سجعان القزي/استيطانٌ سوريٌّ في لبنان وإيرانيٌّ في سوريا

83

استيطانٌ سوريٌّ في لبنان وإيرانيٌّ في سوريا
سجعان القزي/جريدة الجمهورية/الاثنين 11 حزيران2018

مشكلةُ النازحين السوريّين لا تَرتبط بلبنانَ فقط لكي نَصبِرَ عليها، ولا بالعَلاقاتِ اللبنانيّةِ – السوريّةِ فقط لكي نكتفيَ بالتواصُلِ الثنائي. إنها جُزءٌ من مشروعِ نقلٍ سكّانيٍّ جَماعيٍّ لشعوبِ دولِ المشرِقِ في العراق والاردن وسوريا ولبنان وفلسطين. ولذلك يُصِرُّ المجتمعُ الدوليُّ على ربطِ إعادةِ النازحين بالحلِّ السياسيِّ النهائيِّ في سوريا، وحتى في المِنطقةِ، ريثما تتبلورُ الخريطةُ الديمغرافيّةُ والكيانيّة (مؤتمرِي الصحفي لإعادةِ النازحين – 17 أيلول 2015).
هذا المشروعُ وَضعتهُ دولٌ كبرى تحت ستارِ تغييرِ الأنظمة، وتورَّطت فيه شعوبُ المِنطقة تحت ستارِ «الربيع العربي»، واشترَكَت فيه أنظمةُ المِنطقة تحت ستارِ المحافظةِ على وجودِها، ورَعَته الأممُ المتّحدةُ تحت ستارِ العاملِ الإنسانيِّ، ودَفعَ ثمنَه الفقراء، وحَمَلت عبأَه الدولُ الضعيفة. وإذا كانت الحروبُ سبَّبت النقلَ السكانيَّ، فالنقلُ السكانيُّ بدورِه سيَتسبَّبُ بحروبٍ جديدة.
واصلًا غائيّةُ هذا المشروعِ هي التالية:
-1 تغييرُ كِياناتِ دولِ المِنطقةِ وهوّياتِها القوميّةِ والديمغرافيّة.
-2 إقامةُ حزامٍ أمنيٍّ دائمٍ متعدِّدِ الطوائف حولَ الكِيان الإسرائيليّ.
-3 التجاوبُ مع أحلامِ عددٍ من الأقليّاتِ الإسلاميّةِ الباحثةِ عن حكمٍ ذاتيٍّ واستقلال.
-4 منعُ وجودِ كياناتٍ كبيرةٍ تحاولُ لَعبَ دورِ الدولةِ الإقليميّةِ الكبرى.
-5 إنهاءُ مشروعِ القوميّةِ العربيّةِ الذي انطلق من المشرِق.
-6 خلقُ حالةِ توتّرٍ دائمةٍ بين مكوّناتِ المشرِق لتحجيمِ دورِها وإلهائِها في ما بينها.
في البَدءِ ظننّا أنّ مشروعَ تغييرِ كِياناتِ دولِ المِنطقةِ وهوّياتِها القوميّةِ والديمغرافيّةِ يَخدِمُ مصالحَ إسرائيل الاستراتيجيّةَ فقط، فإذا به يَلتقي مع مصالحِ عددٍ من دولِ المِنطقةِ وشعوبِها. لقد دَغدغَ المشروعُ طموحاتِ أديانٍ وطوائفَ ومذاهبَ وإتنياتٍ شرقيّةٍ وعربيّةٍ وإقليميّة، فلاقَت الغربَ وإسرائيلَ عند منتصفِ الطريق ونَفذّت الشِقَّ المتعلِّقَ بها فيما تَرفع شِعارَ العَداءِ لهما.
مشروعُ نقلِ الشعوبِ العربيّة بوشِر به قبلَ الربيعَ العربيَّ وحربَ العراق. بدأ مع حربِ لبنان (1969/1990) حين جَرت محاولةُ إقامةِ دولةٍ فِلسطينيّةٍ بديلةٍ، فهُجِّرَ المسيحيّون (وهَجَّروا أنفسَهم) وحوصِرَ الدروزُ (بعد أن تورّطوا)، ثم توسَّع الشيعةُ (بعد أنْ تَسلّحوا) وغَنِم السنّةُ (بعد اتفاقِ الطائف). وما معارضىةُ الإعادةِ الفوريّةِ للنازحين السوريّين سوى تكملةٍ لــ«حربِ الديمغرافيا» المتواصِلةِ في لبنان.
في الربطِ التاريخيِّ، نستطيعُ العودةَ أيضًا إلى إنشاءِ دولةِ إسرائيل سنةَ 1949 حين حَصلت ثاني عمليّةِ نقلٍ سُكّانيٍّ في الشرقِ الأوسط بعد الفتحِ الإسلاميِّ للمشرقِ الآرامي – الكنعاني – الفينيقي (632/661). حين دخل الإسلامُ بلادَ الشام سنةَ 634، كان المسيحيّون فيها أربعةَ ملايين والمسلمون مائتي ألف فقط.
واليوم، فيما يَتباطأُ المجتمعُ الدوليُّ في سحبِ النازحين من لبنان، تَتعرَّضُ سوريا لإعادةِ نظرٍ جديدة في نسيجِها السكانيِّ والطائفيِّ ما يَجعل عودةَ النازحين تَخضعُ لعمليّةِ فرزٍ انتقائيّة. يتولّى النظامُ جُزءًا من هذا المشروعِ (الحدُّ من عودةِ النازحين السُنّة)، وتتعهّدُ إيرانُ الجزءَ الآخَر من دونِ التنسيق، بالضرورةِ، مع السلطات السوريّةِ (حملةُ تَشيُّعٍ واسعةٍ).
