراء الذي من عاداته قول أيّ كلام يخطر له، والجلوس برِجلين ممدودتين إلى أقصاهما في حضرة أيٍّ كان، أن يتكتّف أمام ضابط متواضع المنبت صار وصيّاً عليه.
إلى هذا، غيّرت الطائف المعنى المألوف للسياسة، وغيّرت مبناها. فالسياسة كانت، وفقاً لتجربة الجبل، ما يدور بين الموارنة والدروز حرباً وسلماً وبين بين. وفي غالب المرّات قضى التاريخ بأن ينتصر الدروز في القتال ثمّ ينتصر الموارنة في السياسة. هكذا يروح الموارنة يبكون قتلاهم ويروح الدروز يشكون استبعادهم. هنا، مع الطائف، فُعّل “لبنان الكبير” – الذي كرهه كمال جنبلاط الشابّ – للمرّة الأولى، بيد عسكريّة وسوريّة. لقد أُدخل الشيعة في المعادلة من أعرض الأبواب: أُدخلوا بوصفهم الطرف القادر على إحراز النصر العسكريّ ضدّ الموارنة والدروز معاً، والطرف الذي يملك شرعيّة مقدّسة في السياسة اسمها المقاومة.
إذاً اللعب بالنار مع الموارنة غيره مع الشيعة.
أمّا الله الذي كانه حافظ الأسد، ومعه حزب الله، فكانا يسمعان نوايا وليد جنبلاط مثلما يسمعان نوايا رفيق الحريري. ذاك أنّ البراعة الجهازيّة في التنصّت تطال، بموجب ثقافة الشكّ بكلّ آخرٍ، نوايا الآخرين. هكذا اتُّبعت سياسة مزدوجة مع وليد جنبلاط ومع رفيق الحريري ذي الولاء غير المضمون لأنّه سنّيّ “أكثر ممّا يجب” وسعوديّ “أكثر من اللازم”. مفاد تلك السياسة الدعم في مركز الزعامة والقضم في أطرافها. إنّه القضم الذي يُناط به تنبيه تلك الزعامة إلى حدودها.
وللعمليّة هذه، استُخدمت تعديلات جينيّة تكبّر أعضاءً بل تلد كائنات: طلال أرسلان ينبغي تكبيره بعد سحبه إلى خارج المظلّة الجنبلاطيّة. آل الداوود ينبغي تعزيزهم. القوميّون السوريّون ينبغي بعثهم إلى الوجود. وجوه جديدة، كالصحافيّ وئام وهّاب، ينبغي الاعتناء بهم.
على نحو منظّم ودؤوب، قدّم نظام الوصاية دعمَه لمَن همّشتْهم، أو تجاوزتْهم، وحدة الدروز إبّان حرب الجبل. أكثر من هذا، خلق النظامُ المذكور، ممّا يقارب العدم، قوىً أنعشَ تفتّتُ المجتمع اللبنانيّ طموحَها. الرغبة المعروفة عند وجهاء القرى الصغار أن يصبحوا وجهاء أكبر عزّزت ذاك الطموح.
قليلون جدّاً مَن صدّقوا أنّ السخاء الذي يُبديه نظام الوصاية سببُه “مصلحة لبنان”، أو “عروبته” أو “ديمقراطيّته”، أو أنّ هدفه إيجاد توازن أكثر صحّيّةً بين الطوائف أو في داخلها. أمّا الدائرون على مضض في فلك الوصاية، وجنبلاطُ يومها أبرزهم، فكانوا أكثر مَن يدركون ما تُبيّته الأفعال “الأخويّة”.
هكذا، ما أن انسحب الإسرائيليّون من طرف واحد، عام 2000، مُعطّلين حجّة النظام السوريّ للبقاء، حتّى طالب وليد بـ “إعادة تموضع القوّات السوريّة” في لبنان. بعد أشهر، قفز إلى “مصالحة الجبل” التي شاركَه صنعَها البطريرك المارونيّ نصر الله صفير.
