د. وسام راجي/القوميات المشرقية والمارونية/ لبنان هو كيان نهائي في الوجدان الماروني وهو نقطة التوازن بين المسيحية والقومية والتي لا تمحى

94

القوميات المشرقية والمارونية
لبنان هو كيان نهائي في الوجدان الماروني وهو نقطة التوازن بين المسيحية والقومية والتي لا تمحى

د. وسام راجي/النهار
نشر يوم الأربعاء 05 كانون أول 2018

طرح الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم هيغل (Georg Wilhelm Hegel) نظرية شمولية التاريخ وان الحاجة الإنسانية إلى التقدير (need for recognition) في الوجدان الإنساني قد فرزت المجتمعات التاريخية بين العبد والسيّد من حيث ان العبد هو من اختار ان يحفظ حياته وتخلى عن حاجته الى التقدير، أما السيد فهو من اختار العكس واراد تحمل تبعات اختياره. الحاجة الى التقدير تدفع التاريخ باتجاه واحد نحو التطور من اجل الوصول الى الحرية البشرية. فعملية التطور بنظره هي عملية تدفق دائمة في مفهوم الحرية من السيد الى العبد الى حين الوصول الى المجتمع المثالي حيث ان الجميع متساوون في الحرية. اعتبر هيغل ان الديانة المسيحية تتميز عن الأديان جميعاً باعتبار البشر جميعاً متساوون أمام الخالق بحيث انها توصل البشرية الى الحرية.

امتزجت العوامل والدوافع الفردية للوصول الى بنية اجتماعية صلبة مع مرور الزمن ومرت المجتمعات الاوروبية بعدة سيناريوهات لمفهوم الحكم حيث لعب الإقطاع دوراً أساسياً في بناء هذه المجتمعات وتم تبني مفهوم النظام الملكي المستمد سلطته من الدين الى ان ترسخ مفهوم بناء الدولة الحديثة من خلال الثورة الفرنسية والتي بحسب هيغل هي تطبيق ارضي لمفهوم الحرية المسيحية.

هناك نظريات تختلف عن هيغل بتفسير الأسباب الموجبة لقبول المجتمعات بانظمة حكمها حتى ولو كانت غير عادلة على المستوى الفردي والاجتماعي بعيدا عن نظرية السيد والعبد. استطاع توماس هوبز(Thomas Hobbes) تفسير هذه الظاهرة بعيدا عن مفهوم العبودية الاجتماعية واعتبر ان الإنسان يحاول دائما الا يعود الى الفوضى فيتمسك بوضعه الحالي. فان وجود دولة حتى وان لم تكن عادلة أفضل بكثير من عدمها كيلا تسير المجتمعات عكس التاريخ. فنظرته بمعنى اخر تجيز التخلي عن الحرية الى حد معين مقابل الأمن وان الحرية الاجتماعية تتغذى في بعض الأحيان من الحرية الفردية.

أتى جون لوك (John Locke) وطرح نظرية تناقض هوبز باعتباره ان الله قد خلق الإنسان حرا وحتى وان كانت الدولة صمام أمان للمواطنين ولكن طبيعة الأنظمة ان لم تواجه أي حركات ثورية أو معارضة فانها تتحوّل مع الوقت الى أنظمة قمعية ولذلك وجب مواجهة الدولة عند احساس المواطن بالظلم للحفاظ على حريته. هذه النظرية الليبرالية عندها قد بدأت بالتأسيس الفكر الليبرالي الديموقراطي. هذه النظريات الثلاث وان اختلفت بتفسير الظواهر الإنسانية اتفقت كلها على ان الأولوية هي الإنسان.

يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ ان قوتان كبيرتان تتنازعان في الوجدان الإنساني وتحاولان دائماً الظهور للحصول على التقدير بحسب نظرية هيغل. هؤلاء القوتان هما الدين والقومية. استطاع الحس الديني ان يتأقلم مع مفهوم الدولة بدءاً من الإقطاع ومع النظام الملكي واستطاعت السلطات الدينية عندها إقناع الشعوب بنظرية هوبز والأمن الاجتماعي حتى وان لم تكن السلطات الدينة على دراية بهذه الفلسفة السياسية.

