صالح القلاب: لهذا «الاحتلال الإيراني» أخطر من الإسرائيلي رغم خطورته//غازي دحمان: فرص مواجهة المشروع الإيراني

67

لهذا «الاحتلال الإيراني» أخطر من الإسرائيلي رغم خطورته!
صالح القلاب/الشرق الأوسط/07 كانون الأول/17

نسب إلى قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني»، وبالصوت والصورة، أنه قال خلال الحرب العراقية – الإيرانية: «عداؤنا ليس جديداً، لقد قدمنا تضحيات لكسر شوكتهم وكبح جماحهم وتدمير أمجادهم المزعومة… نحن نقاتل من أجل هدف سام وكبير… نحن نقاتل من أجل استعادة إمبراطورية لم يبق منها سوى الأطلال… نضحي ونقاتل لكي لا يبقى شبر من أرض فارس ولا ساعة تحت سيطرة أناس يسكنون الصحارى… إن الأهم هو بسط النفوذ الإيراني وليس هزيمة العراق». والمعروف أنَّ صاحب هذا الكلام الآن مستشار في حكومة العراق.
وبالطبع فإن هذا كان قد قاله الخميني وغيره من كبار المسؤولين الإيرانيين قبل حرب الثمانية أعوام العراقية – الإيرانية، وخلالها وبعدها، ثم عندما يصدر عن طهران الآن ورسمياً أن إيران غدت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنها حققت هدف أن يكون لها ممر بري يربطها بشواطئ البحر الأبيض المتوسط، ألا يعني هذا أنَّ الإيرانيين – والمقصود هنا هو الحكومة والمؤسسة المذهبية وليس الشعب – يسعون فعلاً لاستعادة ما يسمونه «أمجاد فارس»، والسيطرة إنْ لم يكن على الدول العربية كلها فعلى «المشرقية» منها، أي بلاد الشام والعراق واليمن والخليج العربي كله؟!
كنا قد سمعنا في وقت مبكر، يعود إلى ما قبل الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وفتح أبوابه على مصاريعها للإيرانيين، بعد إلغاء دولته و«فرط» مؤسساته، وحل جيشه وأجهزته الأمنية، عن تباهي كبار المسؤولين في طهران، من معممين وغير معممين وجنرالات عسكريين، بأنه قد أصبح لهم هلال فارسي، أطلقوا عليه وصفاً مذهبياً، يبدأ باليمن ويمر بكثير من دول الخليج العربي، الذي يصرون على أنه خليج فارسي، وصولاً إلى العراق وسوريا وإلى لبنان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، وهنا فإن ليس أغلب الظن فقط؛ بل المؤكد، أنه لولا إنشاء التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية وتصديه للأطماع الإيرانية ولحلفائها المحليين في اليمن، لقام هذا الهلال الفارسي فعلياً، ولكانت هذه المنطقة مجالاً حيوياً إيرانياً، ولتم استكمال هذه الدائرة الجهنمية. ولهذا فإننا قد سمعنا ولا نزال نسمع تبجح كبار المسؤولين في طهران، من معممين وغير معممين، بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنها حققت ممرها البري الاستراتيجي بالوصول إلى ضاحية بيروت الجنوبية.
ولعل ما تجب الإشارة إليه هنا، أنه كما صمت الأميركيون والروس والإسرائيليون، ومعهم الغرب الفاعل والمؤثر كله، على هيمنة إيران على العراق وسوريا ولبنان، ومحاولات هيمنتهم على اليمن، فإنهم يصمتون الآن عن محاولات التمدد الإيراني في المنطقة العربية كلها، ما منها في آسيا وما منها في أفريقيا، والمعروف أن دولة الولي الفقيه التي تستخدم العمامة السوداء لاستعادة ما تسميه أمجاد فارس القديمة، قد حاولت ولا تزال تحاول، وقد حققت بعض النجاحات في استخدام بعض المكونات المذهبية «التفتيتية» و«التمزيقية» التي غدت تعتبرها جزءاً من العائلة الطائفية التابعة لها، لتحقيق، إنْ لم يكن كل، فبعض تطلعاتها في هذه المنطقة، ومع التأكيد هنا على أنَّ المقاومة الفعلية التي تواجهها هي مقاومة الشيعة العرب الذين استيقظ وجدانهم القومي – العروبي، كما في العراق في الجنوب، وفي الفرات الأوسط.
