حازم الأمين/المواطن الفاسد

62

المواطن الفاسد
حازم الأمين/الحرة/09 آب/18

أينما وليت وجهك في لبنان فسيصفعه مشهد فساد. إنه المظهر الأول للدولة في لبنان. ما إن تضع قدمك في المطار سيستقبلك فساد الدولة وأجهزتها، غير خجل من نفسه. عليك أن تدفع لشركة تاكسي المطار، وهي شركة خاصة تعود بصلة لأحد المسؤولين، أربعة أضعاف ما تتقاضاه سيارة التاكسي العادية. جرى ذلك بوقاحة لا تجاريها وقاحة في بلد ساع لأن تكون السياحة مصدر دخله الأول.

الفساد هو كل شيء في لبنان، تماما كما هي الطائفية كل شيء.
لا بل إن الفساد والطائفية صنوان، يتغذى أحدهما من الآخر. الدولة ليست فاشلة، أو ربما يصح القول إن الفشل ليس مظهر الدولة الأول. الفساد هو مظهرها الأول، وهو عنصر جوهري في تعريف الدولة لنفسها وفي تعريف المواطن لها. وهو بمعنى ما ليس عنصرا “سلبيا”، لا بل هو في معظم الأحيان سر “جاذبيتها” بالنسبة لمواطنها. فالفساد في هذا البلد منتخب. القوى السياسية، وهي جميعها جزء من مشهد الفساد، قوى منتخبة. الانتخابات الأخيرة جرت على أساس أن القوة الأكثر قدرة على تمثيل الجماعة هي القوة الأكفأ على مستوى الفساد. وهذا ما يفسر تدفق موجات الفساد على نحو فضائحي في أعقاب انعقاد المشهد السياسي على أساس نتائج الانتخابات.

صار للفساد فلسفته وخطابه في علاقته بالعمق الطائفي والمذهبي
يوميا، نفجع في بيروت بحكاية موثقة عن الفساد. كل يوم تنفجر فضيحة، لكن انفجارها لا يعدو كونه صوتا يدوي في الأذن ثم ينقضي ونمضي نهارنا بانتظار الانفجار الذي سيليه. لا أحد خجل من انفضاح أمره، ولا أحد مكترث. في الكهرباء فساد كبير، وفي مشكلة النفايات روائح صفقات قذرة، وفي البلديات وفي المطار وفي الأملاك البحرية وفي التعليم وفي مشاريع إغاثة اللاجئين. الفساد في كل شيء، وهذه ظاهرة تضاعف حضورها في أعقاب الانتخابات النيابية التي جدد فيها اللبنانيون لطبقة سياسية اعتبرت أنها نالت تفويضا جديدا يمكنها من القيام بالمهمة بموجب هذا التفويض.

والحال أن هذه الطبقة محقة بما تشعر به، ذاك أن الانتخابات لم تجر على أساس اختيار غير الفاسدين. لا بل العكس أحيانا، فشرائح واسعة من الناخبين تشعر أن القوة الأكثر قدرة على فرض نفسها وعلى تمثيل مصالحها هي القوة القادرة على أن يكون لها حصة أكبر من جبنة الفساد الطائفي. ثم إن للفساد في لبنان مصدر جديد، إذ أن الطوائف الممولة من موازنات الحروب الأهلية الإقليمية بدأت تفقد مصدر دخلها الرئيس. إيران والخليج يكابدان أزمات اقتصادية كبرى، وطوائفهما في لبنان لم يعد أمامها سوى أن تضاعف رهانها على مصادر الدخل المحلية. حزب الله نقل طموحاته في جني موازنات حروبه وتمويل “الجهاد” إلى الداخل اللبناني. قبله كان تيار المستقبل قد خطا خطوة في هذا الاتجاه. مصدر قوة هذا الفساد، ومصدر نفوذه ووقاحته هو حقيقة شموله قوى تملك شرعية تمثيلية حقيقية.

ثم صار للفساد فلسفته وخطابه في علاقته بالعمق الطائفي والمذهبي، فتجربة النقاش الذي جرى على ضفاف فضيحة الباخرة التركية التي رفضت حركة أمل رسوها أمام شواطئ جنوب لبنان لكي تزود المنطقة بالكهرباء نموذج. فسر رفض حركة أمل بصفته انحيازا لأصحاب المولدات الكهربائية المستفيدين من انقطاع الكهرباء. كان “حزب الله” في البداية محبذا لرسو الباخرة، إلا أنه عاد وقبل بموقف “أمل”، مقدما “وحدة الطائفة” على مصلحة أهل الطائفة. والنقاش حول هذه المعادلة جرى على نحو علني، ذاك أن مسؤولا “شرعيا” في الحزب ظهر على “يوتيوب” وقال إن الإمام الخامنئي قال إن وحدة الشيعة تتقدم في الأولويات على كل شيء، لا بل أنها تتقدم على “المقاومة”.

تكرر الأمر نفسه في واقعة الأموال التي استدانتها إحدى المؤسسات التابعة لرئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي. استفادت إحدى مؤسسات الرجل، وهو متمول كبير، من الفوائد المخفضة التي يقدمها مصرف لبنان، وجرى ذلك وفق حصص الطوائف وأركانها من هذه القروض. استفاد ميقاتي في مواجهة هذه الفضيحة من شبكة الأمان المذهبي، وجرى استيعاب الخبر في منظومة حقوق القوى المذهبية في حصص “الفساد الشرعي”.

يبقى أن مصدر قوة هذا الفساد، ومصدر نفوذه ووقاحته هو حقيقة شموله قوى تملك شرعية تمثيلية حقيقية عكستها نتائج الانتخابات الأخيرة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن قاعدة المستفيدين من نظام الفساد واسعة، فهو نظام استعان فيه المواطن على ضعف مفهوم المواطنة فاستبدل خدمات الدولة بخدمات موازية قدمتها له الطبقة السياسية الفاسدة، فصار الفساد سياسة، لا بل صار هو السياسة.