حنا صالح/لبنان بين آذار 2005 وآذار 2018

72

لبنان بين آذار 2005 وآذار 2018
حنا صالح/الشرق الأوسط/22 آذار/18

بين 14 آذار 2005 وهذه الأيام من آذار 2018، مسيرة غيّرت الكثير في لبنان، وربما يهدد الآتي من الأيام باستكمال تغيير وجه البلد، ليس في اتجاه استعادة الجمهورية السيدة المستقلة، واستعادة السيادة كاملة، وترسيخ دولة القانون والقضاء المستقل، بقدر ما يكون الاتجاه غياب الدور والأفول والغرق في العصبيات.
لنبدأ مما انتهت إليه قضية الفنان المسرحي المشهور زياد عيتاني، الذي خرج من أقبية الأجهزة الأمنية بريئاً بعد 109 أيام في الظلمة والتعذيب تمّ خلالها اتهامه بأبشع تهمة: العمالة للعدو الإسرائيلي؛ تهمة تم تركيبها في أقبية رسمية، وحِيكَت في غرف سوداء كان يُقال إن محور مهامها درء الخطر عن اللبنانيين، وإذ بالمؤشرات والسوابق تشي بغير ذلك. هذه القضية – الفضيحة التي كان من شأنها في بلد آخر أن تطيح حكومات وقيادات، لم يسفر عنها سقوط أي رأس، لا بل هناك إصرار فج على اعتبارها مجرد خطأ (…) رغم أنها كشفت عن جانب من الانحطاط الذي يُدفع إليه البلد، حيث تتغول الدويلة ويزكم الأنوف جو بوليسي أطلق شياطين القمع، جوّ ساعد في تهميش السياسة، وفتح الباب على مصراعيه أمام وحوش التطرف.
قضية زياد عيتاني ما كانت لتقع لو جرت محاسبة، ولو مرة واحدة، للجهات التي تخصصت بتركيب الملفات الخطيرة، وعمدت إلى سحل الضحايا، بواسطة إعلام مُسيّر لم يتورع عن إجراء المحاكمات وإصدار الأحكام دون وازع أو ضمير، وقبل أن يمثل المتهم أمام قوس العدالة. أمامنا قصة ميلاد عيد البريء الذي اتُّهِم أيضاً بالعمالة للعدو، والأخطر على الإطلاق قصة مهندس الاتصالات طارق الربعة، الذي أمضى 4 سنوات في أقبية التعذيب بتهمة العمالة وبراءته لم تكن يوماً موضع شك، ومطلع هذا الأسبوع صدرت مذكرة توقيف وجاهية بحق قرصان المعلوماتية الموقوف إيلي غبش، بتهمة تركيب ملف يتهم المعاون في الجيش إسحق دغيم بالعمالة للعدو، وغبش موقوف كونه شريكاً أساسياً في فبركة ملف اتهام زياد عيتاني!!
لنعد إلى انتفاضة الاستقلال، آذار 2005، التي هزَّت نظامين أمنيين في بيروت ودمشق وكان لها أبلغ الأثر في إخراج الاحتلال السوري، وحمت لبنان حتى الآن من أن يكون جزءاً من المقتلة السورية وخرابها، هذه الانتفاضة لم تُتبع بإجراءات كانت ممكنة للحد من المنحى البوليسي الذي ورث ملفات صنعتها المخابرات السورية، فباتت ذكرى الانتفاضة هذه الأيام عبئاً على بعض من شارك فيها، وبات هذا البعض يحثُّ الخطى للتخلص منها، ومن موجباتها، فيسير بما يُسمَّى تحالفات وتفاهمات وحصصاً في السلطة، على حساب تضحيات ودماء وشهادات، فتقدمت المصالح الفئوية الضيقة على كل ما هو وطني، وكانت تنازلات ورهانات.
في هذا الزمن اللبناني جاء موسم الانتخابات البرلمانية وفق قانون هجين أطلق العصبيات الطائفية، فتقدم صفوف أهل المحاصصة الكثير من الوجوه التي ينطبق عليها قول البطريرك صفير: «حاضرهم ومستقبلهم يخجل من ماضيهم!»، وبالمقابل كانت التضحية برموزٍ وكسر أدوار وإرادات.
