محمد قواص/خيبة السلطان وصهره

85

خيبة السلطان وصهره
محمد قواص/العرب/16 آب/18

الاقتصاد التركي يدفع ثمن تهور أردوغان
يتولى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التصدي لعلل الاقتصاد في بلاده بعلاجات هي أشبه بالتعويذات الروحية التي لا تؤثر في لوحة المعدلات والإحصاءات والمنحنيات البيانية لقطاعات الإنتاج في تركيا. والرجل الذي بنى أمجاده وأمجاد حزبه على ما حُقّقَ من نقلة اقتصادية نوعية لتركيا بعد الوصول إلى السلطة عام 2002، يتأمل كل يوم انهيارا يضع تركيا ونظامه السياسي في موقف حرج يهدده كما يهدد الاستقرار في بلاده.

يربط أردوغان الانهيار غير المسبوق في أسعار العملة التركية بالتوتر الحاصل مؤخرا في علاقات تركيا بالولايات المتحدة. يحوّل الرجل أزمة الإدارة الاقتصادية التي تتحمل مسؤوليتها حكومة حزب العدالة والتنمية وتتحمل وزرها الأكبر قرارات وسياسات اعتمدها أردوغان شخصيا، إلى “قضية وطنية” في مواجهة “مؤامرة أميركية” ضد بلاده. وقد يجوز هنا التساؤل حول نجاعة اقتصاد تنهار عملته وترتبك قطاعاته بمجرد أن تفرض واشنطن عقوبات على وزيريْن تركيين، وترفع من تعريفتها الجمركية ضد قطاع إنتاجي تركي واحد هو الفولاذ والألمنيوم.

ليس في الأمر أي عجب. لا ترتبط الأزمة النقدية الحالية بالعقوبات الأميركية ولا بتدهور العلاقات بين واشنطن وأنقرة. لا بل إن الأزمة بنيوية لم يفعل التوتر الأميركي التركي إلا منح أردوغان ورقة يتلطى خلفها مواراةً لسوء إدارة، معطوفا على فساد ومحسوبيات تتغذى من أجواء سياسية متوترة منذ محاولة الانقلاب في يوليو عام 2016.

يعرف الاقتصاديون أن “الإجراءات الضرورية” التي أعلن عنها المصرف المركزي التركي لن تستطيع كبح جماع الانحدار في قيمة الليرة التركية. ويعرف الاقتصاديون أن عملة البلد ليست سوى مؤشر للعافية الاقتصادية التي تعاني من إجهاد حقيقي منذ عامين على الأقل. فأن يتجاوز سعر الدولار عتبة الـ7 ليرات، فذلك انهيار قياسي لم يستشرفه أردوغان وحزبه الحاكم.

والمشكلة الأكبر أن الشركات التركية كانت استدانت بشكل كبير في الأعوام الأخيرة بالدولار. وهذا يعني أن انهيار قيمة الليرة سيفرض على الدائنين صعوبات مالية قد تمنعها من تسديد مستحقاتها. أمر كهذا يهدد بإفلاس جماعي يضع كل النظام الاقتصادي في خطر. لكن ماذا حصل في الأشهر الأخيرة حتى تتفاقم الأزمة النقدية الراهنة؟

وصل التضخم إلى معدلات غير مسبوقة منذ عام 2003 (15.39 بالمئة في يوليو الماضي). يجري الأمر داخل ظروف اقتصادية صعبة يفصح عنها تآكل قيمة الليرة في الأسواق. أمر كهذا أضعف القوة الشرائية للأتراك، ورفع معدلات الأسعار على نحو موجع (24.41 بالمئة للنقل و19.4 بالمئة للمواد الغذائية).

نهلَ الاقتصاد التركي ازدهاره السابق مما تملكه قطاعاته من ديناميات إنتاجية وتسويقية متراكمة. وليس صدفة أن ينكشف وهن هذا الاقتصاد حاليا مع توجه أردوغان للسيطرة على الاقتصاد. عمل الرجل على ذلك منذ إعادة انتخابه رئيسا يتحلى بصلاحيات مطلقة محضته إياها الإصلاحات الدستورية التي سهر على صياغتها. لم يعد المصرف المركزي التركي الذي يصدر العملة يملك أي استقلالية عن السلطة السياسية. وحين طالب خبراء الاقتصاد ومنابر السوق الرئيس التركي بمواجهة التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة، وهو علاج كلاسيكي معروف، أصر أردوغان على رفض الأمر لأسباب تتعلق بالسياسة وليس بالاقتصاد. فحتى حين بشّر المصرف المركزي الأتراك بإجراءاته لم يفصح عن مصير معدلاته.

الأزمة بنيوية لم يفعل التوتر الأميركي التركي إلا منح أردوغان ورقة يتلطى خلفها مواراةً لسوء إدارة، معطوفا على فساد ومحسوبيات تتغذى من أجواء سياسية متوترة

قبل الغضب الأميركي وعقوبات واشنطن، لم ترتح الأسواق التركية لقرار الرئيس التركي تعيين صهره بيرات البيرق وزيرا للمالية في 9 يونيو الماضي. بات الصهر، إضافة إلى منصبه، يحظى داخل الحكومة التركية بنفوذ متقدم على نحو يعتبر من خلاله رئيس الحكومة الفعلي.

