حنا صالح/بين لبنان والعراق

53

بين لبنان والعراق
حنا صالح/الشرق الأوسط/11 تشرين الأول/18

ليل الخميس الماضي أشاع الرئيس المكلّف جواً من التفاؤل بقرب تشكيل حكومة «وحدة وطنية» تُرضي الجميع، وظُهر الجمعة جاء الرفض الصادم لتلك الأجواء من رئيس التيار الوطني، تيار رئيس الجمهورية، فلخص رئيس البرلمان الوضع بعبارة «رجعنا إلى نقطة الصفر»، داعياً إلى وقف مسلسل الاستعراضات التلفزيونية.
طبعاً كانت أجواء بيروت تشي بأنه بعد الذي تحقق في العراق من انتخاب رئيس للجمهورية وتسمية رئيس للحكومة، فإن الحلحلة حاصلة في لبنان بعدما وصل قطار التأليف إلى المحطة الأخيرة، وأن ما يعتبره الرئيس المكلف حكومة الحد الأدنى الوطنية ويستند في تشكيلها إلى ما أعلنه من حرص على ضرورة الحفاظ على الاستقرار المالي والاستقرار الأمني، ليس بعيداً عن الرؤية الإجمالية للطرف الأقوى «حزب الله» الذي لا يضير خططه ظاهرة تناتش الأطراف الحصص الوزارية والمكاسب، لأن تأليف حكومة ما بعد الانتخابات يشكّل خطوة متقدمة شرعية في مشروع نقل لبنان من موقع إلى موقع، يستند في ذلك إلى فائض القوة التي يمتلك وإلى إمساكه بالمفاصل الرئيسية لقرار البلد.
كل الذين استندوا إلى التطورات العراقية للقول إنه حان الوقت للإفراج عن الحكومة، فاتهم فارقٌ جوهري وهو أن أهل الحكم في لبنان من القوى المتخاصمة على المحاصصة، هم على طرفي نقيض مع ما يطرحه الطرف الأقوى عراقياً عندما يشترط تحالف «سائرون» حكومة عراقية بعيدة عن كل «محاصصة طائفية أو عرقية»، وترك الحرية لرئيس الوزراء ليختار الأصلح، وأن الحكومة لا ينبغي أن تكون «هبة للكتل والأحزاب» حتى تتمكن من أن «تحفظ للدولة هيبتها وللعمل نجاحه»، وأنه يجب أن «تنتهي الأيام التي كان للأحزاب فيها حصصهم من المناصب بل ومن أموال العراق الكثير والكثير». و«آن الأوان لنحاسب من سرق أموال العراق».
ومع صعوبة تحقق كل ذلك، هناك اليوم في العراق الأساس الذي يدعو للرهان على تقديم مصالح العراق والعراقيين على كل ما عداها.
أما في لبنان فكأننا أمام مشروع زاحف لاستتباع البلد عبر دمجه رسمياً في مخطط قوى الممانعة وخدمته، وتهيئة المسرح لصالحها كأمر واقع وكخطوة أساسية في إعادة هيكلة المنطقة والتحضير بالتالي لمواجهة الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية الشديدة على النظام الإيراني.
وليس بالأمر السهل على هذا الفريق الذي حدّث جمهوره مراراً عن انتصارات متلاحقة في طول المنطقة وعرضها، ألاّ يأخذ بعين الاعتبار التشدد الأميركي في العقوبات التي ستشمل أيضاً «حزب الله» في قانون خاص مطروح اليوم على التصويت النهائي في الكونغرس، وألاّ يأخذ بالاعتبار أيضاً ما يمثله قرار الإبقاء على الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات والارتباط بين هذا الوجود والنفوذ الإيراني في سوريا، وكذلك الضغوط التي تمثلها دعوة مجموعة أصدقاء سوريا إلى حل سياسي وفق مخرجات جنيف والقرار 2254.