مع اشتعال الثورة الفرنسية وتصدير مبادئها الى دول القارة الأوروبية، بدأ مفهوم السلطة الدينية يتغيّر. فتموضعت الديانة المسيحية التموضع الصحيح من حيث فصلها عن الدولة. أتى مفهوم العلمنة المتطرف والذي نصب العداء للفكر الديني واستطاع عندها مصدروا الثورات استبدال مفهوم هوبز للمواطنة بمفهوم لوك من دون فهم واضح للذات الإنسانية ومن دون المرور بالتطور الضروري للنقلة النوعية.

شهد القرن التاسع عشر والقرن العشرين اكبر الثورات الفكرية والتي ساعدت بطريقة غير مباشرة بشيطنة الأفكار الدينية وقمعها بافكار قومية. وحدث عندها ما لم يكن في الحسبان. فالتطرف الأعمى ضد المفاهيم الدينية قد أدى الى احتلال كامل للوجدان الإنساني أما من القومية أو من قبل الشيوعية. فالقومية والشيوعية تمثلان التطرف بمفهوم هيغل لمبدأ السيد والعبد في المجتمع مع ان طروحاتهم تدعي نقيض هذا المفهوم. فأتت هذه الأنظمة بنتائج كارثية على البشرية وكانت نتيجتها الحروب العالمية بالاضافة طبعاً الى أسباب اخرى متعلقة بالديناميكيات الاقتصادية والصناعية.

العلمنة قد طورت مفهوم الديانة المسيحية في الغرب ولكن التطرف في العلمنة أتى بنتائج كارثية تفوق كارثة استغلال المفاهيم المسيحية لإدارة الحكم. وما زالت الشعوب الأوروبية تحاول منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ايجاد التوازن المطلوب ما بين الدين والقومية. لا بد من الإشارة هنا ان وضع الولايات المتحدة وتاريخ تأسيس الدولة يختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم الأوروبي لاعتبارات عدة.

أما الموارنة فاستطاعوا وضع نموذج وجودي مميز حيث يتعايش الدين مع القومية في الداخل الإنساني بمفهوم هيغل. فمنذ القرن السادس استطاع الموارنة بناء مفهوم الدولة ولو بالمعنى الذي يختلف عن مفهوم الدولة الحديث. فكانت الكنيسة هي الملاذ الأمن للموارنة على المستوى الاجتماعي الضيق. فاستطاعوا التعاطي مع الكنيسة بمفهوم الهوبزيان (Hobbesian) والتعاطي مع السلطات الحاكمة في مناطق وجودهم بمفهوم لوكيان (Lockean).

فان احسن محيطهم الحاكم التعاطي معهم بالإيجابية وبمبدأ الحرية الايمانية، تعاونوا مع هذا المحيط. وعندما تم التضييق عليهم من المحيط الحاكم، استطاعوا مواجهة هذا المحيط ضمن أما اطر الحكم الذاتي أم المقاومة المباشرة. قدرتهم على التعاطي مع السلطتين، الكنسية والسياسية أعطاهم القدرة على ايجاد ربط جذري بين الانتماء الديني والانتماء القومي اللبناني.

وقد ساعدت الكنيسة خلال عدة مراحل تاريخية بملأ الفراغ في القيادة السياسية عبر قدرتها على دمج دورها كسلطة دينية وسلطة سياسية. وملأ هذا الفراغ لم يكن ممكنا لولا البيئة المارونية التي وجدت نقطة التوازن بين الدين والقومية. قليلة هي المجتمعات التي استطاعت ان تصل الى نقطة الاتزان وقد استطاع الموارنة لأسباب تاريخية و بعناية إلهية (هذا السبب نابع من إيماني الخاص ولا يمكن اعتباره ضمن السياق التحليلي الاجتماعي) تطوير مفهوم الحرية الاجتماعية من حيث لا يدرون ومن دون العبور بالتدرج بمفهوم العلاقة بين الدولة والمواطن.

