ديانا مقلد: هنا في الجنوب يفترض أن أقترع.. لكن لن أفعل

78

“هنا في الجنوب يفترض أن أقترع.. لكن لن أفعل”
ديانا مقلد/نقلاً عن موقع درج/04 أيار/18

طوال الطريق من بيروت إلى النبطية شعرتُ بأن شيئاً ما سيقعُ فوق رأسي. الانتخابات النيابية بعد أيام، وسباق صور المرشحين الضخمة والمتراكمة على نحو عشوائي، على أشده. الصور عُلِّقت على عجل ونسائم الهواء تلوح بها فيصبح المرور بقربها بمثابة نجاة اللحظة الأخيرة من انهيار مفاجئ على رؤوس المارة.
الشعارات عملاقة على نحو يطبق على الأنفاس: “نحمي ونبني”، “صوتك وفا للدم”، “صوتك وفا للشهدا”، “صوتك أمل للحدود”. وها هنا صورة كبيرة للخميني على طريق النبطية، لا شعار تحتها إذ يفترض أن المعنى ظاهر من نظرة مصدّر الثورة الإسلامية و”الولي الفقيه”، التي تحدق بثبات فينا نحن العابرين…
الصور أكثر من السيارات، وفراغ طرقات الجنوب يبدو نافراً حين نقارنه بوفرة الإعلانات الانتخابية. أما المشهد الأكثر سوريالية فهو صور قتلى “حزب الله” في سوريا. إنهم كثر، لكن لا شيء يشرح عن أصحاب تلك الصور متى وكيف ولماذا ماتوا. هم “شهداء” فقط، وعلينا التسليم بذلك من دون سؤال.
كنتُ قرأتُ لصديقة على “فيسبوك” منشوراً تقول فيه إن متابعة صور المرشحين والمرشحات والشعارات وهي تعبر الطرقات، باتت مصدر تسلية لها. حاولتُ أن أسترشد بقولها وأسلي نفسي بالعبارات وتناقضاتها، وحاولت أن أبتسم وأن أقنع عقلي بأن لا حاجة إلى الاستغراق في الشعور بالعبثية واللاجدوى، لكن لم تنجح محاولتي، إذ بقيت أشعر بالانقباض وأنا أجوب هذه الفوضى البصرية والمعنوية الهائلة.
هنا في الجنوب، يفترض أن أقترع في الانتخابات، لكن هذا لن يحصل. في الحقيقة، لم أشارك يوماً في الانتخابات ولم يحدث أن اقترعتُ لأحد. حتى الورقة البيضاء التي تسمح بالتعبير عن احتجاج سلبي، لن أجازف بها كي لا تزيد الحاصل الانتخابي لمن لا أريد لهم الفوز، لكنهم سيفوزون.
حتى اللوائح التي يفترض أنها مرشحة في مواجهة لوائح “حزب الله” و”حركة أمل” لم تشحذ همتي لتكبُّد عناء رحلة الاقتراع من بيروت إلى تبنين بلدتي. فاللوائح المنافسة تخوض معركتها إما تحت سقف القبول والتسليم بسلاح “المقاومة” والاحتفاظ بهامش التحرك في مجال مكافحة التلوث وقضايا الفساد، وإما معارضة سياسية مباشرة لهذا السلاح، ولكن من دون برنامج مدني علماني شامل ومن دون شخصيات مقنعة. وأنا على رغم رغبتي القوية في نجاح معارضة تواجه سلاح “حزب الله”، إلا أنني لن أقترع لمجرد المناكفة، فالانتخاب بالنسبة إليّ عملية اقتناع ببرنامج كامل، سياسياً ومدنياً في آنٍ معاً.
إذاً سأواصل مقاطعتي، فأنا لستُ جزءاً من المزاج العام في جنوب لبنان حيث قلمي الانتخابي. تعايشتُ مع هذه الحقيقة منذ زمن وسأواصل ذلك في هذه الانتخابات وبعدها. نحن في هذه الانتخابات أمام مشهد سياسي لا مكان فيه لأي طموح فعلي بمنافسة “حزب الله”، فلا قانون الانتخابات ولا الوقائع العسكرية والسياسية تسمح بذلك، وإن بدا هامش الاعتراض في هذه الانتخابات أكبر من السابق.
تُجرى هذه الانتخابات تحت عباءة الولي الفقيه الذي تقف صورته العملاقة على مدخل النبطية، ولأجله تُشحَذ همم الناخبين بشعارات “التكليف الشرعي” للتصويت للثنائي الشيعي “حزب الله” و”حركة أمل”.
قبل رحلتي هذه قرأت لقريبة لي تعليقاً على “فيسبوك”، تقول فيه إنها نظرت بإشفاق إلى زميلاتٍ لها في العمل لأنهن عبّرن عن حيرتهن حيال من سينتخبن الأحد المقبل وقالت بابتسامة واثقة، “نحن قوم نعرف من سننتخب حين نولد”.