قبل 13 سنة سيطر الأمل على لبنان وارتفعت الرهانات على أن البلد بات على طريق الخروج من الدولة – المزرعة، إلى رحاب لبنان الآخر، الوطن الحقيقي لكل اللبنانيين، فكان ترسيخ شعار الاستقلال الثاني. ما حصل كان كبيراً جداً، وأجزم من موقع المتابع للتفاصيل، بأن الزحف الشعبي إلى ساحة الحرية تخطى أكثر التوقعات تفاؤلاً، ولم يكن بالأمر البسيط وجود نحو ثلث الشعب اللبناني في قلب بيروت، في وقفةٍ صلبة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها إلاّ يوم سقوط «الباستيل» إبّان الثورة الفرنسية… كان هناك الناس يحملون أحلامهم وأوجاعهم من جهة، ومن الجهة الأخرى كانت حقيقة لبنان السياسية والأمنية والطائفية وحسابات المصالح وتواطؤ السياسيين فيما بينهم ضد الناس.
ما تلا ذلك، كان بدء إغراق الوضع الجديد بالشعارات الطائفية، في تلاقٍ مع دور «حزب الله» البارز في هذا المنحى. الكل استثمر طائفياً في الانقسام الذي عرفه البلد 8 و14 مارس (آذار)، والمؤسف أنه كان زمن المراهنين على الأوهام، هذا لو سَلَّمنا جدلاً بأن نياتهم كانت طيبة، فهم ذوّقوا مواقف وطرّزوا سلوكيات راحت تشد البلد إلى لجة الانقسام الطائفي، وتغاضوا عن كثير من الهِنات التي تغذي الانقسام، رغم أن المواطنين عموماً كسروا الحواجز، لكن المصالح السياسية الضيقة أقامت الجدران على ضفتي الانقسام «الآذاري»، ما رسّخ الجو الطائفي فتحول معه الدستور إلى وجهة نظر أمام زحف محاصصة مكشوفة، مستندة إلى القبول بإملاءات الدويلة، وحملت المرحلة المفهوم – البدعة: ربط نزاع!! فتُركت مصالح الناس، وباتت آمالهم حقل تجارب، مراتٍ لهواة وأخرى لمن يعتبر تاريخ لبنان بدأ مع إطلالته على الحياة، وهؤلاء كُثر!!
كان يمكن للانقسام الذي حدث في عام 2005 أن يتطور إلى انقسام سياسي، يكون رافعة للتنافس، ورافعة لتقديم أفضل البرامج وأفضل الرؤى.. وكان يُمكن أن يُعزل التشنج والتعصب الطائفي، ويُشلُّ أمام الزخم الشعبي كلّ خروج على الدولة، فيصبح السلاح الفئوي عالة على أصحابه وليس عنصر قوة واستقواء لتنفيذ مخططات الخارج. لكنهم تخلوا باكراً، قدموا مصالح خاصة ضيقة على وطنية، وحقيقة الأمر تغاضوا من أجل مصالح آنية عن كل ما كان يدفع لتعميم جو السموم.
اليوم وصل لبنان إلى انتخابات هي بأهمية انتخابات عام 1992، التي شرّعت المصالح السورية من خلال «معاهدة التعاون» الشهيرة، وأمام اللبنانيين القانون الهجين الذي أفرغ النسبية (مطلب اللبنانيين الأزلي) من مضمونها، لصالح التصويت الطائفي، تحت عنوان «الصوت التفضيلي»، حيث كل طائفة تختار من طائفتها، فيما دستورياً وكالة النائب المنتخَب عامة، وعن الأمة اللبنانية كاملة. هذا الوضع جعل كلاماً خطيراً مثل الذي قاله السيد حسن نصر الله لمجموعة من الطلبة الإيرانيين أمراً عابراً لم يتكرم أي مسؤول بالتوقف أمام خطورته، وكأن المعنيين بالرد تعمدوا تطبيق النأي بالنفس في غير موقعه، فصمتوا على القول إن أوامر الولي الفقيه فوق الدستور اللبناني وواجبة التنفيذ، وإن المشاركة في الحرب السورية تهدف إلى تشييع سوريا، وكم يبدو جلياً هنا البعد الاستراتيجي لهذا الكلام على وقع مقتلة الغوطة الشرقية واقتلاع أهلها، والكل يتذكر ما قاله رأس النظام السوري من داريا بعد تهجير الغوطة الغربية من أن «التجانس» بين السكان بات الآن أفضل!!
رغم كل شيء، من الصعب الجزم من الآن بما سينجم عن الانتخابات بعد «تسوية» حملت انصياع أطراف الحكم لمشيئة الدويلة، وربما تواصل الضغط على الناس قد يحمل مفاجآت في يوم الاقتراع. مؤشرات معينة في بعض المناطق، تُذكر بيوم جنون الحرية، 14 آذار 2005، يوم ارتدى لبنان حلة عنفوانٍ وتحدٍّ وأملٍ باستعادة الجمهورية المستقلة جمهورية المواطنين اللبنانيين.