حازم الأمين/الحزن المسيحي…..العونية بصفتها المظهر الأول لـ”الألم المسيحي” تسبقهم خطوة في مشاعرهم هذه. باعت السيادة في مار مخايل

92

الحزن المسيحي
أن تضعف المناعة المسيحية حيال مؤشر الهوية اللبنانية، فهذا بداية أفول لبنان كفكرة وكوظيفة

حازم الأمين/الحرة/07 حزيران/18

بغض النظر عن الشراكات الأهلية والمذهبية التي انعقدت حول فضيحة مرسوم الجنسية في لبنان، والتي بدا واضحا فيها أن شراكة انعقدت بين تياري الوطني الحر (المسيحي) والمستقبل (السني) وحاولت تمرير منح الجنسية اللبنانية لعشرات من رجال الأعمال الذين ما زالوا مجهولي الهوية على رغم كل النقاش الذي رافق الفضيحة، فإن على المسيحيين اللبنانيين أن يفاتحوا أنفسهم بحقيقة مؤلمة بالنسبة إليهم وبالنسبة للبنانيين عموما، وتتمثل أن أوضاعهم أودت بهم إلى تصدع إيمانهم بلبنان بصفته مساحة مستقرة لوجودهم.

ونقول المسيحيين وليس السنة، شركاؤهم في المرسوم، لأن الأخيرين لم يشكل يوما إضافة مجنسين إلى جدول المواطنة في لبنان حساسية بالنسبة إليهم، ولا أرقاما تضاف إلى جداول ناخبي الطوائف الأخرى. فبالنسبة للسنة، أن يجنس رجل أعمال سوري (سني) وإن كان قريبا من النظام السوري (العلوي)، فهو في النهاية امتداد لحضور الجماعة، ولبنانيته المستجدة ستستوعب في الآليات المذهبية بصفته سنيا. ونحن هنا نتحدث عن شكل اشتغال لاوعي الجماعات المذهبية، لا عما تدعي أنها تدركه وتمارسه.

أن تضعف المناعة المسيحية حيال مؤشر الهوية اللبنانية، فهذا بداية أفول لبنان كفكرة وكوظيفة

السنة جماعة غير قلقة على رغم كل ما أصابها في العقدين الفائتين. وهم محقون في ارتخائهم وإن كانت نتائجه عليهم دموية. ففي لبنان كانوا أضعف الجماعات اشتراكا في الحرب الأهلية، وأكثرهم جنيا لعائداتها، وفق اتفاق الطائف.

تتفاوت الهوية اللبنانية في مضامينها بين طائفة وأخرى. لبنانية السنة أقل حساسية على قضية ضم مجنسين. هؤلاء إما سنة، وإما غير سنة، لكنهم لا يهددون الديموغرافيا السنية. للمسيحيين قصة أخرى مع هذه القضية. فثمة جهاز نفسي جماعي يحصي يوميا الداخل إلى هذه الهوية والخارج منها. حتى المجنسين المسيحيين، مرحب بهم كأرقام لكن لا ترحيب اجتماعيا بهم، وهذه حال السريان والمجنسين الفلسطينيين الذين يمارسون تقية قاسية على أصولهم، فلا يفصحون عنها بسهولة، ويعيشون نقصا في هويتهم اللبنانية يردون عليه بالمبالغة بها.

للمسيحيين قصة أخرى مع ظاهرة التجنيس؛ وهذا ما يدفع إلى التأمل بسهولة تبديدهم لبنانيتهم التي يعتقدونها نهائية ومغلقة على ثقافتهم وعلى من ضموا إليها من جماعات بعد إعلان لبنان الكبير. فكم بدا غريبا، لا بل مدهشا، انقياد التيار العوني وراء حزب الله، مبدد السيادة وباذلها على غير وجهها. الأمر لم يكن صعبا، وخيار الالتحاق بحزب الله لم يواجه بحساسية “سيادية” كان المرء يتوقعها. ضعف الحساسية هنا يشبه ضعفها في لحظة منح الجنسية لأشخاص من خارج “الهوية”. فالرئيس اللبناني ميشال عون عندما كان رئيسا للتيار الوطني الحر ووقع على وثيقة التفاهم مع حزب الله، وهو بذلك بذل للحزب السيادة والحدود والمستقبل، فعل ذلك متخففا مما تمليه عليه تلك اللبنانية من شروط لطالما كانت في صلب قوله ودعاويه، وهو فعلها اليوم أيضا متخففا من أي التزام حيال الهوية “الضيقة”.

ثمة شيء يشبه بيع الأصول قبل المغادرة، المسيحيون في لبنان يشعرون باقتراب المغادرة .. ثمة شيء يشبه بيع الأصول قبل المغادرة. المسيحيون في لبنان يشعرون باقتراب المغادرة. العونية بصفتها المظهر الأول لـ”الألم المسيحي” تسبقهم خطوة في مشاعرهم هذه. باعت السيادة في مار مخايل (الكنيسة التي وقع فيها حزب الله والتيار الوطني الحر وثيقة التفاهم بينهما)، وها هي شريكة في حفلة بيع رمزي للهوية. واليوم تشهد منطقة الأشرفية بيع مبان تراثية يشعر أصحابها أن قيمتها المعنوية لا تساوي مردودها المالي في حال استبدلت بمبان تجارية حديثة لا تنتمي إلى زمن المسيحيين، لكنها عائداتها تتيح مغادرة البلد الذي صاروا شركاء صغار فيه.

ولهذه الحقيقة جذرها الشعوري، فلبنان هذا كف عن أن يكون لبنان الذي أراده المسيحيون. هم شركاء صغار فيه. سياسيا وديموغرافيا واقتصاديا وثقافيا. ثمة شعور بفقدانهم ناصية الهوية المستجدة، وهذا ما ولد رغبة بالهجرة وما سهل بيع الأصول من سيادة وهوية وعناصر وجود. حزب الكتائب باع البيت المركزي للرئيس نجيب ميقاتي، أو وجد صيغة شراكة عقارية معه، وورثة كميل شمعون باعوا قصره في السعديات لآل الحريري. هذا بجزء منه ناجم عن شعور بعدم التمسك بـ”موجودات” الهوية، أو بأصولها الواقعية. فالهزيمة عميقة، وما العونية سوى أحد مظاهرها، والالتحاق بالجاليات صار طموحا للتخفف من ثقل الهزيمة ومن حزن جوهري يشعره المرء على وجوه من يلتقيهم في أحياء المسيحيين المترنحة بين عونية سلبية وبين والتأهب للمغادرة.

أن يبيع سياسيون سنة الهوية اللبنانية فهذا لا يصطدم مع مضمون لبنانيتهم التي لطالما أرادوها امتدادا لوجودهم الأكثري في المنطقة. أما أن تضعف المناعة المسيحية حيال مؤشر الهوية اللبنانية، فهذا ليس فسادا، إنما بداية النهاية، لكنه أيضا بداية أفول لبنان كفكرة وكوظيفة.