د. منى فياض: هل فقد اللبناني قدرته على الغضب أم إنه أضاع البوصلة؟

92

هل فقد اللبناني قدرته على الغضب أم إنه أضاع البوصلة؟
د. منى فياض/النهار/09 حزيران 2018

كأن المافيات المحلية لم تعد كافية في السوق اللبنانية، فيستورد المزيد منها. لكن هذه المرة من أعمدة النظام في القطر الشقيق على ما يبدو، النظام المفترض ان اللبنانيين تخلصوا من هيمنته بمعمودية دم الحريري.

إن خطوة التجنيس الأخيرة هي كالمستجير من الرمضاء بالنار. فأن نستحضر اشخاصاً واموالاً تطالهاالعقوبات الاميركية وتلبنن لتزيد المخاطر على انواعها، ومنها – عدا عن الاهانة المعنوية للشعب اللبناني – إعطاءنسبة الفوائد العالية المعتادة التي ستعود فتنعكس زيادة في خدمة الدين العام ما يفاقم المشكلة المالية. انها سياسة الإمعان في حفر البئر التي نغرق فيها، ناهيك بالعودة الى زمن الوصاية بأسوأ وجوهه.

مع ذلك لا يحرك المواطن اللبناني ساكنا سوى بالاعتراض الكلامي، ومن الافضل ان يكون افتراضياً.

ومع ان الوضع الاردني لا يزال أقل مأسوية من الوضع اللبناني، ذلك ان الاقتصاد الاردني يرزح تحت ثقل دين عام يبلغ 40 مليار دولار، بينما لبنان في طريقه الى الـ100 مليار دولار دين عام وحكومته تتصرف بنفس البذخ والانفاق والإهدار وكأنها في بلد البحبوحة والازدهار. ومع وجود الفساد في الاردن، لكن وضعه لا يقارن بلبنان الذي اعتاد مواطنوه ان لا يمر يوم واحد من دون فضيحة من العيار الثقيل، تأتي لتنسينا سابقتها كما مع المشكلة المستجدة مع الامم المتحدة!!
نعاني حجم فساد واعتداء على الدستور والقوانين والأعراف، بحيث لو عاد المؤسسون الاوائل بقدرة قادر الى الحياة لفضلوا البقاء في مكان إقامتهم الازلي.

ومع أن الوضع الاردني، إذاً، لا يزال أقل مأسوية من الوضع اللبناني بما لا يقاس، الا ان الشعب الاردني غضب وانتفض ضد خطط حكومته الضرائبية الخاضعة لمتطلبات صندوق النقد الدولي لجهة المزيد من فرض الضرائب، يطالبها بتغيير النهج من اساسه وليس النظام بعدما آلت اليه الأوضاع في البلدان العربية بعد الثورات.

اما في لبنان فلا نجد سوى الجمود او الجمدة،apathie بالأحرى بالتعبير السيكولوجي، وبالعجز عن القيام بأي مبادرة تجبر الحكم على تغيير نهجه وسلوكه.
فكيف سيضغط الشعب الذي أعاد انتخاب نفس الطبقة السياسية التي عجزت عن حل أي من المشاكل لكن بوجوه جديدة؟
ما الذي يحصل للبنانيين الذين اجبروا القوى العظمى على مساعدتهم في اخراج الجيش السوري من لبنان!!

هل كان ذلك لأن الانتفاضة التي عبرت عن الارادة الغالبة حينها عرفت وحددت هدفها: استعادة الاستقلال والسيادة؛ و”حزب الله” لم يكن قد امسك بعد بالوضع كما هو الآن ولم تكن دويلته قد تغلبت على الدولة وتحاول ان تحل مكانها!!
بتعبير آخر، لم يكن الشعب اللبناني قد انقسم وتشرذم بفضل جهود بعض سياسييه الى الحد الذي هو عليه الآن.

فالانقسام اللبناني والتذرر الطائفي والمذهبي وصل الى مستويات غير مسبوقة، والمواطن يقف عاجزاً مشلولاً امام الهدف الذي يريده ويحقق له مبتغاه: دولة سيدة نفسها تحتكر العنف وتقضي على الفساد وتستعيد عافيتها او القبول بانحلالها!!
ان استمرار هذا الانقسام العمودي بين من يرى ان السيادة هي في استعادة الدولة لنفسها والقضاء على الفساد وبين من يخضع لمنطق الخوف من الآخر او لمنطق القوة وييسر أموره الخاصة والشخصية ومن بعده الطوفان، سيؤدي الى الافلاس على جميع الاصعدة.