بدا أن أردوغان استدرج واشنطن نحو الغضب الذي تحوّل إلى عقوبات ضد أنقرة. يتساءل الأتراك ما الحكمة من احتجاز القس الأميركي أندرو برونسون الذي عاش في تركيا منذ أكثر من عقدين راعيا لكنيسة القيامة في إزمير؟ ثم كيف استفاقت أنقرة على الرجل “جاسوسا” و”إرهابيا” ينسّق مع حزب العمال الكردستاني؟ ثم ما العبقرية في ربط مصير “الداعية الأميركي المسيحي” في تركيا بمصير “الداعية المسلم التركي” فتح الله غولن في الولايات المتحدة؟ ثم أخيرا هل تملك تركيا مناطحة الولايات المتحدة لتهدد تارة بإهمال الدولار، وتارة أخرى بالالتحاق بالشرق متخلية عن تاريخها الأطلسي، وتارة ثالثة باستبدال “آي فون” بـ”سامسونغ”؟

خرج القسّ برونسون من سجن بقي فيه عاما ونصف العام ووضع تحت الإقامة الجبرية. في هذا أعراض تراجع تركي سينتهي حكما إلى إطلاق سراحه طالما أن الأمر أصبح قضية شخصية بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وخصوصا لنائبه مايك بينس المسيحي الإنجيلي الذي ينتمي إلى نفس الكنيسة التي ينتمي لها القس في تركيا. لكن الظاهر أيضا أن أردوغان قد لا يكون مستعجلا على حلّ عقدة القس الأميركي، ذلك أن فك العقدة مع واشنطن لن يعيد للأسواق عافيتها، فمعاقبة وزيرين تركيين ورفع التعريفة الجمركية الأميركية على الفولاذ والألمنيوم ليست أسبابا حقيقة لتوعك الاقتصاد والعملة في البلاد.

الأزمة في عرف أنقرة “مؤامرة”. حتى أن وزارة الداخلية التركية أعلنت أنها تراقب وسائل التواصل الاجتماعي، متهمة بعضها بأنها تروّج لما من شأنه إضعاف الليرة التركية.

والأزمة في عرف المستثمرين الأجانب ليست كذلك. يذكر هؤلاء أنه في بداية الألفية الثانية تقدمت تركيا بصفتها اقتصادا مزدهرا واعدا. حتى أن صناعة الألبسة في البلاد باتت قطاعا منافسا للصناعات الأوروبية، فما الذي حصل؟

تبدلت طباع النظام وأضحت ملتصقة بطموحات أردوغان الشخصية. جاءت محاولة الانقلاب عام 2016 لترفع من منسوب التوتر الداخلي الذي يمقته الاقتصاد. ثم إن ضرب استقلالية المصرف المركزي، وهو الذي لعب طويلا دور الساهر على الاستقرار النقدي والمالي في تركيا، قلب وضع تركيا من ميدان جاذب إلى آخر طارد للاستثمارات الأجنبية. فكان أن كثيرا من الشركات الأجنبية قررت تحجيم أنشطتها، أو الانسحاب نهائيا من السوق التركي بسبب الأجواء السياسية الملتبسة في البلاد.

يتحمل حكم حزب العدالة والتنمية الوزر الأكبر من الأزمة الراهنة للاقتصاد التركي. تتحدث التقارير عن تنامي المحسوبية والفساد من جهة، وعن تراجع في مستوى التعليم الضروري لازدهار أي اقتصاد من جهة ثانية، وعن تسييس المحاكم التي تفصل في نزاعات قطاع الأعمال من جهة ثالثة، ناهيك عن أجواء تخويف داخل الرأي العام لا تحبها الأسواق.

وعلى الرغم مما يشكله انهيار العملة التركية من مؤشر ضعف كبير، إلا أن الأرقام الرسمية التي نشرت عبر المكتب الوطني للإحصاءات حول تلك المتعلقة بالفصل الأول، كشفت أن تركيا سجلت معدل نمو وصل إلى 7.4 بالمئة، ما يضعها في مصاف الاقتصادات الرئيسية العالمية أمام الصين والهند.

غير أن للخبراء رأي آخر. يعتبر هؤلاء أن هذا النمو مصطنع مرتبط مباشرة بالمشاريع الحكومية العملاقة. ذكروا بأن صهر الرئيس، الذي يبحث في عواصم العالم هذه الأيام عن قروض تنقذ تركيا، تحدث بعد تعيينه وزيرا للمالية عن “سياسات اقتصادية جديدة”، إلا أن ذلك لم يحرر الاقتصاد ولم يطلق ديناميات جديدة له. فأن تنهار الليرة فذلك حدث خطير، في وقت تطلق فيه حكومة أنقرة مشاريعها العملاقة بما في ذلك إطلاق برنامج نووي جديد.

بيد أن اللافت هذه المرة أن خطابات أردوغان الأخيرة لا تهزّ أعمدة اقتصاد تركيا فقط، بل إن أسواق المال في العالم ترتعد من احتمال عدوى تصيب اقتصادات ناهضة. تحذر الغارديان والفايننشال تايمز من أن يتسبب فشل أنقرة في تأثير يشبه “مبدأ الدومينو” على اقتصادات أخرى عرضة للخطر.

يقرأ أردوغان ذلك.. وربما يبتسم، لكنه يعرف أنه لن يكون بعد اليوم سلطانا.