والدليل على هذا هو «انتفاضة» اليمن الأخيرة التي جاءت رداً على تمادي الإيرانيين في السعي لتحويل الحوثيين، وأيضاً المذهب الزيدي، المعروف باعتداله ووسطيته، وباقترابه من المذهب الحنفي والمذهب الشافعي، إلى حزب فارسي، وعلى غرار ما تم في العراق من خلال ميليشيات «الحشد الشعبي»، وفي سوريا من خلال كل التنظيمات الطائفية المستوردة حتى من أفغانستان وباكستان، التي أصبحت لها مستوطنات تشبه المستوطنات الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة وفي الضفة الغربية.
والمشكلة هنا أن هناك من يجد صعوبة في اعتبار أن الاحتلال الإيراني «الزاحف» في المنطقة العربية أخطر من الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي هضبة الجولان السورية. وحقيقة إنَّ هؤلاء ينطلقون من منطلقات إسلامية لها كل التقدير والاحترام، لو أن إيران تتصرف بدافع إسلامي صادق، وليس بدوافع ثأرية وتوسعية فارسية قديمة، لا ينكرها حتى كبار المسؤولين الإيرانيين، وإلا ما معنى أن يقول قاسم سليماني هذا الذي تمت الإشارة إليه آنفاً؟! وما معنى أن يقول غيره إنَّ إيران غدت تسيطر على أربع عواصم عربية، وإنّ إيران قد حققت «ممرها» البري الذي يربطها بشواطئ المتوسط الشرقية؟ ثم ما معنى أيضاً أنْ تواصل طهران سعيها الدؤوب لاستكمال هلالها الفارسي الذي تريده ممتداً من الحديدة على شواطئ البحر الأحمر، وحتى ضاحية بيروت الجنوبية على شواطئ المتوسط الشرقية، مروراً بالخليج العربي كله، الذي تصر على أنه خليج فارسي، وبالطبع مروراً بالعراق وسوريا؟
إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الدولة الإسرائيلية كيان معادٍ، وسيبقى معادياً إلى أن تتحرر فلسطين كلها، من البحر إلى النهر، ثم إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الحركة الصهيونية حركة استعمارية سابقاً ولاحقاً والآن، وفي المستقبل، فهذه مسألة محسومة ولا نقاش فيها، وهنا فإن المفترض أن تكون إيران إلى جانب الأمة العربية في صراعها التاريخي مع الدولة الصهيونية المحتلة، وهو صراع سيبقى مستمراً ولن ينتهي إلا بتحرير آخر ذرة من تراب فلسطين؛ لكن وهذا يجب أن يقال: «ما كلّ ما يتمنى العرب يدركونه»، والمشكلة أن هذه الدولة الإيرانية تتصرف تحت تأثير ثارات «فارسية» قديمة، وأنها تسعى الآن لاحتلالٍ في هذه المنطقة كالاحتلال الصفوي للعراق، الذي تواصل بكل ثقله وعنصريته لسنوات طويلة.
ربما هو صعب؛ بل هو في غاية الصعوبة أن تكون هناك مقارنة بين الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث ولـ«عربستان»، والآن للأربع عواصم العربية التي يفتخر الإيرانيون بأنهم باتوا يسيطرون عليها، وبين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؛ لكن ما العمل ما دامت هذه هي حقائق الأمور، وحقائق الأمور هي أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي.. نعم أشد خطورة من احتلال إسرائيل؛ لأنه مصحوب بأبعاد مذهبية وطائفية وعقائدية، ولأنه مزق وسيمزق الجزء الشرقي من العالم العربي مذهبياً وطائفياً، ولأنه انطلق وينطلق من الاستناد إلى بؤر سعت هذه الـ«إيران» إلى تحويلها إلى ألغام موقوتة، وهذا مع الاعتزاز بأن هناك صحوة وجدانية قومية عروبية في العراق وفي اليمن، وبالطبع في سوريا ولبنان.