أسمع بعض التعليقات التي تضع اللوم على المعارضة الشيعية لتقصيرها وعجزها وانقسامها، او على بيئة “حزب الله” الحاضنة التي تسكر من فائض القوة التي يوفرها لها الحزب.
وفي هذا كثير من الصحة؛ لكن السؤال الجوهري: هل كان سيتمكن الحزب من وضع يده على الدولة دون تلك التغطية الدستورية والقانونية التي حصل ويحصل عليها منذ 2005 الى الآن من الآخرين سواء الحلفاء او الخصوم؟ ألم تتمدد التغطية لتشمل جميع شركاء السلطة، وإن لحسابات خاطئة احياناً؟

والبيئات الحاضنة هل تقتصر على الطائفة الشيعية يا ترى أم انها موزعة على الجميع؟
بحسب استطلاع للرأي اشار إليه مقال المركز اللبناني للدراسات السياسية LCPS لشهر حزيران يتبين ان اللبناني غير راض عن الأداء السياسي لحكامه ويدعم الاصلاح السياسي لكن في السر؛ فنسبة من يريد التغيير السياسي دون اشهار ذلك علناً تبلغ 70% لكن50% منهم لا تجرؤ على الاعلان عن رأيها على الملأ.

إذاً نصف الشعب اللبناني (بحسب تلك العينة) يوافق على إلغاء الطائفيّة السياسيّة، والتخلّي عن التوزيع المذهبي للسلطة، وإلى ممارسة المساءلة، وتقليص دور الأحزاب السياسيّة الطائفيّة، وضمان إنفاق الإيرادات على أساس الحاجات والأولويّات لكن في السر.

يبدو، بحسب المؤلفين، ان هؤلاء يهابون قادتهم الطائفيّين، القادرين على معاقبتهم على قناعاتهم السياسيّة، من خلال حرمانهم من المنافع الّتي يمكن تأمينها من خلال الشبكات الزبائنيّة. إلاّ أنّ خوفهم لا يقتصر على الإجراءات الّتي من شأن السياسيّين أن يتخذوها بحقّهم، بل إنّه أكثر تأصّلاً في محيطهم الاجتماعي والعائلي، بمعنى أنّ الناس أبدوا حذرًا من التعبير علنًا عن دعمهم للإصلاح لخوفهم من التعرّض لمعاقبة طائفتهم وعائلتهم وأصدقائهم. والأكثر خشية هم ذوو الدخل المتدني.

كما ان الجمهور الشيعي ليس وحده الملتف حول زعمائه المذهبيين خوفاً ومصلحة بل نجد ان الجميع يتشارك هذا الموقف. فالخوف عند السنة من تقديم الدعم العلني للإصلاح يعود لتصورهم ان طائفتهم تتعرض للخطر الداهم ويخافون من توقف الدعم السعودي لهم؛ اما المسيحيون فهم اقل ميلاً للإصلاح في الأصل لاعتقادهم انه قد يجعل منهم اكبر الخاسرين؛ ففيما هم ثلث السكان يحصلون على نصف المقاعد النيابية.

وهذا التحليل يدعّم ما سبق وأشرت اليه في كتابي “معنى ان تكون لبنان”، فالتجارب النفس- اجتماعية تبين ان الرغبة في التكيف مع المحيط لا تتماشى مع الرغبة بالتغيير. فالفرد المنتمي عضوياً الى طائفته ومذهبه يصعب عليه التخلي عن حب ودعم أعضاء جماعته واعتقاده بالصح والخطأ يرتبط باعتقادات محيطه وكلما وجد نفسه في بيئة طائفية ضيقة – كما أصبح عليه الوضع حالياً وخصوصاً بعد الحملات الاعلامية الانتخابية المحرّضة والمثيرة للغرائز التي مارسها أصحاب السلطةفي ظل قانونهم الانتخابي سيئ الذكر، ساهمت في لمّ الجماعات وتكتلها بعضها على بعض وفي رفع منسوب الخوف والتعصب. لذا نجد ان منسوب الخجل الاجتماعي، او الامتثال conformisme ، ارتفع لديها وضعفت قدرتها على مخالفة ما تفترض انه موقف الجماعة الذي أعلن عنه مسؤولوها جهاراً خلال الحملات الانتخابية. وتمرين انتخابات بعلبك فاضح في هذا المجال.

ان من بإمكانه الثبات على موقفه الذي يعتقد انه الصواب هم قلة قليلة وهم الأقل تكيفاً مع محيطهم. لكن تجدر الاشارة ان وجود اشخاص يوافقونهم الرأي سيدفعهم للثبات على مواقفهم المبدئية.

فمن أين سيأتي هذا الدعم؟ هنا السؤال.
والى ان ينكشف الغطاء الميثاقي من المشاركين في السلطة والفساد وتوابعهما مع الحزب، والى ان تقتنع عناصر المنتمين الى جماعاتهم الحاضنة بأن الفقر وانحلال الدولة وانهيارها يذهب بالمصالح والمكاسب ويطال الجميع، يمكننا ان نقول على الله العوض.

فالشعب اللبناني يستحق ما يحصل له. ولا ادري اذا كان الافلاس المالي التام قد يشكل الصدمة المطلوبة لاستفاقتهم!!