هذا صحيح. فهنا ثبَّتت عقود من السيطرة ومن التلقين الديني والعقائدي صورةً وحيدة تمكنت من تدجين الناس واستلاب عقولهم وضمائرهم. قبل أسبوعين، تعرض المرشح المعارض لـ”حزب الله” علي الأمين للضرب لأنه حاول تعليق صور له في بلدته. قد لا يكون الاعتداء عليه بأمر مباشر من الحزب، لكنّ أنصاره الذين نفذوا الاعتداء لا يطيقون صوراً معلقة في الجنوب لمن هو من خارج الحزب. أما تلك التي تمكن معارضون ومرشحون على لوائح مقابلة من وضعها، فهي وضعت في طرقات سريعة لا داخل أحياء القرى ولا في وسطها، كما هو حال صور مرشحي الحزب.
وحرب الصور أمر جدي، فقد بيّنت سياسة الصور المبثوثة في مناطق نفوذ “حزب الله” منذ عقود، أن لا صورة لغيره وأن لا حقيقة غير ما يقول. منذ نهاية الثمانينات وحتى اليوم، رسخت صور “المقاومة” و”الجهاد” و”الموت” وشعاراتها، مشهداً لمناطق نفوذ الحزب بحيث تبدو وكأنها جزء من البناء أو الطرقات، فرسخت في وعي من وُلد وعاش هناك أن تلك ليست صوراً، بل وجدان مسيج بالقدسية. هذا الأمر حصل بفعل القوة والسلاح، أما القناعة التي أشارت إليها قريبتي في تعليقها فهي في الحقيقة استلاب واستسلام.
علينا كناخبين لبنانيين أن نقترع يوم الأحد بوجود سلاح “حزب الله”. وهذا السلاح يحتكر السياسة وحتى لو صوتنا ضده، فهذا لن يغير في معادلة السلاح شيئاً. سيخرج بيان وزاري للحكومة يعترف بهذا السلاح، وستبقى الدولة بلا سلطة فعلية على حدودها وموانئها ومطارها. فالفاعلية السياسية لهذه الانتخابات محدودة تقريباً، فالقوة لا ترتبط بالاقتراع. “حزب الله” خسر انتخابات عام 2005، لكنه خطف جنديين إسرائيليين وخاض حرب تموز 2006، وخسر انتخابات 2009 لكنه أطاح بحكومة سعد الحريري وأرسل مقاتليه لخوض حرب إلى جانب نظام مجرم قتل السوريين وشردهم. حصل كل ذلك باسم المقاومة التي يتصدرها حزب ديني أصولي يكره الصوت المعارض ويفرض القيود على النساء ويشارك في الفساد ويغطيه.
ليس صعباً أن ترد تلك الخواطر وسط المشهد الثقيل الجاثم على أعمدة الصورة المتناثرة على طرقات الجنوب.
كنتُ في طريقي إلى النبطية حيث يفترض أن التقي بمجموعة من الطلاب الجامعيين من النبطية وطرابلس لعرض فيلمي “ضدي” ومناقشته، وهو يعرض شهادات سيدات لبنانيات ومعاناتهن مع محاكم الأحوال الشخصية. مثل هذه اللقاءات تثير حماستي، خصوصاً أننا مقبلون على انتخابات فكان يعنيني أن أعرف مزاج من سألتقيهم سواء لجهة طرح قضايا وقوانين مدنية وتأثير الخيارات السياسية عليها، لا سيما أن المحاكم الروحية التابعة للمحكمة الجعفرية تعد من الأسوأ لجهة حقوق النساء، وإعادة انتخاب الثنائي الشيعي هو تفويض جديد لسلطة تلك المحاكم.
بدا النقاش مفيداً لجهة إعلان مجموعة واسعة ممن التقيت بهم، ومن بينهم ملتزمون وملتزمات دينياً، بأن هناك مشكلة فعلية في المحاكم الدينية في لبنان لجهة إجحافها بحقوق النساء. انتزع تفكيري وأنا أستمع إلى النقاش، شاب استشهد بمقولة للخميني (لا أذكر حرفيتها)، وفيها أن المشكلة في رجال الدين وليس في النص.
ابتسمتُ، إذ لمعت في رأسي حين لفظ اسم الخميني، تلك الصورة العملاقة له التي رأيتها وأنا في طريقي إلى النبطية، وقلت له “الخميني يشجع على زواج الصغيرات”.
ابتسمنا وتابعنا حديثنا…
من المرجّح أن يُعطيَ عدد ممن التقيتهم في النبطية أصواتهم للثنائي الشيعي، فالنقاش حول قوانين الأحوال الشخصية كان تحت سقف الخيارات الكبرى للجماعات…
صور وجوه السلطة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً لن يضعفها شعور عابر بالانحياز إلى ظلامة المرأة، لكنه حتماً يؤسس لأمر أعمق مستقبلاً…