يوسف أمين/المركز الماروني للدراسات الاستراتيجية/بلاد فارس من قورش العظيم حتى خامنئي… هل تتغلب العنجهية على رجاحة العقل

156

بلاد فارس من قورش العظيم حتى خامنئي… هل تتغلب العنجهية على رجاحة العقل
بقلم يوسف أمين/المركز الماروني للدراسات الاستراتيجية
تورونتو/كندا/ 02 حزيران/2018

دخلت بلاد فارس تاريخ الشرق الأوسط من الباب الواسع مع قورش العظيم مؤسس الدولة الأخمينية (الفارسية) والذي استغل ضعف دولة ما بين النهرين ليفرض نفسه سيدا على كامل بلاد المشرق وينتشر خلفاءه غربا حتى البحر المتوسط وجنوبا حتى مصر وقد عرف الفرس فن السيطرة وفرض السلطة بالقوة من جهة، ولكن ايضا بنقل الشعوب واسكان الموالين لهم في مفاصل مهمة من البلاد وقد ساهم ملوكهم باعادة الشتات اليهودي من ما بين النهرين إلى فلسطين.

وبالرغم من أن الشعب اليهودي قد دون هذه العملية كبادرة حسن نية تجاه استير مع الشكر للفرس باعادته، يرى بعض الباحثين بأنها كانت عملية استيطان لشعب لا بد أن يكون مواليا لهم أكثر من السكان المحليين، وهو على ما يبدو شكل جزء من الفكر الاستراتيجي الفارسي الذي سنراه لاحقا.

وهم بدون شك، مع ارتشتحتا الذي دفع أهالي مدينة صيدا اللبنانية على احراق انفسهم ومدينتهم، اسكنوا شعوبا جديدة بعد اعادة اعمار هذه المدينة التي صارت فيما بعد مركز اسطولهم البحري وقاعدة الانطلاق للتوسع صوب بلاد اليونان، وكان قائد الأسطول البحري وهو من صيدا يعتبر الثاني بعد الملك مباشرة ايام حكم داريوس العظيم.

ولم يلتفت المؤرخون كثيرا إلى تفاصيل هذه العمليات الاستيطانية. إلا أنه ومع الأسرة الساسانية، وبالذات مع كسرى الثاني، الذي كان استغل ضعف الحكم المركزي في القسطنطينية واحتل انطاكية والقدس ودمشق، ذكر المؤرخون بأنه استقدم قبائل جبلية من بلاد فارس واسكنها في ممرات جبال لبنان لتحمي تقدم جيشه قبل أن يدخل إلى هذا البلد، وذلك لأن هرقل، وبعد أن كسر الفرس، فرض عليهم معاهدة صلح قاسية كان من ضمن شروطها إعادة كل الذين اسكنوهم في جبال لبنان إلى بلادهم.

ولكن الفرس ومع الفتح العربي فقدوا دولتهم المتميزة وهويتهم الدينية واضطروا أن يصبحوا جزءا من قوات الدولة العربية (أو الاسلامية) في توسعها نحو الشرق. ومع أنهم حاولوا الابقاء على لون خاص بهم ضمن الدولة الجديدة ما جعلهم فيما بعد يسهمون في الانقلاب على حكم الأمويين ليظهر نفوذهم في بدايات الدولة العباسية. وقد شكل البرامكة رمزا لدور الفرس في بدايات الدولة العباسية، إلا أنهم وبعد ما سمي “نكبة البرامكة” لم يعد لهم كبير التأثير على شؤون الدولة حيث حل لاحقا تأثير شرق آسيا وخاصة العنصر التركي.

أيام حكم الشاه كانت لإيران الجديدة اطماع توسعية وقد كانت تملك أكثر الجيوش تسلحا في المنطقة والكل يذكر موقف الرئيس الفرنسي بومبيدو واعتراضه على احتفالات برسيبوليس التي أراد فيها الشاه التذكير بعظمة المملكة الفارسية والظهور بمظهر الأمبراطور بينما يئن شعبه تحت ثقل الفقر بالرغم من ثروة النفط التي امتلكتها دولته يومها.

ومع الثورة الخمينية ظن الناس بأن العدالة ستسود مع حكم رجال الدين ولكن الخميني نفسه أطلقها ثورة عابرة للحدود متبنيا أحلام الشاه في التوسع نحو الجيران ولكن تحت غطاء عمامات الأئمة ووصاية “المرشد الأعلى”. وقد خلق الفرس هذه المرة ولاءً جديدا تمحور حول المذهب الشيعي ودفعوا بالغريزة الدينية إلى الواجهة حيث تحول شيعة لبنان المنفتحون على الأفكار العالمية حتى الالحاد تحولوا إلى أحد أهم الفيالق المقاتلة في سبيل انتشار ثورة الأئمة في دول الشرق الأوسط وقد شكلوا العنصر الأهم في عملية التوسع الفارسي الجديدة. وقد كان العراق بقيادته التقدمية (البعثية – السنية) وقف ومنذ بداية تصدير الثورة بوجه التمدد الإيراني وأجبر الخميني على القبول بشروط الهدنة إلا أن عنجهية صدام باحتلال الكويت من ثم خوفه من تحريك أيران لثورة شيعية – كردية دفعه إلى اتخاذ خطوات أثارت العالم ضده بعد أن تخلى عنه جيرانه العرب.

