حازم الأمين/محكمة الحريري بعد موت أبطال حكايتها

67

محكمة الحريري بعد موت أبطال حكايتها
حازم الأمين/الحرة/13 أيلول/18

أشهر قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. قبل أيام، باشرت المحكمة جلسات تسبق حكمها النهائي على المتهمين بارتكاب جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري.
لكن السنوات العشر المنصرمة شهدت وقائع متصلة بعمل هذه المحكمة تصلح لتخصيب الخيال البوليسي التفاعلي. “غيمينغ” سياسي وأمني لم يسبق لجريمة قتل أن حظيت بمثله. فمعظم المتهمين بالجريمة قتلوا واحدا بعد الآخر، في لعبة حرب مكشوفة. عماد مغنية ومصطفى بدر الدين وغازي كنعان ورستم غزالي وجامع جامع؛ جميعهم قتلوا في السنوات العشر من عمر المحكمة. وهؤلاء وإن لم تتهم المحكمة بعضهم، إلا أنهم على صلة وثيقة بما حفلت به محاضر التحقيق.
من قتل الحريري مهد لحروب هائلة شهدتها مرحلة ما بعد الجريمة
ومن المرجح أن يكون غيرهم قد قتل أيضا، طالما أن الموت اقترب من المتهمين ومن المنفذين إلى هذا الحد، وطالما أنه موت معلن ومحاط بروايات شديدة الركاكة وغير ساعية لانتزاع صدقية. فغازي كنعان مات منتحرا ورستم غزالي داهمه مرض غامض وجامع جامع مات وهو “يقاتل الإرهاب” في شمال سورية. أما مغنية وبدر الدين فموتهما وإن لابسه غموض، إلا أن الرواية عنه كانت أكثر تماسكا.
نظرة من مسافة عشر سنوات على هذه الوقائع ستكون مختلفة، خصوصا لأناس مثلنا عايشوا تفاصيل ما جرى، وهو ما أفقدهم القدرة على التقاط مشهد أبعد.
لعل الأكثر تراجيدية في ما شهدته سنوات المحكمة العشر، هو مشهد ابن القتيل، أي سعد رفيق الحريري، في قصر المهاجرين في دمشق وفي ضيافة من يعتقد أنه قاتل والده. الأرجح أن سعد في تجواله في أنحاء القصر راح يبحث عن الغرفة التي شهدت صدور قرار الإعدام.
وهنا صار بالإمكان استدخال التراجيديا على البعد البوليسي للحكاية. علما أن الخيال لم يأتِ دوره بعد، فالوقائع أعلاه كلها صحيحة وموثقة، وجرت تحت أنظارنا نحن أهل القتيل وأهل القاتل. وهي جرت من دون أن يكون لنا يد فيها.
نستيقظ في الصباح على خبر موت رستم غزالي، وفي اليوم الثاني نشاهد مقاطع من جنازته “المتواضعة” في دمشق. لم يحضرها أي من رجاله، وأي من أفراد الطبقة السياسية في لبنان ممن صنعهم الرجل من ألفهم إلى يائهم. دور الخيال هنا مقتصر على التوقع، وهذا الأخير واقعي وممكن. فلنتخيل مثلا سياسي لبناني يشاهد عبر التلفزيون جنازة الجنرال صاحب الأفضال عليه، أو سياسي آخر كان غزالي قد صفعه في لحظة غضب! هذه كلها مشاهد من فيلم غير متخيل عن الجريمة. الأول سيكون سعيدا بأنه لم يجبر على حضور الجنازة والثاني سيكون سعيدا بموت من صفعه، والاثنان لن يصرحا بما انتابهما من مشاعر.
وسنوات المحكمة العشر هي سنوات سياسية أيضا. شكلت حكومات في ظلها، وأسقطت حكومات على ضفافها. ثورة السوريين على نظامهم انطلقت بالقرب منها، وانتصار النظام على الثورة جعل من الجريمة أمرا من الممكن أن يتكرر.
الجريمة حدث انعقد عليه ما لا يحصى من الحقائق. ولبنان وسورية ترنحا وفق ما أملته من نتائج. فمن قتل الحريري، أطلق شياطينا جديدة وافتتح زمنا مختلفا. من قتل الحريري قوض نفوذ النظام في سورية، لكن ليس لمصلحة خصوم هذا النظام إنما لمصلحة رعاته الأكبر. ومن قتل الحريري، خلق شريحة كبيرة من “الأيتام” السياسيين لم تجد إلى اليوم أبا بديلا. ومن قتل الحريري مهد لحروب هائلة شهدتها مرحلة ما بعد الجريمة.
معظم المتهمين بالجريمة قتلوا واحدا بعد الآخر، في لعبة حرب مكشوفة
تجري اليوم وقائع جلسات المحكمة في لاهاي، بصفتها تتويجا لعمل القضاة والمحققين طوال السنوات العشر. من المفترض أن هؤلاء كانوا يعملون بعيدا مما جرى بعد وقوع الجريمة. فبينما كان المحقق يوثق الوقائع مات رستم غزالي! من المفترض ألا تهتز الحكاية بفعل هذا الحدث. وبينما كان المدعي العام يتلو البيان الاتهامي مات المتهم الرئيسي! وهذا ما لا يجب أن يغير بالقرار الظني!
فمثلما عمل القضاة ببرود وصمت هائلين، عمل المنفذون على نحو مواز، بحيث صار لدينا حكايتين، واحدة في لاهاي وأخرى في بلاد الشام. فصلهما يفيد كلا المؤلفين، فهو يؤمن للأول الابتعاد بالحكاية عن بيئتها مما يسهل عليه بناءها وتقميشها، ويؤمن للثاني تصوير الحكاية بصفتها لعبة بين قبور أبطالها، لا بين الأحياء منهم.
الأرجح أن حكم المحكمة لم يعد مهما، سياسيا على الأقل. النظام السوري أعاد التقاط أنفاسه، وحزب الله منتصر حتى الآن، ولن يفيد الحكم “أهل القتيل” ذلك أنهم في أوضاع سياسية لا تمكنهم من الاستثمار فيه، لا بل ربما أربكهم الحكم وضيق خياراتهم.
لكن، حكم المحكمة سيفيدنا نحن من شهدنا الجريمة وعشنا على وقع ما رتبته ما مآس وحروب. سيفيدنا في أن يصبح بين أيدينا حكاية مكتملة العناصر، ليس عن الجريمة فحسب، إنما حكاية لا لبس فيها عن أنفسنا وعن ما جرى حولنا. حكاية لا ترتب مهام كبرى بقدر ما تؤسس لوعي ضمني في أننا نعيش على نحو قريب جدا من جريمة كبرى لم تنته فصولها بعد.