إن إسرائيل دولة محتلة، فهذا لا نقاش فيه إطلاقاً، وهي ستبقى معادية للعرب ما دامت تحتل ولو ذرة تراب واحدة من فلسطين؛ لكن المعروف أن احتلالها لا يقترن بأي أبعاد «عقائدية» ومذهبية، كما في بعض الدول العربية التي تستند إلى بعض ضعاف النفوس في الكيانات الطائفية في هذه الدول، وكما هو الوضع بالنسبة لإيران، ولذلك فإننا نجد أننا مجبرون على اعتبار أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي الذي هو زائل لا محالة، وسواء طال الزمان أم قصر!!

فرص مواجهة المشروع الإيراني
غازي دحمان/الحياة/06 كانون الأول/17
استطاعت إيران توسيع نفوذها في المشرق العربي نتيجة ظروف معقّدة كان من أبرز سماتها الفوضى ووهن الأوضاع الوطنية، وإن كان ثمّة إنجاز يحسب لإيران، فهو مساهمتها في صناعة جزء مهم من صورة المشهد الفوضوي ليتسنى لها التموضع داخله كطرف أساسي وممسك بخيوط اللعبة.
تعاطت إيران مع هذا الوضع بمنطق اصطياد الفريسة، وبالتالي فإن نجاح إيران ازدهر في مرحلة تفتّت النظام العربي وانكفاء أطرافه عن القيام بدورها في حماية الأمن الإقليمي وصون استقلال دوله.
كما عملت إيران على تأمين مساحة حركة كافية زمنياً، تضمن لها السيطرة على الفريسة من خلال إطالة زمن الحرب قدر الإمكان لتصبح فرصها أكبر بالسيطرة، ولم يحصل أن انتهت الحروب التي خاضتها إيران في شكل مباشر أو بالوكالة في زمن قصير بل امتدت عبر أفق زمني أتاح لها تثبيت ترتيباتها وزرعها في جسد البلد المستهدف. وبعكس كل الاحتلالات التي شهدتها المنطقة، لم يمر المشروع الإيراني بمرحلة استقرار، ولم ينتقل الى المرحلة الثانية، التي غالباً ما تكون مرحلة الاستفادة من الاستثمار في الاحتلال، ما يعني أن إيران، وعلى رغم خبرتها الطويلة في هز استقرار البلاد المجاورة لها، لم تطوّر حتى اللحظة أفكاراً حول كيفية إدارة مرحلة ما بعد التدمير لهذه المجتمعات، وربما يقتصر الأمر على نشر التشيّع وبناء المزيد من الحسينيات.
ولعل ذلك كان من أهم أسباب الضعف الإستراتيجي للمشروع الإيراني، إذ على رغم رفع إيران شعار المقاومة والممانعة، إلا أن المحتوى الإستراتيجي ظلّ مجرد غطاء خفيف للمحتوى الأيديولوجي الفاقع والمركب من خليط قومي فارسي وطائفي شيعي، وقد ترافق ذلك مع فقدان إيران النموذج القادر على اجتذاب الآخر وإبهاره، سواء كان ذلك على مستوى التطور التكنولوجي أو القيم الاجتماعية ونمط المعيشة. يفسر ذلك بدرجة كبيرة أسباب عدم استقرار المشروع الإيراني، ووقوعه في شكل دائم في دائرة الخطر واحتمال الانكسار والانكفاء، ولمرات عديدة كاد المشروع الإيراني يصل إلى خط النهاية، لكن تدخّلت المصادفات مرّة والمتغيرات والتحالفات وأخطاء الأطراف الأخرى مرّات كثيرة لإنقاذه، في العراق حين وصل «داعش» الى حدود بغداد قبل أن تزحف اميركا بقوتها الجبارة، وفي سورية قبل مسارعة بوتين وتحت جنح الظلام الى إرسال طائراته وفرقاطاته.