“المصالحة” هذه بدت من جنس التصعيد. لاحتْ بمثابة مراجعة ضمنيّة لتاريخ طائفيّ ولتحالفات سياسيّة، لكنّها انطوت أيضاً على مراجعة لفهمٍ ثبّتَه، بطريقة عوجاء، اتّفاق الطائف. مفاد المراجعة إعادة الاعتبار لأولويّة الجبل بوصفه صانع “لبنان الكبير” وأساسَه. التهليلُ لتلك “المصالحة” حرّك ارتياب المرتابين بجنبلاط في دمشق. الشيفرة لم يكن فكُّها صعباً.
حافظ الأسد كان، في هذه الغضون، قد مات. ابنه بشّار حلّ محلّه. غازي كنعان، بوصفه الوالي الأمنيّ والعسكريّ على لبنان، استُبدل برستم غزالي. الأعمار باتت أصغر والرُتَب أدنى والخبرات أقلّ، والإهانة حين تصدر عن طاقم أقلّ إحرازاً للاعتراف به تغدو أشدّ إيلاماً للمُهان. وبدوره، فالتمديد لإميل لحّود، الذي لا يُشتهى رئيساً لبلدٍ عدوّ، إهانة كبرى.
صوت النوايا المسموع
مع اغتيال رفيق الحريري في 2005، بعد ترشيح وليد جنبلاط للاغتيال، وإثر محاولة اغتيالٍ كادت تودي بمروان حماده، أحد أبرز أقطابه، سُمع صوت النوايا الجنبلاطيّة المكبوتة. لقد سُمع عالياً وجهيراً. فطولُ مدّة الكبت وطولُ زمن الاضطرار إلى الظهور بما يعاكس الرغبة جعلاه أقوى أصوات المعارضة التي ما لبثت أن عُرفت بـ 14 آذار. هكذا جاء النقد الذي عبّر عنه أقربَ إلى الشتيمة، وجاء النقض الذي أقام فيه أقربَ إلى التشهير. لقد استضافتْ خطبُه في هجاء الأسد قاموساً غير معهود في السلاطة عادلَ قاموس المدائح التي كان مُجبَراً على كيلها. لقد بدا لوهلة شبيه نفسه كما لم يشبهها في عهد الوصاية.
بشّار الأسد، الذي سحب قوّاته من لبنان مُهاناً ومهزوماً، لاحقتْه شتائم جنبلاط إلى دمشق. حزب الله بات هو الفاعل في الشأن اللبنانيّ بعدما كان، في عهد الوصاية، نائب الفاعل. أمّا وليد، الذي ملأ الفراغ في قيادة 14 آذار، فصار المرجع القياديّ الأوّل لأكثر من ثلثي اللبنانيّين.
مع هذا، فرملَ “البك” فجأةً وجهة المصالحة مع المسيحيّين حين تنبّه إلى “مخاطر” عودتهم إلى الواجهة. أشباح الماضي ضربت من جديد. ذاك أنّ خروج سمير جعجع من السجن ورجوع ميشال عون من فرنسا أيقظا هاجس “الفلاّح المارونيّ” الضارب في القرن التاسع عشر، وأغْرَيَا باحتمال التعايش مع “الفلاّح الشيعيّ” المسلّح الذي مثّله حزب الله. الحكمة الضمنيّة كانت أنّ المارونيّ قريب في الجبل بينما الشيعيّ بعيد في لبنان.
هكذا نشأت الفكرة الخرقاء عن “تحالف رباعيّ” في انتخابات 2005، يضمّ إلى جنبلاط وحزبه كلاًّ من سعد الحريري وتيّار المستقبل، ونبيه برّي وحركة أمل، وحزب الله نفسه.
المسيحيّون كان من الطبيعيّ أن يشعروا بأنّ الزعيم الدرزيّ لا يزال يفضّل الخصومة القديمة لهم على الصداقة الجديدة معهم. إنّه، بهندسته “التحالف الرباعيّ”، لا ينوي إلاّ التمديد للهامشيّة التي عانوها في الحقبة السابقة. لقد بدا المطلوب، في نظر جنبلاط، إدامة التوازنات التي سادت عهد الوصاية السوريّة لكنْ من غير أوصياء سوريّين.