تطور مفهوم الربط بين الدين والقومية عند الموارنة وتتوج بإعلان دولة لبنان الكبير. هذا الكيان الذي لا يقتصر فقط على النطاق الجغرافي لمفهوم الوطن من الصعب جداً تغيير وجهه مهما حصل. لا بد من الإشارة الى ان مفهوم القومية عند الموارنة يختلف بشكل جذري عن مفهوم القومية في أوروبا. المفهوم الاوروبي للقومية قد ظهر لأسباب اجتماعية و اقتصادية و سياسية بحيث توسعت الطبقة الوسطى بعد ثورة صناعية تزامنا مع تطور علمي وفلسفي كبير تتوج بالنظرية الدارونية (Darwinism) بحيث تم تحويرها لتشمل الدارونية الاجتماعية بالاضافة للاستفادة من عدة عوامل جيوسياسية. اضف الى ذلك ما تم ذكره بالبدأ عن استبدال الدين بالقومية. اما مفهوم القومية عند الموارنة فهو قائم على مبدأ الحرية وقدرة المجموعات في التعبير عن آرائها وعن عيشها بسلام من دون إكراه اضافة الى الحرية الفردية داخل المجموعات.

من نقاط التمايز ايضا، ان القومية عادة ترتبط ببعد جغرافي اما القيمة المضافة عند القومية المارونية انها لا ترتبط بالإطار الجغرافي. فالجغرافيا أتت استكمالاً لمفهوم الحرية ولم تأتِ المفاهيم القومية نتيجة لارتباط جغرافي معيّن. فالمواجهة من اجل مفهوم الحرية لم تقتصر تاريخياً على المواجهة مع المسلمين بل حدثت معارك بين البيزنطيين والموازنة عندما حاول البيزنطيون عندها فرض مبادئ إيمانية مختلفة على الموارنة.

هذه النزعة القومية وان كانت ضمن معادلة توازن مع الايمان المسيحي فانها تمثل الكثير من اللبنانيين من طوائف مختلفة الذين تبنوا المفهوم الذي طوره الموارنة عن الحياة الحرة ضمن الحيّز الجغرافي التاريخي اللبناني. ونقطة اختلاف جوهرية اخرى عن القومية الغربية هي ان القومية المارونية ترجمت كحالة وعي اجتماعي وكان الانفتاح بصلب فلسفتها. أتى الانفتاح الماروني على الغرب نتيجة تشجيع الاكليروس لهذا الانفتاح على عكس معظم الجماعات الاخرى في المحيط حيث كان الدخول الغربي اليها عنوة او عن طريق أخذ الحداثة الغربية ورفض القيم المرافقة لها. وكان الانفتاح عند الموارنة من الجهتين بحيث استطاعت مجموعات لبنانية اخرى الاستفادة من العلاقات المارونية-الغربية. ولا بد من الإشارة ان كل الأفكار القومية في الشرق التي تم استيرادها من الغرب وإسقاطها على المجتمعات الشرقية كالقومية السورية والقومية العربية والتيارات الاسلاموية قد اثبتت عدم ملاءمتها للواقع ولم تحقق الوعود التي اطلقتها.

لبنان هو كيان نهائي في الوجدان الماروني وهو نقطة التوازن بين المسيحية والقومية والتي لا تمحى. يبقى هذا الوجدان نقطة ارتكاز لجميع المكونات اللبنانية وصمام أمان للحرية الاجتماعية والفردية. فعندما انفتحت المجموعات الاخرى تاريخياً على الموارنة، ارتقوا معا لبناء ركائز صلبة لاستمراريتهم. فأهمية الكيان اللبناني تتجاوز الحدود الجغرافية وتؤكد فعلاً “ان لبنان اكثر من وطن، انه رسالة نموذجية للشرق والغرب”.