رائد جرجس/الإعلام اللبناني وصناعة صحافة السلام

89

الإعلام اللبناني وصناعة صحافة السلام
رائد جرجس/المستقبل/01 تشرين الأول/18

يجري البحث في كيفية توطيد السلام من خلال عمل الصحافة والصحافيين بما يسمى «صحافة السلام». فللإعلام اللبناني عموماً والصحافيين في لبنان تحديداً دورهم في هذا المجال. لقد شهد لبنان فورة إعلامية بعد انتهاء الحرب في أوائل التسعينات من القرن الماضي، بحيث رخّصت الدولة اللبنانية للعديد من القنوات التلفزيونية والإذاعات آخذة بعين الإعتبار التوزيع الطائفي والسياسي. وازداد تأثير الإعلام الخاص على الجماعات والأفراد لأهداف ترويجية سياسية – حزبية بالمجمل لأن الإعلام الخاص بغالبيته كان وما زال مرتبطاً بجهات سياسية – مالية ترفده بالدعم اللازم فيعكس بالتالي رغبات الجهات الداعمة ويظهر هذا جلياً أثناء الحملات السياسية وعند كل مناسبة حساسة محلية أو إقليمية.

يميّز البرفسور الهولندي يوهان غالتونغ، وهو المؤسس لدراسات السلم منذ نصف قرن، وطوّر الأسس النظرية لما أصبح يُسمّى بإعلام السلام، بين إعلام العنف وإعلام السلام، حيث جاء في مقدمة كتابه: «هناك عموماً أسلوبان يتم انتهاجهما في التغطية الإعلامية للنزاعات الناشبة: الطريق السفلي والطريق العلوي. ويتوقف اختيار هذا الطريق أو ذاك، على ما إذا كان التركيز منصبّاً على العنف والحرب، ويولي الأهمية القصوى لمن ينتصر في النزاع، أم أنّ التركيز يكون على النزاع ذاته وعملية تحويله على نحو سلمي. بل قد يختلط الأمر في كثير من الأحيان على وسائل الإعلام بحيث تعجز حتى عن التمييز بين الاثنين، فتجدها تتحدّث عن النزاع وهي تقصد في واقع الأمر العنف…»

يفتقر الإعلام اللبناني عموماً أكان خاصاً أو دينياً، إلى المهنية الصحيحة، والأهم إلى الإرادة للترويج لصحافة السلام. والمثال على ذلك الحملات التحريضية أثناء الإنتخابات النيابية أو عند تغطية أحداث إقليمية أو دولية من ناحية شيطنة الآخر، الخصم، وتحويله من إنسان إلى كائن يشكل خطراً ما على وجودي أو على تحقيق هدفي. وعندما نتحدث عن وجوب وجود إرادة للترويج لصحافة السلام يجب أن تُرفق هذه الإرادة بالأفعال، فيعكس فعلياً الإعلام اللبناني هذه الإرادة على أرض الواقع بعمل دؤوب نحو هذا الهدف من خلال طريقة تغطية الأحداث وتغيير مقاربة الصحافيين لها من منحى توتيري، سلبي يُكبّر الخطر المفترض ويُهيّج المشاعر على اختلافها (المناطقية أو المذهبية أو الحزبية) إلى منحى موضوعي، يعمل لإظهار الوقائع واستخلاص العِبَر وإنتاج الحلول والعمل على الالتقاء مع الآخر وليس على معاداته وشيطنته.

يواجه المجتمع في لبنان والعالم تحديات جمة تعيق تحقيق صحافة السلام، وقد ذكر قداسة البابا فرنسيس تحديات عديدة لا بل خطيرة تنطبق على الإعلام بشكل عام وبمختلف وسائله وليس فقط على وسائل التواصل الاجتماعي. فحذر البابا من: الأخبار المزيفة، وشدد على ضرورة مكافحة انتشارها بسبب خطورتها وتأثيرها على الرأي العام. كما سلّط الضوء أيضاً على الأخبار «المقنّعة» بقناع الحيادية والموضوعية والتي يجب التنبه إليها بحيث يعتقد المتلقي أن المعلومة صحيحة ولكنها تكون مزيفة بطريقة حذقة من الصعب كشف زيفها. يضاف إلى ذلك تحديات أخرى كالمنحى التجاري للأخبار حين يتقدم الهدف المالي على حساب الأخلاقيات فتختفي البرامج التثقيفية مثلا لمصلحة برامج أخرى. يضاف إلى ذلك تحديات أخرى كالحد من الحرية الإعلامية والضغوط السياسية والمادية بفعل الأزمات الإقتصادية المتلاحقة وغيرها.

أمام هذه التحديات، يصعب الوصول إلى إعلام محايد بالدرجة الأولى وإلى صحافة سلام كخطوة ثانية. لذا يجب العمل أولاً على إعادة اكتشاف قيمة مهنة الصحافة وإبراز المسؤولية الشخصية لكل صحافي في نقل الحقيقة فيتحول الصحافي إلى «حارس الأخبار» المؤتمن على إعلان الحقيقة وإيصالها إلى الجمهور بصدق وأمانة. وبإمكان الفرد المحاسبة من خلال عدم متابعة الوسائل الإعلامية التي تنقل أخبارا تحريضية أو ملفقة أو غير دقيقة و«مكافأة» الوسائل التي تتوخى الدقة وتستثمر في الأبحاث لتقديم المعلومة الصحيحة.

أظهرت دراسة عالمية أجرتها مؤسسة statista سنة 2018 أن المتلقي بات أكثر قبولاً لدفع مبلغ مالي لقاء الأخبار (النوعية طبعاً) وهذا نمطٌ في ازدياد مستمر. إن هذه الظاهرة تنمو أكثر فأكثر في البلدان المتقدمة اجتماعياً. فإذا طبّق المتلقي مبدأ المحاسبة سينخفض عدد المشاهدين أو المتابعين أو المشتركين وستنخفض بالتالي إيرادات الإعلانات ما سيُضطر الوسيلة الإعلامية التي لا تتمتع بحد مقبول من المهنية إلى مراجعة سياستها الإعلامية أو الإقفال. فالصحافة الصفراء والصحافة المحرّضة ستؤولان إلى الزوال مع الوقت في المجتمعات الراقية. والسؤال يطرح نفسه هنا، هل نحن في مجتمع راق؟ وهل من الممكن أن نصبو إلى صحافة راقية ومهنية في مجتمعنا؟

* من محاضرة ضمن أعمال الشبكة المستدامة لرجال الدين في الشمال بالتعاون مع جمعية المنتدى.
* رائد جرجس/إعلامي لبناني