والحال أنّ حسّ الواقع، مُصاغاً بحسابات أقلّيّةٍ شكّاكة، وزاخراً بتاريخ من التناحر، كان يجعل العواطف كلّها ناقصة أو مزدوجة، تقيم فيها المكائد المتبادلة والخطط الملتوية. وبعد كلّ حساب، لم يكن انقضى على حرب الجبل سوى عشرين عاماً، وكان دروزٌ كثيرون ومسيحيّون أكثر لا يزالون يتقبّلون التعازي بضحاياهم.
في الحالات كافّة اندفع مسيحيّون، ممثّلين بالتيّار العونيّ، نحو حزب الله، وهم اندفعوا إلى أبعد ممّا اندفع جنبلاط، مُنشئين “تفاهم مار مخايل”. أمّا الحزب الإلهيّ، الذي ربّما توهّم “البك” فصله عن دمشق، أو عوّل على ترشيده عبر صديقه نبيه برّي، فضاعف التصاقَه بدمشق، ساخراً من رهانات قرويّة لا تفهم المنطقة وأحلافها الإقليميّة العابرة الحدود.
وبين حساسيّتين، واحدة جبليّة ومسيحيّة وأخرى لبنانيّة وشيعيّة، انتهى جنبلاط خاسراً على الجبهتين. فقد تلاحقت الضربات الصغرى داخل الطائفة: أعلن وئام وهّاب، تأسيس “تيّار التوحيد اللبنانيّ”، ولاحقاً “العربيّ”، مُقلّداً ما سبق أن فعله طلال أرسلان في 2001 بتأسيسه “الحزب الديمقراطيّ اللبنانيّ”. وكان وهّاب انتسب في شبابه إلى جنبلاط وحزبه، ثمّ انتقل إلى أرسلان وحزبه، من دون أن يقتصد في عقد الصلات يمنةً ويَسرة. أمّا في البقاع الغربيّ فظهر حزب لا يعوز اسمَه التواضعُ هو “حركة النضال اللبنانيّ العربيّ” بزعامة فيصل الداوود. وأرسلان ووهّاب والداوود، ومعهم القوميّون السوريّون من دروز وغير دروز، لم يُخفوا هواهم الأسديّ، وارتباطهم، على نحو أو آخر، إمّا بحزب الله أو بميشال عون أو بالاثنين معاً.
أهمّ من ذلك كان ما شهدته مشيخة العقل. فقبيل وفاة محمّد أبو شقرا في 1991، أوصى الشيخ بتعيين بهجت غيث قائمقاماً لشيخ العقل. لكنْ في 2006، وكان قد عُزل غيث الذي تضخّمت طموحاته السياسيّة والفقهيّة، عاد العمل بنظام الرأسين. هكذا اختير شيخ عقل للجنبلاطيّين هو نعيم حسن، وآخر لليزبكيّين هو ناصر الدين الغريب.
2006-2008
الحدث الأبرز في 2006 كان بالطبع حرب إسرائيل وحزب الله. هنا أمكن الالتفاف على الأجندة السياسيّة التي طرحها انقسام 8 و14 آذار بعد اغتيال الحريري، وأعيد الاعتبار مجدّداً إلى “القضيّة المقدّسة” التي يرعاها الأسد على مستوى إقليميّ. وكممثّل لهذه القضيّة، طامعٍ إلى الإمساك إلى ما لا نهاية بقرار الحرب والسلم اللبنانيّين، غزا حزب الله وحلفاؤه بيروت بعد عامين، فحاصروا جنبلاط وسعد الحريري في منزليهما بالعاصمة. الغزاة حاولوا التقدّم نحو الجبل الدرزيّ الذي صدّهم، وهو ما شكّل جائزة ترضية نسبيّة وموضعيّة قوّتْ موقع جنبلاط قليلاً مُتيحةً له أن يستسلم على نطاق وطنيّ.
