حنا صالح/لماذا قُتِل رفيق الحريري؟

187

لماذا قُتِل رفيق الحريري؟
حنا صالح/الشرق الأوسط/20 أيلول/18

«ظلمة حالكة حلّت على لبنان». بهذه العبارة وصف محامي الادعاء نايجل بورفواس جريمة قتل الرئيس رفيق الحريري يوم الرابع عشر من فبراير (شباط) 2005. ومن دون أدنى مبالغة ما زالت هذه الظلمة مخيمة، لأن لبنان حتى تاريخه يفتقر للعدالة التي من دون تحققها فلن يكون ممكناً لبلد الأرز أن يستعيد استقراره الحقيقي. ورهان اللبنانيين اليوم كبير جداً وهم يتابعون المرافعات الأخيرة أمام المحكمة الدولية بأنه عندما ينطق رئيسها بالحكم يكون المعبر الإلزامي للاستقرار قد توفر. هذا المعبر هو القول الصريح للقتلة إن هذه الجرائم لم يعد ممكناً تسجيلها ضد مجهول، وإن يد العدالة وإن تأخرت أو تعثرت فبمقدورها في نهاية المطاف تجاوز عمليات تزوير الحقائق لتجهيل الفاعل، وبالتالي فإن رفض التنازل عن معرفة الحقيقة شكل التمسك بالعدالة للضحايا بداية كما للأحياء ثانية.

الأدلة القاطعة التي استعرضها الادعاء ذهبت للتأكيد على أن الجريمة ارتكبت على خلفية الانتخابات النيابية التي كان يُزمع تنفيذها بعد فترة، وأن الحريري رفض طلبات «الوالي» السوري رستم غزالة أخذ مرشحين – ودائع سورية على لوائحه، وأنه بالعكس أعلن اعتزامه خوض المعركة الانتخابية متحالفاً مع قوى معارضة أبرزها وليد جنبلاط، الذي سبق له أن طالب سوريا بإعادة انتشار جيشها باتجاه البقاع وتنفيذ انسحاب شامل من بيروت والجبل لكل القوات السورية. ويشرح الادعاء القراءة السورية لهذا التطور بقوله: «مثّل الحريري التهديد الخطير لكل الذين تحالفوا مع سوريا ومصالحها المستقبلية، وأنه حليف للمعارضة سيتسبب بتقويض الوضع القائم لخفض قيود القبضة السورية على لبنان». هذا التطور ناقشه العميد غزالة مع وفيق صفا؛ المسؤول الرفيع عن الأمن في «حزب الله»، وتُظهر حملة التصعيد السياسي آنذاك أن «النظام السوري كان في صلب مؤامرة الاغتيال».

ولأن المحكمة في نظامها الأساسي لا تحاكم أنظمة ولا كيانات سياسية، ذهب الادعاء باتجاه العناصر التي أُوكل إليها تنفيذ الجريمة، فقدم ألوف الأدلة ذات الوزن القاطع التي «لا تترك مجالاً للشك في أن المتهمين الأربعة مذنبون». كما أبرز الادعاء الدور القيادي والمحوري للمتهم مصطفى بدر الدين، الذي تم رفع اسمه من اللائحة بعد الإعلان عن مقتله في سوريا عام 2016، ولاحظ الادعاء أن من أُوكلت إليه مهمة القيادة العسكرية لميليشيا «حزب الله» في سوريا هو صاحب المركز النافذ الذي قاد ووجّه عمل المتهمين. ولاحظ الادعاء ظهور اسم حسين خليل المعاون السياسي لنصر الله من خلال ربطه بشبكة الاتصالات، وأن هذا الأمر حدث مباشرة بعد 21 ديسمبر (كانون الأول) 2004؛ وهو تاريخ آخر لقاء جمع الحريري إلى نصر الله. وطبعاً هذا الأمر حمل إضافة نوعية، لأن لهذا الربط معطى كبيراً لجهة ربط الاتهام بـ«حزب الله» من خلال تحديد علاقة المرؤوس بالرئيس!!

يستفيض الادعاء بتقديم الأدلة ويؤشِّر على الوقائع؛ فالبلد آنذاك كان ممسوكاً من جهات أمنية سورية – لبنانية متكاملة، ومعها ما يمثله «حزب الله» من قوة عسكرية أمنية رديفة، ليخلص إلى التأكيد على أن التحضير للجريمة ما كان ليتم إلا في إطار «مؤسسة إجرامية» بوسعها أن تمتلك 2500 كيلوغرام من المتفجرات العسكرية التي لا تقتنيها إلا الدول، والأهم أنه بإمكانها التنقل بها في شوارع مكتظة بالناس.