ليست إيران دولة متميزة عن محيطها، لا من حيث التقدم التكنولوجي ولا القوّة العسكرية، ولا حتى من حيث البناء الداخلي، وربما هذا ما يفسر حالة الاستعصاء التي يواجهها مشروعها في المنطقة، ولم يصبح وكلاؤها في وضع أفضل في المنطقة إلا لأن الأطراف الأخرى رفضت منطق الحروب وأرادت الانتقال إلى أوضاع جديدة، كما حصل في لبنان، أو نتيجة تغييرات دولية كبرى حصلت ضد هذه الأطراف، كما في العراق، أو لأن أطرافاً داخلية سلّمتها مفاتيح اللعبة، في اليمن وسورية.
على ذلك، فليست إيران قدراً لا يمكن الفكاك منه، وطالما ان التشخيص الدقيق قد كشف أن سبب دخولها الجسد العربي هو بدرجة اولى ضعف هذا الجسد، أو وجوده ضمن بيئة غير صحية، فإن العلاج يستلزم تقوية الجسد العربي، سواء على مستوى الدول، أو على المستوى الكلي، عبر تدعيم النظام الإقليمي العربي، وذلك لن يحصل بالتأكيد إلا في ظل أنظمة أكثر انفتاحاً على مجتمعاتها وفي ظل تعزيز ادوات الديموقراطية والشفافية، التي أصبحت مصلحة ملحّة للنخب والشعوب، طالما ان البدائل ستكون على صورة هذا الخراب الجوّال في العالم العربي.
هذا على المستوى الإستراتيجي البعيد، اما من حيث التكتيكات المستعجلة لفرملة اندفاعة إيران وتعطيل مفاعيلها، فقد كشفت التطورات اليمنية أن ثمّة فرصاً كثيرة يمكن من خلالها ضرب المشروع الإيراني في مفاصله القاتلة، من خلال الضغط على تحالفاته في البلاد الواقعة تحت تأثيره، مثل تحالفات الجيش، أو بقاياه في العراق وسورية، مع المكونات التي صنعتها إيران، كـ «الحشد الشعبي» في العراق، والميليشيات الطائفية في سورية، وكذلك تحالف النخب المدينية السنية ونظام الأسد في سورية. والأمر ليس بالمستحيل كما يتصوره الكثير ممن يقرأون المشهدين العراقي والسوري من خارجه، ومن دون ان تتسنى لهم فرصة الاطلاع على خريطة التفاعلات الداخلية المعقّدة، إذ ليس خافياً ذلك الصراع المتنامي بين تيار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وخلفه طبقة سياسية عراقية وازنة، ورئيس الوزراء السابق نوري الملكي الذي يجر قاطرة الميليشيات والقوى السياسية الطائفية المرتبطة بإيران، وفي سورية ثمّة تيار في الجيش نفسه يرفض النفوذ الإيراني، ويقوده ضباط من الطائفة العلوية، ويتحيّن الفرصة للتعبير عن نفسه في شكل أوضح وأكثر صراحة. ويرتبط بذلك العمل على عزل إيران عن روسيا، واستثمار اللحظة الراهنة التي تسعى فيها روسيا إلى إظهار نفسها كقوّة سلام في المنطقة، وذلك عبر إفهامها ان ذلك غير ممكن طالما رضيت أن تشكّل غطاء لجرائم إيران ومشاريعها في التغيير الديموغرافي والانتقام من العرب. إيران ليست قدراً، وهي أضعف من أن يستسلم العرب وشعوب المنطقة عموماً لنفوذها، لكن مواجهتها تتطلب إستراتيجية وحضوراً عربياً جدياً، وليس مجرد مواجهات متفرقة وسياسات متضاربة.