هنا حصل انكسار لا يُمارى فيه. فإلى التشهير الحادّ والمهين الذي تعرّض له، والمُشهِّرُ لم يكن سوى حسن نصر الله نفسه، آثر وليد جنبلاط مغادرة 14 آذار كصيغة للتحالف والعمل السياسيّ. أمّا داخل الطائفة نفسها، فراح يبذل الجهود الآيلة إلى تهدئة أصحاب الرؤس الحامية الراغبين في مقاتلة الحزب الشيعيّ والانتقام لجرحهم.
وأكثر من أيّ وقت سابق بدت حساسيّة جنبلاط ممزوجة بالخوف. فالطائفة الدرزيّة صغيرة العدد وعديمة التسليح قياساً بالطائفة الشيعيّة، ووليد نفسه ابنُ أب ذهب قتلاً، هو بدوره ابنٌ لأب ذهب قتلاً. قاتل الجدّ، فؤاد، كان يُدعى شكيب وهّاب. هذا ما يقوله مبدأ الواقع في تأويله الجنبلاطيّ، بتوازنات قواه وبالأحقاد التي تبادلها تاريخه.
لقد بدا الأمر انكساراً مُرّاً، لا لوليد جنبلاط فحسب، بل لطائفة يعزّ عليها الشكل والمظهر والأنفة.
في المقابل، لم يتحوّل الفتات الذي جمعه حزب الله ودمشق، للوقوف في وجه الزعيم الدرزيّ، جسماً متجانساً. لقد حالت عوامل شخصيّة، في عدادها تشاوف “المير” طلال على حلفائه، وافتقاره إلى شروط القيادة والإقناع، دون ذلك. مع هذا، وبطرق شتّى لم تراعِ دوماً عفّة اللسان التي اشتُهر بها الدروز، استؤنفت الحملة على جنبلاط، فلم تكن تهدأ إلاّ حين ينوي حزب الله تهدئتها لغرض من أغراضه.
في الحملة هذه، كان وئام وهّاب أفصح التعابير المحلّيّة عن ظاهرة الشعبويّة البذيئة التي تباشر قضم السياسة في العالم. السلاح المألوف في ابتزاز المسيحيّين، أي إسرائيل، بدأ يُستخدَم همساً وتلميحاً ضدّ جنبلاط. كلّما احتجّ دروز من الجولان على إسرائيل وطالبوا بالعودة إلى سوريّا، وكلّما أظهر دروز من الجليل أنّهم مندمجون في الحياة الإسرائيليّة، بدا جنبلاط مضطرّاً لأن يعلّق مندّداً أو مباركاً أو داعياً “أهلنا” إلى الانتفاض كما لو أنّه يدفع ضريبة الذميّة. وعندما حُرّر الأسير الدرزيّ سمير القنطار من السجون الإسرائيليّة، عام 2008، بدا كأنّ رفع القنطار إلى سويّة الأسطورة إنّما يستهدف خفضاً لسويّة جنبلاط في طائفته. ولربّما تذكّر “البك”، في واحدة من هذه المرّات التفتيشيّة اللئيمة، كيف أنّه هو نفسه كان يشارك في هذا الابتزاز حين كان يستهدف خصومه المسيحيّين في الجبل.
في الحالات كافّة، بدا أنّ حزب الله، ومن ورائه “سوريّا الأسد”، ينظران إلى وليد جنبلاط بوصفه أبرز العوائق التي تمنع إمساكهما بالحياة الداخليّة لباقي الطوائف اللبنانيّة.
