حنا صالح/و… «شمال قبرص» جديد في سوريا

65

و… «شمال قبرص» جديد في سوريا
حنا صالح/الشرق الأوسط/06 كانون الأوّل 2018

لم يكن منتظراً أي تقدم حقيقي في الجولة الأخيرة من المفاوضات على مسار «آستانة». خيبة الأمل التي عبّر عنها السيد دي ميستورا الذي سلّم دوره للموفد الأممي الجديد «غير بيدرسون»، يعرف أنها لم تكن بالأمر الجديد، فهذا المسار الذي حيّد الأمم المتحدة وعطّل دورها كان مسار الخيبة الدائمة للسوريين، لأن القيّمين عليه لم يبحثوا في أي يوم مسببات الصراع السوري؛ بل كان اكتفاء بالتعامل المجتزأ مع نتائج الصراع. كانت أولويتهم التلاعب بالمعارضة المسلحة المعتدلة وتحجيمها؛ في مقدمة لإلغاء دورها، مما يمهد الأرض أمام بسط السيطرة الروسية كاملة، مع حفظ حصص طهران وأنقرة… هذا مع العلم بأن هناك نتائج مأساوية نجمت عن الصراع، وتتطلب البدء بمعالجات جدية، كقضية اللاجئين، وهي القضية المحورية التي ادّعت روسيا أنها على رأس أولوياتها، لكن ما يجري على الأرض أقرب إلى البرامج المتلفزة؛ نتيجة الافتقار لأي خطة موضوعية للعودة والاستيعاب أو إعادة الإعمار.

11 جولة عرفها هذا المسار، وعلى الدوام كان الموضوع الدستوري أبرز المحاور، وهو موضوع طرحته موسكو مباشرة بعد السيطرة على حلب، وكان موضوع الكشف عن مصير المخفيين والمعتقلين وجثث الضحايا عنواناً رئيسياً كذلك. في الحصيلة؛ لم ينجز تشكيل اللجنة الدستورية، وتبين أن ما هو أولوية لوضع سوريا على مسار الحل السياسي، ليس أولوية أطراف «آستانة». أما في موضوع المخفيين والأسرى، فكل مرة كان يعود الحديث إلى نقطة الصفر، لأن أي جدية في تناول مصير مئات آلاف المخفيين ستؤمن مضبطة اتهام ضد رموز النظام السوري.

رغم قوة الوقائع، وإصراراً على الاستمرار في تقطيع الوقت، فإن الوزير الروسي لافروف ذهب بعيداً في الترويج لإنجازات لم تبصر النور، كقوله أن «اللجنة الدستورية التي يتم تشكيلها بدعم ثلاثي آستانة تمثل آلية وحيدة تسمح بالشروع في تنفيذ القرار (2254) القاضي بأن يجلس السوريون إلى طاولة المفاوضات».

لكن حدثت تطورات ميدانية مختلفة في شرق الفرات تحت الرعاية الأميركية، مرفقة بتطور في الموقف السياسي الأميركي ومرتكزه، وفق السفير جيمس جيفري المكلف الملف السوري… إخراج الميليشيات الإيرانية وإنهاء نفوذ طهران التي تشكل خطراً على كل المنطقة وإرساء عملية سياسية تستند للقرارات الدولية… والموقف الأميركي واضح لجهة انكفاء الروس إلى قاعدتي حميميم وطرطوس، على أن يقابل ذلك انسحاب كامل للأطراف الأخرى؛ أي القوى العسكرية والميليشيات التابعة لطهران وأنقرة على حدٍ سواء.

في كل الصيغ التي جرى الترويج لها في الفترات السابقة، جرت محاولات للإيحاء بأن البحث أكثر من جدي ويلامس أكثر المسائل الحساسة، عندما تردد أن الأمر الشائك يكمن في حجم صلاحيات ودور رئيس الجمهورية، ومن ثم رئيس الحكومة الذي يجب أن يتحرر من هيمنة رئيس الجمهورية بجعل كثير من الاختصاصات من حقه، وبعد ذلك مصير أجهزة الاستخبارات وحق الإمرة عليها، إلى كل الأجهزة العسكرية والجيش… لكن الواقع كان شيئاً آخر؛ فالحكم في دمشق نجح في التملص من أي مشروع حل أو اتفاق، وحتى اليوم يرفع شعار الحسم العسكري، ومعنى ذلك أن من يحسم يملي شروطه، وما كان النظام ليستطيع تظهير بعض الاختلافات لولا الدعم المتاح له، وهذا ما لاحظته الخارجية الأميركية عندما اتهمت روسيا وإيران بالتمسك بمسار «آستانة»؛ «من أجل إخفاء رفض نظام الأسد المشاركة في العملية السياسية برعاية الأمم المتحدة».

