يوسف بزي/إيلي الفرزلي: نائب فاعل مبني للمجهول

115

إيلي الفرزلي: نائب فاعل مبني للمجهول
يوسف بزي/المدن/12 كانون الأول/18

هذا الرجل يشتهي أن يقال عنه داهية. ونحن، ولا مرة صدقناه. نشعر سلفاً كلما أطلّ وقبل أن يلفظ حرفاً، إنه على وشك أن يُخرج الأرنب من معطفه. لا مفاجأة ولا دهشة. وهو كل مرة يظن أنه “بلفنا”، فيما نهز رؤوسنا متسائلين: لماذا يظننا أطفالاً سذّجاً؟

“طريقة”
لا يعرف إيلي الفرزلي تلك القاعدة الذهبية “إنما الحيلة بترك الحيل”. فنراه مكشوفاً أمامنا لكثرة حبكاته اللفظية وانغماسه في سبك عبارات لا معنى فعلياً لها سوى رغبة الإبهار والتفخيم.

مع ذلك، هو “مدرسة” في شطر من السياسة اللبنانية كرسه مكتب غازي كنعان، ورستم غزالي من بعده، في السعي السوري الحثيث والضاري، المبتدئ مع إيلي حبيقة والذي لا ينتهي عند كريم بقرادوني أو رشاد سلامة، لتفتيت “المقاومة” المسيحية للهيمنة السورية. والفرزلي ابتكر “طريقة” (على ما يقال في الصوفية، من غير تشبيه أو مقارنة)، هي إفراغ المقولات من معانيها، وتسييل الكلمات على نحو ما يكون الماء، إذ يتخذ شكل أي وعاء تُصب فيه. وهذا التحطيم لنصاب المعنى، أودى بالسياسة إلى أرذل مظاهر الديماغوجيا.

يمكننا هنا، فهم استئناس الرئيس نبيه بري بإيلي الفرزلي. فالأخير قادر على مجادلتك دهراً، محاولاً “تكذيب بياض اللبن”، وفق أفضل توصيف قيل فيه. فنائب رئيس مجلس النواب منذ 1992 وحتى العام 2005، ومجدداً ابتداء من أيار 2018، يزيح عن برّي أعباء مناكفات ومناورات ورمي قنابل دخانية وإطلاق بالونات اختبار ووضع عصي في الدواليب وزرع ألغام سياسية وتسديد طعنات وافتعال حرائق ودسّ الرسائل.. هو الماكر أبداً في صيغة “نائب فاعل مبني للمجهول”.

الأرثوذكسي
وعلى الرغم من وراثته لوجاهة قروية من عمه أديب الفرزلي، إلا أن صدمته السياسية الأولى كانت بفشل أبيه في الانتخابات النيابية عام 1972. أي في العام الذي تخرج به كمحام في الجامعة اللبنانية، حيث صقل شغفه المستمر بفن “المرافعة” والمحاججة. تماماً، كما نراه ملتذاً على الشاشة التلفزيونية في تهويل من نوع: ” ذبح القانون الأرثوذكسي يعني ذبح الحقوق المسيحية في لبنان”. وهو إذ يطلق عنان مخيلته، نلحظ استمتاعه الشخصي بهذه “الموهبة” حتى ولو كان التلفيق فاقعاً.. المهم هو المتعة ذاتها. وهذا له حظ وافر بين جمهور التلفزيون.

تجربته كأرثوذكسي في محيط إسلامي سني، إضافة إلى بقاعيته، أي كمسيحي من الأطراف، والقرب الجغرافي والتاريخي من دمشق.. كل هذا صاغ في تكوين شخصيته مزيج من التقية وطلب عطف السلطان، علاوة عن إرث ثقافي يلهج بـ”العروبة”، ويعلي من شأن الفصاحة وفن الخطابة والمبارزات الشعرية.

تجربة زحلة
أتت الفرصة الذهبية لهذا المفوه، الطامح لترجمة الوجاهة العائلية إلى نفوذ سياسي، في مطلع الثمانينات، إذ لعب دوراً بارعاً في عداد مجموعة شخصيات مسيحية محلية، توسطت ما بين السوريين و”القوات اللبنانية”، لترتيب تسوية تنهي الحرب على مدينة زحلة. وكان له السهم الأكبر في ترتيب الاجتماع بين المطران أندريه حداد وغازي كنعان عند أطراف مدينة زحلة، الذي أفضى إلى فك الحصار عن المدينة، ودخول مفرزة المخابرات إليها وجلاء الميليشيات المسيحية عنها.

من تلك التجربة، أدركت المخابرات السورية الموهبة التي يجسدها هذا الشخص، بل وجدت فيه ما كانت يائسة تبحث عنه حينذاك، ليس المسيحي على صورة “مناضل في الحركة الوطنية” المنبوذ أصلاً، بل سليل العائلات التقليدية، الذي يبحث عن سبيل إلى السلطة، وإلى تبوء المناصب وحسب.

في منتصف الثمانينات، بعد مقتل بشير الجميل واندحار الاحتلال الإسرائيلي، وانقضاض النظام السوري على لبنان، بدا أن مناعة “المجتمع المسيحي” قد انهارت، فخرج إيلي حبيقة كأخطر انشقاق في هذا المجتمع، ليلاقيه إيلي الفرزلي في الوجهة نحو التطبيع (والاستسلام) لقادة دمشق. لكن الظهور الفعلي أتى لحظة محاولة اغتيال حبيقة داخل كنيسة في زحلة، إذ أصيب الفرزلي بجروح بالغة مازالت آثارها بادية في وجهه. وكاد الانفجار – لولا لطف العناية الإلهية – يودي بحياته.

في الخيمة
بات الفرزلي الشخصية الأولى والمفضلة لغازي كنعان. ومعه ابتدأ ذاك النمط من العلاقة ما بين عنجر (مقر المخابرات السورية الشهير) والسياسيين اللبنانيين. وكي لا ندخل هنا في التوصيفات التي قد تبدو مسيئة أو مهينة أو محرجة، يكفي وصف واقعة النواب، وهو منهم، الذين استدعتهم المخابرات السورية للاجتماع في خيمة بالعراء من دون وجود حمامات أو أي خدمات، ليعلنوا بدء مشروع التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004. كان المشهد يختصر “الاعتبار” الذي يكنّه النظام السوري لكل السياسيين اللبنانيين.

وحده إيلي الفرزلي يعرف الفارق بين تلك الخيمة وقبة البرلمان. وحده يعرف إذا بقي من فارق أصلاً.