الياس الزغبي/سقوط الأوراق

118

سقوط الأوراق
الياس الزغبي/النهار/27 تشرين الأول/17

كان لا بدّ من انقضاء وقت كافٍ على “إعلان معراب”، كي يمرّ في اختبارات عمليّة وواقعيّة، ويتبيّن مدى متانته أو هشاشته، ومقدار قدرته على مواجهة الامتحانات الصعبة.
لا يستطيع أيّ متابع ومحلِّل أن يغفل عن ثابتتين نهض عليهما “التفاهم”:
– الأُولى هي تصحيح التوازن الوطني بتكريس مبدأ الشراكة الميثاقيّة، أو ما دأب الفريق العوني، ولو مخطئاً، على تسميته بشعار “استعادة حقوق المسيحيّين”.
– والثانية هي انتهاج لبنان “سياسة خارجيّة مستقلّة”، أو ما تمّ وضعه تحت شعار “النأي بالنفس”.
ولا يخفى أنّ طرفَي الاتفاق تفاهما، خطّياً أو شفويّاً، على مسائل مهمّة أبرزها دعم ميشال عون للرئاسة، والخطوط العريضة للحكومة، وطريقة إحياء الإدارات والتعيينات والتشكيلات، على أساس مفهوم حديث لبناء الدولة ومكافحة الفساد والهدر وانحرافات السلطة.
كما لا يخفى أنّ اتفاقهما، بغضّ النظر عن دوافعه والحيثيّات السياسيّة والمصلحيّة التي فرضته، أنتج ارتياحاً في البيئة الإجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة المسيحيّة، سرعان ما اهتزّ بفعل الجنوح المتسرّع إلى اختزال القوى الأُخرى وتصفية بعض الحسابات.
ولعلّ الشرخ الأوّل الذي ضرب هذا الاتفاق كان التقليد المضمَر للأحاديّة الشيعيّة، أو الثنائيّة، ظنّاً بأنّ اختزال طائفة هو مصدر قوّتها. وهو بالتأكيد ظنّ أقرب إلى التوهّم منه إلى الواقع.
ولكنّ أساس أزمة اتفاق القوّات والعونيّين يكمن في الخلل الذي أصاب الثابتتين اللتين قام عليهما.
فبعد ثلاثة شهور عسل، بين خطاب القسم وتشكيل الحكومة ورسالة الاستقلال، فوجىء فريق القوّات بأنّ الفريق الآخر برمزيّة ميشال عون تحوّل إلى انتهازيّة وريثه، وبدلاً من أن يستمرّ التفاهم بين عرّابَي الاتفاق ورمزَيه، جعجع وعون، استُبدل أحدهما بالوكيل، بحجّة الموقع الرئاسي، فاختلّ الميزان.
وتوسّع الخلل على مراحل، بدءاً من خرق عون نفسه لبنود الاتفاق مراراً وتكراراً، بقوله إنّ الجيش اللبناني ضعيف ويحتاج إلى سلاح “حزب الله”، وتمسّكه ب”ورقة تفاهم” معه على أساس ضرورة سلاحه “إلى أن تنتهي أزمات الشرق الأوسط”!
ثمّ عمد وريثه إلى مضاعفة الخرق بطلبه الاجتماع مع وزير خارجيّة نظام الأسد وليد المعلّم، واللعب في مسألة الترشيحات العربيّة لليونسكو، والخطيئة الدبلوماسيّة الخطيرة مع الفاتيكان.
واكتملت حلقة الخرق بالسكوت الدبلوماسي الصارخ عن الاهانة التي وجّهها أخيراً الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى سيادة لبنان وكرامة الحكم فيه.
أمّا الثابتة الأُخرى التي ضربها الفريق العوني فهي قاعدة الشراكة الميثاقيّة في إدارة الدولة، أو ما يطيب له أن يسمّيه، بردح شعبوي، “استعادة حقوق المسيحيّين”.
فقد تبيّن، على مدى الأشهر الستّة الأخيرة، أنّ هذا الفريق يريد استعادة حقوق المسيحيّين من القوّات والكتائب والأحرار والمردة والفاعليّات المسيحيّة المتنوّعة، وليس من أيّ طرف آخر.
وهذا ما اتّضح في استبدال رئيس مجلس شورى الدولة، وفي التشكيلات القضائيّة والتعيينات العسكريّة والدبلوماسيّة، وفي عرقلة أيّ تعيين في الوزارات والادارات الأُخرى، كما يحصل في إدارة تلفزيون لبنان ووزارة الاعلام وسواهما، إلاّ بنيل الحصّة الشخصيّة المطلوبة.
هو جشع فاقع، وجوع عتيق إلى السلطة والمال، يُصيبان صاحبه بسكرة فائض القوّة، فيشوّهان فكرة الحقوق المسيحيّة، ويسلبانها من أهلها، بدلاً من استرجاعها ممّن يسطو عليها.
فأيّ حقّ مسيحي يعود إذا أُقيل قاضِ مسيحي مشهود له بالنزاهة والصدق والجرأة، واستُبدل بقاضٍ آخر، أو ضابط بضابط آخر. أو سفير بسفير آخر. أو إداري بإداري آخر؟
وفوق كلّ هذه الآفات، يأتي هدم المؤسّسات. يسعون إلى فرض الصفقات من خارج الأصول الإداريّة والقانونيّة. وصفقة البواخر مثال ساطع. فهناك وقاحة فساد عزّ نظيرها في تاريخ لبنان، كما في تاريخ الدول، حتّى الدكتاتوريّة منها.
قد يكون فريق القوّات، كأحد طرفَي الاتفاق، أُصيب بالذهول ممّا يرى ويلمس ويجرّب. وكان قد عمل على هندسة التفاهم برويّة وحسن نيّة. لكنّ الطبع الانقلابي غلب على التطبّع عند شريكه. فكان المأزق.
حين تمّ وضع “ورقة معراب” وقبلها “ورقة النيّات”، كتبنا وتحدّثنا ونبّهنا مراراً إلى أنّ هناك “ورقة” فوق كلّ الأوراق. إنّها ورقة “مار مخايل”. هي الثابتة وسواها متحوّل.
وحين تحدّثوا عن اتفاق “استراتيجي” بينهما، ضحكنا في سرّنا.
الآن، كشف سقوط الأوراق العورة الجينيّة التكوينيّة. فبعض العفَن لا ينتهي إلاّ بالكفن.
مع الأمل في أن يبقى شيء إيجابي وحيد: مبدأ السلام والمصالحة بين الناس.