أنطوان قربان/نيتشه في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان

52

نيتشه في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان
أنطوان قربان/النهار/25 أيلول 2018

خلال جلسات المرافعة في المحكمة الخاصة بلبنان، طالب سعد الحريري، الفريق المدني في المحاكمة ورئيس وزراء لبنان على السواء، بإحقاق العدالة، لكنه صرّح في الوقت نفسه أنه لا يسعى خلف الثأر لأن الأهم في نظره هو مصلحة البلاد. وقد أثار هذان الموقفان اللذان عبّر عنهما الحريري، أكثر من تعليق. فقد انتقد كثرٌ، في فريق 14 آذار سابقاً، غياب الحزم لدى رئيس الوزراء.

أما في الفريق السياسي لـ”حزب الله” وحلفائه في النظام الحالي، فقد سادت البهجة، وأُشيد بهذا الموقف الذي اعتُبِر أنه ينم عن حكمة. وهكذا فإن الفريقَين يختلط عليهما الفارق بين “العدالة” و”الثأر/العقاب/القصاص”. غير أن طبيعة المحكمة بذاتها لا تسمح بإجراء الربط التقليدي بين “العدالة” و”القصاص”، إذ لا يبدو أن غايتها هي فرض معاناة ما على المذنب بما يمنح عزاء متكافئاً للضحية.

قال ممثل الادعاء نايجل بوفواس، في عرضه “للعناصر المكوِّنة للفعل الجرمي الخطير” الذي شكّله اعتداء 14 شباط 2005، بكلامٍ واضح إننا أمام “جريمة نكراء ضحيتها الشعب” والهدف منها “بثّ رسالة من الرعب والهلع والألم”. إذاً الشعب اللبناني هو مَن يجب إحقاق العدالة لأجله والتعويض له. يجب ألا ننسى أبداً أن الحركة الشعبية التي انطلقت عام 2005 رفعت شعار “معرفة الحقيقة”.

بعد ثلاثة عشر عاماً، ظهرت الحقيقة وأخيراً. يبدو أن الأدلّة التي تُثبت تورُّط المجرمين دامغة. عند وقوع الاعتداء، أشار الرأي العام بإصبع الاتهام إلى محور طهران – دمشق – “حزب الله”. واليوم أُقيم الإثبات؛ وبات الشعب اللبناني، بوصفه ضحية، يعرف الحقيقة التي طال انتظارها. لقد انكشفت إلى العلن.

عندما تظهر الحقيقة، وحتى لو حدث ذلك داخل صرح قضائي، لا تؤدّي بالضرورة إلى قلب نظام الأمور رأساً على عقب. ليست الحقيقة عنيفة كما الشر. بل إنها هادئة ناعمة مثل نسيمٍ ربيعي. الحقيقة منعشة كما قطرات الندى الصباحية. وهي، بطبيعتها، تواسي وتُحرّر من كل الضغائن. الحقيقة تسمح للضحية بأن تعيش وأخيراً الحداد وتتطلع إلى المستقبل من دون أن تكون مكبّلةً بالماضي. هي تمنح السكينة والهدوء.

وتسمح لنا بأن ننظر مباشرةً في عينَي المجرم، أياً يكن، ونقول له من دون خوف: أنت مَن قتلت، أنت من تسببت لي بالمعاناة، أنت جلاّدي ومعذّبي. هل سنرى يوماً ما وزير العدل اللبناني يقترح على الشعب اللبناني، على ضوء الحقيقة في المحكمة الخاصة بلبنان، العمل وأخيراً على تنقية ذاكرته على طريقة ما حصل في بلدان أخرى: جنوب أفريقيا ورواندا وتوغو والأرجنتين، إلخ. لم يعد بإمكان المجرمين أن يلتحفوا ببهارج كرامةٍ كاذبة.

الملاحقات الجزائية وعقاب المجرمين هي، وفقاً للمدّعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ر. غولدستون، “الشكل الأكثر شيوعاً للعدالة. لكنها ليست الحل المناسب الوحيد. فكشفُ الحقيقة بصورة علنية ورسمية هو في ذاته شكلٌ من أشكال العدالة”. يحتفظ أسوأ المسوخ المجرمين، شرط ألا يكونوا أشخاصاً سيكوباتيين منفصلين تماماً عن الواقع، بجوهرٍ ما غير ملموس يجعل منهم إخوة في الإنسانية.

هذا هو الاستنتاج الذي توصّلت إليه الطبيبة النفسية الجنوب أفريقية بوملا ماديكيزيلا التي أجرت أحاديث عدّة مع “عبقري الشر”، يوجين ديكوك، الذي مارس فنون التعذيب، وكان استنتاجاً مفاجئاً جداً لها. عندما تنكشف حقيقة الجريمة الجماعية إلى العلن، تؤدّي هذه الحقيقة، في شكل من الأشكال، دور المرآة التي تعكس النزعة إلى الشر في داخل كل واحد منا.

يضع نيتشه، في “أطروحة علم الأنساب الأخلاقي”، قائمة لافتة بكل المعاني التي يمكن إعطاؤها لكلمتَي قصاص وعقاب: منع وقوع مزيد من الأضرار، تعطيل القدرة على إلحاق الأذى، التعويض على الضحية المتضررة، إلخ. غير أن لوران باشلر يضيف: “هناك أمرٌ ما يلفت بغيابه عن القائمة ولا يستطيع القصاص الحصول عليه، إنه الشعور بالذنب الذي من شأنه أن يوقظ ندماً حقيقياً في ضمير المجرم”.

لا شك في أن هذا هو الهدف الذي يجب بلوغه في لبنان. كيف يمكن أن يستمر قاتلٌ في العيش وسط مجتمع يُشير إليه علناً بإصبع الاتهام؟ هل يمكنه أن يواصل الكذب، والاختباء خلف تهريجه المعهود؟ حقيقة الشر، عندما تنكشف على الملأ، أشبه بعين الله التي تُلاحق قاين ليل نهار. ليست عيناً عنيفة، ولا تسعى إلى الثأر، ولا ترغب في إضافة مزيد من العنف إلى عنف الجريمة.

عين الله، أو عين الشعب اللبناني في هذه الحالة، حاضرة دائماً. إنها متيقّظة دائماً. وتذكّر، على الدوام، جلاّديها اللبنانيين بقصة الجريمة التي ارتكبها قاين بحق أخيه هابيل. جاء الله نحو قاين وقال له: “أين هابيل أخوك؟” فأجاب قاين: “لا أعلم. أحارِسٌ لأخي أنا؟” إلى المجرمين الذين كشفت المحكمة الخاصة بلبنان عن هوياتهم، يقول الشعب اللبناني مردّداً على الدوام: “جميعنا مسؤولون بعضنا عن بعض لأننا شعبٌ واحد، نتشارك وطناً واحداً”.

ينبغي أن يمهّد الحكم المرتقَب صدوره عن المحكمة الخاصة بلبنان الطريق أمام مصالحة لا تتحقق إلا من خلال تنقية الذاكرة التي تَشفي من كل عنف. لأجل هذه الغاية، يجب إنشاء “لجنة حقيقة ومصالحة” كي تنهض بهذه المهمة تحديداً.
*أستاذ في الجامعة اليسوعية