تلاحقت الأسئلة عما إذا كانت النيات تذهب إلى تضييع فرصة التأليف، وإنْ مؤقتاً، قبل انتهاء الشهر الخامس على التكليف، وقبل أسابيع قليلة على بدء رئيس الجمهورية السنة الثالثة من حكمه… وإلى أيِّ مدى يعد ما يجري عملية توزيع أدوار بين الرئيس عون ووزير الخارجية باسيل عندما قال الأخير ليس المهم تشكيل الحكومة بل الأهم قدرتها على ممارسة الحكم (!!) كأنه الجهة المعنية بالتأليف، وأكثر من ذلك الجهة المعنية بإدارة الدولة، مع ما يعنيه ذلك من أن حكومة توازن الحد الأدنى التي يتمسك بتشكيلها الرئيس الحريري، ما زالت تصطدم بما سماه الرئيس عون «معايير التأليف» التي حددها لقيام «حكومة العهد الأولى»!! أي أن ما يجري أكبر من أن يصنَّف كاشتباكٍ في خانة رفع السقوف إلى الحد الأقصى، قبل بدء مفاوضات الأمتار الأخيرة وما يمكن أن تشهده من مناورات لتحسين الشروط في مرحلة الصراع على الحقائب الوزارية.
أكثر من ذلك إذا تم النظر بموضوعية إلى الضغوط التي تُمارَس لتحديد الحجم التمثيلي لبعض القوى ونوع الحقائب الوزارية، يتبين أن رأس أولويات فريق القصر هو أن الحكومة باتت الأداة والوسيلة لخدمة مشروع الرئاسة المقبلة بعدما اعتبر رئيس الجمهورية أن السباق انطلق والوزير باسيل هو المتقدم فيه؟
يبدو أن الرئاسة المقبلة هي الهمّ وهي المحور، والأمر المغيّب هو أن الحقائق – التحديات، التي يواجهها البلد ليست أولوية عند أيٍّ من المتحاصصين. فريق القصر يجول بين مؤتمر بروكسل ودورة الجمعية العامة للأمم المتحدة والقمة الفرانكوفونية ويُجري الاتصالات ويقرر منفرداً سياسة البلد، وما من جهة تتصدى للمهام العاجلة، وأولاها كيفية استعادة المؤسسات العامة عملها تحت حكم الدستور والقوانين، وما من جهة تتطرق إلى العناوين السياسية – الاقتصادية المفترضة، ولم تُناقش على أيِّ مستوى الإصلاحات الموجبة التي يتكرر الحديث عنها عند كل استحقاق خارجي من باب رفع العتب ليس إلاّ.
وفوق هذا كله، وقبل أي أمر آخر، يواجه لبنان هذه الأيام خطر حرب إسرائيلية قد تأتي على كل شيء. التهديدات الإسرائيلية هذه المرة حددت بنك أهداف في العاصمة بيروت، كان قد سبقها تهديد نصر الله بامتلاك صواريخ دقيقة، والتهديدات التي أطلقها نتنياهو تلت انتهاء العدو الإسرائيلي من إجراء تدريب عسكري واسع على أهداف تحاكي القرى والبلدات اللبنانية، تمت مواجهتها بجولة استعراضية ارتبطت بالسعي الرئاسي وعنوانها الوحيد «لا صواريخ في الأمكنة التي حددها نتنياهو»، ولم يتم تناول جوهر الموضوع وهو: لمصلحة مَن يتم تحويل لبنان إلى قاعدة متقدمة للغطرسة الإيرانية؟ وترتفع عقيرة الكثير من أهل الحكم بمقولة إن السلاح لا يُستخدم في الداخل (…) وإنه شأن خارجي، بينما لا أحد في العالم يقبل هذه المقولة وأمام الجميع المحاذير المتأتية عن نوعية الحقائب التي يمكن أن يشغلها ممثلون عن «حزب الله».
في مواجهة مشروع نقل لبنان من موقعه الطبيعي ودوره التقليدي في قلب المجموعة العربية، وهو المشروع الخطر الذي يهدد بقاء لبنان الكيان السيد الحر والمستقل، يبدو الأداء السياسي العام عنصراً رئيسياً مساعداً في هذا الانتقال، لأنه في كل الأداء المتَّبَع وكل الرهانات منذ تلك التسوية الرئاسية أُسدي إلى قوى «الممانعة» أفضل الخدمات.