وبعد أحداث التاسع من أيلول والهجوم الأميركي الذي طوق إيران من الشرق والغرب ضبط الثعلب الفارسي أنفاسه وخطط لعودة الانتشار بعد الانتهاء من الهجمة الغربية حاضنا جماعات القاعدة بشكل سري. وبالفعل وفور انسحاب الجيش الأميركي من العراق عاد الفرس إلى عاصمة كسرى “المدائن” ومن ثم انتشروا غربا مع تأجيج الحرب الدينية (بين دولة الخلافة التي ساهموا في بعثها وبقية اجزاء العالم) وهم أرادوا بواسطتها فرز الشعب السوري حيث لقوا مساعدة الرئيس الأسد على ذلك.

واليوم، وبعد أن استعملوا حزب الله اللبناني والفصائل الشيعية الأفغانية وعصائب أهل الحق العراقية في طرد السوريين من بلادهم، وبعد أن أشعلوا النار في اليمن والبحرين وغيرها لتحويل أنظار العرب عن الخطة الرئيسية، ها هم يكملون افراغ المناطق السورية من أهلها كما جرى في القلمون وحول دمشق مؤخرا أو في حمص والقصير قبلها ويحاولون اسكان جماعات موالية في هذه المناطق لتأمين ولاء السكان عندما يحين وقت السيطرة الكاملة بواسطة قواتهم المركزية. وقد استغل هؤلاء بساطة الشعوب العربية بتحدي الدولة اليهودية ومعاداة اسرائيل وهي وسيلة لا تزال تدغدغ النفوس الضعيفة.

المراقب للأحداث اليوم يجد بأنه خلال العشر سنوات الماضية تحول الشرق الأوسط بشكل جذري ولم يعد للعرب أي دور فعال لرسم السياسة فيه وقد برز الفرس كلاعب أساسي في التحولات الكبرى، بينما يحاول أردوغان أن يدخل البازار ليؤمن لتركيا بعضا من التركة الشرق أوسطية تحت ستار ديني (سني) بغياب دول الغرب عن لعب دور الرادع والحامي لحقوق الشعوب بحسب الشرعة الدولية.

فهل يحالف النجاح الفرس هذه المرة أيضا في الوصول إلى البحر المتوسط وفرض دور مهم ضمن لعبة السلطة والقرار أم أنهم وبسبب العنجهية الفارسية التي يمثلها المرشد الأعلى سوف يصطدمون مجددا مع أحد اللاعبين الأقوياء (في الموضوع النووي مثلا الذي يعتبرونه ضمانتهم لأستمرار السيطرة لاحقا) فيخسروا بمعركة واحدة كل المكاسب التي أخذوها بدهاء واصرار ويعودوا أدراجهم إلى حدود إيران الدولية ليشكلوا أحد اللاعبين الأقليميين في دولة طبيعية يقودها رئيس منتخب ربما؟

وماذا سيحل بدولة الأسد التي تقبل اليوم بالتغيير الديمغرافي الذي يقوم به الفرس وتسن له القوانين، وهل سيتمكن الدب الروسي من حماية أشلائها وفرض نوع من التفاهم بين مكوناتها؟

وهل سيتضمن فرض اي حل إعادة الحقوق للسكان الأساسيين وعودة المستوطنين الجدد إلى بلادهم (كما جرى مع هرقل في شروط الصلح)، أم أن ما يجري في سوريا اليوم سيكون الصورة الواقعية الأبشع لما جرى قبله ويكون توطين ثلاثمئة ألف من الفلسطينيين في لبنان عاشوا في مخيمات محصورة مدة سبعين عاما مثلا أهين بكثير من توطين مليوني سوري يتوزعون اليوم في كل قرية وحي من أحياء لبنان ومثلهم في كافة أصقاع العالم؟

وهل أن الثروة الموعودة (النفط والغاز) ستحل الأزمة السكانية وتنسي الناس هموم الأوطان، أم أنه يجب أن تبقى الوهرة الإيرانية أو التركية لتفرض هذه الحلول وتنسي سكان هذه البلاد ما كان يسمى حقوق المواطنة؟