سوريّا ودروزها
مع اندلاع الثورة السوريّة، تطرّفت الرهانات كلّها واحتدم التناقض بينها. وليد جنبلاط لم يتّخذ موقفاً مؤيّداً للثورة فحسب، بل تطرّف مرّةً في غضبه مُستبيحاً دم الدروز المؤيّدين للنظام. وهو، من غير انقطاع، أرفق انحيازه السياسيّ بوقفات نبيلة حيال السوريّين في لبنان مَيّزتْه عن سائر السياسيّين. طلال أرسلان وباقي مناوئيه اعتمدوا تلك اللغة الببغائيّة المعروفة: “جنبلاط متآمر على دروز سوريّا وينفّذ أجندات أجنبيّة”، “بشّار الأسد ضمانة قوميّة”، “السيّد حسن سيّد المقاومة”…
الثورة السوريّة وقمعها تحوّلا مادّة ضمنيّة في السجال المسموم بين وليد وخصومه المصنوعين وأنصاف المصنوعين. انشقاق دروز سوريّا بين مشايخ عقل ثلاثة، قد يصيرون أربعة، ونشوء “حركة رجال الكرامة” ثمّ اغتيال مؤسّسها الشيخ وحيد بلعوس، أمدّت ذاك السجال بوقود لا ينضب. في هذه الغضون، واصلت تلفزيونات الممانعة وجريدتها التشهيرَ بجنبلاط مصحوباً بتضخيم خصومه، كما واصل ناشطوها على شبكات التواصل المهمّة ذاتها.
بدا كذلك، مع الانتخابات النيابيّة الأخيرة، أنّ استهداف “البك” الدرزيّ هدف يجمع بين “الفلاّح المارونيّ” ممثّلاً بالعونيّين الذين وعدوا فلاّحهم بالثأر من قهر نزل به في الماضي، و”الفلاّح الشيعيّ” ممثّلاً بحزب الله الذي وعد فلاّحه بتأميم المستقبل واحتكاره. هكذا أمكن خفض كتلته النيابيّة من 11 مقعداً إلى 9، غير أنّ المقعدين اللذين خسرتْهما الكتلة كانا مارونيّين، كسبهما “التيّار العونيّ”، لا درزيّين. كلّ المقاعد الدرزيّة بقيت لجنبلاط، باستثناء مقعد درجَ، متعالياً، على تركه لـ “المير” طلال.
واليوم، وعملاً بـ “التقليد” اللبنانيّ، يورّث وليد نجلَه تيمور الزعامة. لقد حلّ النجل، مُرغماً على الأرجح، في المقعد النيابيّ الذي اعتزله الوالد. لكنّه، هو الذي تتكاثر البراهين على كرهه السياسةَ، يرث أيضاً زعامة تصارع خصوماً أقوياء من خارجها يدعمون الخصوم الضعفاء من داخلها.
والحال أنّ أشكال الحصار تنوّعت، وتتنوّع: من قضم التمثيل الجنبلاطيّ في الحكومة، إلى انتزاع إذعان “البك” لحكومة تُفرض على الحريري وتستجيب كلّ رغبة إيرانيّة أو سوريّة، لا سيّما بعد العقوبات الأميركيّة الأخيرة على طهران. وئام وهّاب، عبر موكب سيّاراته الذي “تحدّى” المختارة، ثمّ “إشكال الجاهليّة الأمنيّ” وذيوله، بدا للبعض أنّه هو المكلّف باستكمال الحصار الذي بدأ في 2008. البعض قالوا إنّ حزب الله، من خلال “سرايا المقاومة”، حاضر في هذه الهجمة.
العداوة، التي لا تفتر، قد تتحوّل سبباً آخر لقوّةٍ تزدهر دائماً على العداوة. ومَن يدري، فهي ربّما صلّبت، بعد وقت يطول أو يقصر، عود تيمور وحبّبته بالسياسة. لكنْ في هذه الغضون، وفي معمعة التنافس على وحدة الطائفة وزعامتها، يُلقى بشابّ بريء آخر إلى هذا الوحل الذي يصبغ المشاعر، وإلى ذاك الدم الذي يصبغ الأفعال، فيما أهازيج الكرامة والشهامة والمبايعات تستولي على الأفق. والجبل، إلى أن يجدّ جديد، هو هذا، ولبنان أيضاً.