وحتى لا نجانب كل الحقيقة ويتم التلطي خلف رغبات النظام السوري وما يقبل وما يرفض، فمشروع الحل لم يتقدم بشكل حقيقي لسببين أساسيين؛ الأول أن موسكو تنتظر إمكانية التوصل لاتفاق مع الأميركيين، وهو الأمر غير المتاح لأسباب أميركية، وسيكون من الصعب بلوغه كلما اقتربت الانتخابات الأميركية في خريف عام 2020، وواقعياً تبدأ المنافسة قبل نحو سنة من فتح صناديق الاقتراع. أما السبب الثاني؛ فهو أن أطراف «آستانة» لن تفرج عن أي مشروع للحل قبل ضمان مصالحها، وهذا بالضبط ما يهدد بإطالة أمد الصراع.

لم ينجح ثلاثي «آستانة» في بلورة اتفاق حول الخطوط العامة للدستور، وليس سراً أن كل طرف يطرح ما يتلاءم ومصالحه؛ فطهران تريد ضمانات دستورية حول الوجود والنفوذ؛ مما يعني عدم المساس بالمتغيرات التي طرأت على الملكية وعلى الديموغرافيا وعمليات التوطين الواسعة من وسط سوريا حتى حلب، كذلك ينبغي لأي جهة ألا تنتظر قيام طهران بسحب وحداتها العسكرية والميليشيات التابعة لها كلياً، ومعروف على نطاق واسع ما يقوم به النظام الإيراني على المستوى الثقافي والتعليمي وحملات التشييع، خصوصاً في الأرياف الجائعة، وهذا الوضع يقلق كثيراً الأوساط السورية، كما تنظر له موسكو بتوجس، وهي الساعية للبقاء 49 سنة؛ وفق ما تقول المعاهدات المبرمة مع النظام السوري.

لتركيا مشروعها الكبير في الشمال السوري؛ مشروع يشمل إدلب وعفرين ومناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، حيث يوجد مع اللاجئين إلى تركيا ما بين 6 و7 ملايين سوري، يشكّلون أكثر من ربع السكان. منذ أشهر لا تتوقف مشروعات ربط هذه المناطق بتركيا: شبكة طرق حديثة، وعمليات إغاثة، ومشروعات صحية، ومشروعات صناعية، كذلك بريد، وخدمات الهاتف، والخدمات المالية، وتصريف المنتجات الزراعية… إلى الخدمات التعليمية وهي الأهم، فمع فتح فرع جامعي تركي في الباب لم تعد من حاجة لذهاب الطلبة إلى حلب، ومع التغيير في المناهج وتوفير أنقرة مئات ألوف الكتب المدرسية وأعداداً من المعلمين، أصبحت اللغة التركية إلزامية، وتم الاستغناء عن اللغة الفرنسية وتراجع التعليم بالإنجليزية، ويُقدم التلامذة على التعلم بالتركية لأنها المدخل للوظائف، باعتبار أن المنطقة كل يوم تكون أكثر ارتباطاً بالداخل التركي. وانتشرت المدارس الدينية، وتنشط جماعات تابعة لـ«الإخوان المسلمين» في تدريب الأئمة السوريين!! وتجاهر تركيا بأن أي اتفاق سياسي ينبغي أن تكون الأقلية التركمانية جزءاً منه، كما تريد أن تضمن تمثيلاً سياسياً في السلطة في أي تسوية، يشمل كل التنظيمات والفصائل العسكرية السورية التابعة لها!!

لا مبالغة مطلقاً في القول إن تركيا تنشئ في الشمال السوري حالة شبيهة بـ«شمال قبرص»، وستكون، مع ما يقوم به النظام الإيراني في وسط سوريا، بين أبرز العوامل التي ستبقي التسوية السياسية معلقة؛ وربما تكون أبرز العوائق التي تؤخر كثيراً استعادة سوريا وحدتها.