يَتقصّدُ النظامُ وضعَ معاييرَ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ وإداريّةٍ تعيقُ عودةَ النازحين السنّة المرتَبطين بالإسلامِ السياسيِّ والتيّاراتِ الإخوانيّةِ والسَلفيّةِ والتكفيريّة. وما إصدارُ المرسومِ رقم 10 إلّا ليكونَ الذريعةَ القانونيّةَ لقَبولِ أو رفضِ هؤلاء الّذين يَعتبرهم النظامُ شوكةً في خاصرتِه منذ قيامِه ويَتّهمُهم بتفجيرِ الأحداثِ في 16 آذار 2011، وقَبلَها في حمص وحلب وحماه في ثمانيناتِ القرنِ الماضي.
أما إيران فتَسعى إلى تحويلِ فئاتٍ سوريّةٍ علويّةٍ وسُنيّةٍ إلى المذهبِ الشيعيّ، وتَستقدِمُ شيعةً إيرانيّين وعراقيّين وأفغان وباكستانيّين لتوطينِهم بغيةَ زيادةِ أعدادِ الشيعةِ والعلويّين والإسماعيليّين وسائرِ الأقليّات في سوريا الجديدةِ على حسابِ الأكثريّةِ السُنيّة. حملةُ إيران التبشيريّةُ لاقت نجاحًا نسبيًّا في المناطقِ العلويّة (الساحلُ السوريّ) وأقلَّ في المناطقِ السُنيّةِ (حلب، حمص، حماه، دمشق، إدلب، دير الزور، والرقة). وترافقت مع ظاهرةِ ارتدادِ فئاتٍ سُنيّةٍ سوريّةٍ من أصلٍ شيعيّ إلى شيعيّتِها. هكذا أصبحَ عددُ العلويّين والشيعةِ والإسماعيليّين اليومَ نحو 13% أي 2.3 مليونٍ من أصلِ 18 مليونَ سوريٍّ (قبلَ النزوح)، وقد تبلغُ هذه النسبةُ نحو 20% في حالِ نجحَ النظامُ في الحدِّ من عودةِ نحو مليوني سنيٍّ من لبنان والأردن وتركيا.
هذه المعطياتُ تؤكد تلازمَ مصيرِ النازحين السوريّين بمشروع «الترانسفير» الجماعيِّ في المِنطقة، وتُحتّم أن يقاربَ لبنانُ وجودَهم على أراضيه من منظارٍ استراتيجيٍّ من دونٍ حَياءٍ أو خَشيةَ مَلامة.
لا النازحُ السوريُّ يستطيعُ تحمّلَ الخيمةِ التي تأويه، ولا لبنانُ يستطيع تحمّلَ بقاءِ مخيّماتِ النازحين على أراضيه. لو نَقل لبنانُ النازحين من بيوتٍ وثيرةٍ في لبنان إلى خيمٍ مُذِلّةٍ في سوريا، لكان يَرتكِبُ عملًا غيرَ إنسانيٍّ، لكنّه يَنقلُهم من خيمِ التعاسةِ في لبنان إلى بلادِهم الواسعة: سُورياهُم.
النازحون السوريّون هَمٌّ لبنانيٌّ يَستلزمُ حلًا فوريًّا ولو اضطرَّ لبنان إلى اتّخاذِ قراراتِ إعادتِهم من جانبٍ واحِد دونَ الاكتراثِ بموقِفِ المجتمعِ الدوليّ.
فالمجتمعُ الدوليُّ لن يتحرّكَ إلا إذا وَضعته الدولةُ اللبنانيّةُ أمام الأمرِ الواقع: فما يبدأُ لبنانُ بجمعِ النازحين وترحيلِهم إلى بلادِهم بسلطةِ القانون، حتّى تَهرعَ الدولُ إلى استلحاقِ نفسِها والالتحاقِ بالخُطّةِ اللبنانيّة، فتستقبِلَهم في سوريا عِوضَ أن تُثبِّتَهم في لبنان (غير هَيْك ما بتمشي الدول).
الضغطُ على المفوضيّةِ العليا للنازحين جيّدٌ كرسالةٍ توجِّهها الدولةُ إلى المجتمعِ الدوليِّ والدولِ المانحة للنازحين، لكن، عِوضَ أنْ يُحدِثَ هذا الضغطُ صدمةً إيجابيّةً دوليّةً، أحدَث صدمةً داخليّةً سلبيّةً بسببِ غيابِ التضامنِ الحكوميّ.
المفوضيّةُ العليا، بالنتيجة، تنفِّذ توجيهاتِ منظّمةِ الأممِ المتّحدةِ التي ترتكز على دمجِ النازحين السوريّين – واللاجئين الفلسطينيّين أيضًا – في المجتمعِ اللبنانيِّ وإسكانِـهم وتعليمِهم وتوظيفِهم وتوفيرِ الضماناتِ الصحيّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّةِ لهم وصولًا إلى التجنيسِ والتوطين. من هنا، يَجدُر توجيهُ الضغطِ الأساسيِّ إلى الأممِ المتّحدةِ وإلى حكوماتِ الدولِ الكبرى والاتحادِ الأوروبيّ التي تحرّكُ المنظمةَ الدوليّةَ وتَرعى حروبَ المِنطقة.