طبعاً لا يمكن استباق اكتمال المرافعات والمذاكرة للقضاة الخمسة الذين لديهم فترة تمتد حتى 4 أشهر للنطق بالحكم، لكن إذا كان النظام السوري الذي أخضع لبنان للاحتلال الكامل في صلب عملية الاغتيال كما يؤكد الادعاء أمام المحكمة الدولية، فهل كان اعتزام الحريري خوض الانتخابات مع المعارضة عنصراً حاسماً للقرار الكبير بحذفه جسدياً؟ وهل كان لما مثله الحريري من رمز قيادي عربي لأوساط واسعة من السوريين؛ لا سيما أهل السنّة، أيضاً التأثير في التعجيل بالقرار؟ ولماذا لم يشمل الاتهام الثنائي «غزالة – صفا»؟ وإذا كان الادعاء قد جزم بـ«الوزن القاطع للأدلة» لاتهام الأربعة الأمنيين في «حزب الله» سليم عياش، وحسن مرعي، وحسن عنيسي، وأسد صبرا، فالسؤال المشروع هنا يصبح عن الجهة الحقيقية التي يعود إليها مثل هذا القرار، وهو اغتيال على أعلى مستوى.

يروي القيادي في «تيار المستقبل» الدكتور مصطفى علوش أنه في شهر مارس (آذار) من عام 2006 وفي ذروة الجهود التي كانت تُبذل لاستبعاد أي فكرة عن دور لـ«حزب الله» في الجريمة، حدث لقاء مع السيد نصر الله الذي نصح زواره بأنه إذا كان هناك ما نسبته 5 في المائة من الشك بأن النظام السوري ليس وراء الجريمة فلا يجوز اتهامه، وعندما قيل له إن كل المعطيات السياسية تشير إلى تورط نظام دمشق بنسبة 95 في المائة، رد قائد «حزب الله» بأنهم في سوريا لا يملكون القدرة الأمنية والفنية على التنفيذ بشكل محكم لعملية بهذا الحجم. وهذا الكلام يفتح على الأسئلة الأكبر عن الجريمة. هنا يُذكر الرئيس فؤاد السنيورة بأنه أفاد أمام لجنة التحقيق الدولية بما بلغه من الرئيس الحريري عن اكتشاف أكثر من محاولة من «حزب الله» لاغتياله.

نفتح مزدوجين للإشارة إلى أنه بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والعواصف التي أطلقها فريق المحافظين الجدد من محاولة وسم العالم العربي والسنّي بالإرهاب، كان الرئيس رفيق الحريري أحد أبرز الشخصيات العربية وربما الشخصيات الإسلامية، التي حاورت المسؤولين في واشنطن كما كل العواصم الغربية ولا سيما باريس، حول لا عقلانية توجيه الاتهامات جزافاً ضد أكثر من مليار سني في العالم، وأخذهم بجريرة مجموعة من الإرهابيين الذين يعيثون قتلاً وإجراماً في البلدان العربية قبل غيرها. وبمعزل عن حجم التأثير أو الاهتمام الغربي بما حمله الحريري في زياراته المتكررة، فهناك من استاء وهناك من قرر ومن تحيَّن الفرص، ولا داعي للبحث طويلاً، لأن المستفيد معروف، والتنسيق الوثيق بين نظام الملالي في إيران و«القاعدة» وبن لادن على وجه الخصوص، كان أشبه بالخط البياني الذي امتد من بيشاور وأفغانستان إلى الخرطوم مروراً بطهران، وشكلت بدايات معارضة الحريري للتسلط السوري على لبنان، المناسبة لوضع هذا القرار الكبير حيز التنفيذ.

في خضم حرب عام 2006 وأمام هول الدمار الذي أنزلته الآلة الحربية الإسرائيلية بلبنان، كانت للسيد نصر الله تلك العبارة الشهيرة: «لو كنت أعلم…» لتؤكد المعطيات المختلفة بأن طهران في حينها هي المسؤولة كالعدو الإسرائيلي عن الدفع بهذا الاتجاه، والأمر ليس مستبعداً ولا غريباً عندما تتفاخر وتعتز قيادات «حزب الله» بأنهم جنود في جيش الولي الفقيه!! الأمر الذي يطرح الأسئلة الجدية؛ أقلّه عن الشراكة بين دمشق وطهران بالقرار الذي وضع لبنان تحت ظلمة حالكة. والعدالة الآتية وحدها ستؤمن المعايير للتطبيق على كل الجرائم الكبيرة التي لم تشملها المحاكمة الدولية الحالية.