إياد أبو شقرا: المشرق العربي… أمام إعادة تعريف الحدود

80

 المشرق العربي… أمام إعادة تعريف الحدود

إياد أبو شقرا/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/17

تذكّرني التصريحات المتتالية للرئيس اللبناني ميشال عون، وصهره وزير الخارجية جبران باسيل، ضد بقاء النازحين السوريين في لبنان بحملات قادة اليمين المتطرّف في أوروبا الغربية والوسطى على اللاجئين السوريين. وهذا يحدث أمام خلفيات أكبر من لبنان… وربما أكبر حتى من العرب.

ما يعزّز هذا الانطباع عندي، الحملة الإعلامية – الأمنية الممنهَجة التي باتت تربط السواد الأعظم من الجرائم والتعدّيات في لبنان بالنازحين، وهو أمر يوفّر عند كثرة من ضعاف النفوس والعقول «صدقية» لـ«قلق» المحوَر الذي يمثله الرئيس اللبناني.

إلا أن الجانب الأخطر في الحملة المَرعية رئاسياً هو أنها تتعمّد تجاهل الظروف التي صنعت ظاهرة النزوح وهوية القوى اللبنانية التي أسهمت إسهاماً مباشراً فيها. هذه القوى، التي كانت وراء انتخاب عون رئيساً، مختبئة استنسابياً وراء حملات الرئيس ووزير الخارجية وبعض الأجهزة الأمنية؛ أولاً لأنها تتحسّب لتحوّلات قد تحصل في المشهد الإقليمي في ظل رجحان كفة موسكو على كفة طهران في سوريا، وثانياً لأنها تريد مواصلة ادعاء الحرص الكاذب على «وحدة المسلمين»… والمضي قدماً بـ«حرق» القيادات السنّية المعتدلة المنتشية بسلطة وهمية لا تحلّ فيها ولا تربط…

وبالأمس، جرياً على عادته، كرّر الرئيس اللبناني «لازمته» ضد النازحين، إلا أن كلامه هذه المرة تضمّن جملة خطيرة هي «لن ننتظر الحل السياسي أو الأمني في سوريا، بل واجب علينا أن ندافع عن مصلحة وطننا». كلمات عون هذه جاءت في مجلس وزراء بحضور رئيسه سعد الحريري ووزراء من قوى يُفترض أنها عارضت، ولا تزال تعارض، قتال «حزب الله» في سوريا. بكلام آخر، قوى – كما يُقال – «تعرف البير وغطاه»، ودور الحزب الكبير في تهجير عشرات الألوف من السوريين، بدءاً ببلدة القصير وانتهاء بضواحي دمشق ومدن وادي بردى وبلداتها. مع هذا، ما زالت بعض القيادات السنّية المراهنة على مرور الوقت، أملاً في حلول سحرية، تهادن وتتساهل وتتنازل… بل وتحاول أيضاً اتهام كل مَن ينتقد مهادنتها الرئيس وداعمه الأساسي «حزب الله»، بالمزايدة عليها…

هذا الوضع اللبناني الشاذ، متصلٌ اتصالاً وثيقاً بأجواء منطقة سقطت فيها حدود الكيانات تمهيداً لرسم حدود التقسيم.

لقد بات من العبث التكلم عن عودة «عراق ما قبل 2003» أو «سوريا ما قبل 2011». انتهت المسرحية المأساوية. وجرت أنهار الدم وارتفعت جبال الحقد، وخفقت رايات المغامرين والمستزلمين والطائفيين والعنصريين من كل نوع ولون.

حتى المثقف العربي وجد نفسه خلال الأسبوع الماضي حائراً بين دعم الأكراد من مُنطلق احترام حقهم بتقرير المصير، والاقتناع بحججهم الرافضة العيش في عراقٍ يتحكّم فيه ملالي إيران و«حرسها الثوري» عبر قادة ميليشيا «الحشد الشعبي»، وبين تأييد سيطرة الجيش العراقي على «المناطق المتنازع عليها» بالقوة انطلاقاً من حق سلطات بغداد الحفاظ على البقية الباقية من وطن قرّر جزء كبير من مكّونه الكردي أن ينفصل عنه… ويقضي على وحدة ترابه!

وفي هذه الأثناء، ثمة مَن يشير إلى أن الرهان على قدرة سلطة بغداد على التخلّص من هيمنة طهران على الجماعات المسلحة الشيعية – غير الحكومية أساساً – رهان ما زال حتى اللحظة محفوفاً بالمخاطر ما لم تتعامل القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، مع سياسات طهران العدوانية بحزم. ذلك أنه حتى اللحظة، وعلى الرغم من النقلة النوعية في تعاطي واشنطن دونالد ترمب مع ملف طهران، فإن المواقف الأميركية ما زالت أقرب إلى «إعلان نوايا» لفظي… منها إلى استراتيجية عملية وشجاعة في منطقة غاية في الحساسية، وتزداد حساسية، مع محاولة موسكو العودة إليها من أوسع أبوابها.

وفي السياق نفسه، يظهر بوضوح أن جزءاً من نكسة الأكراد الأخيرة في العراق عائد إلى وثوقهم بتغيّر جوهري في واشنطن من حلمهم القومي العابر للحدود. وبصرف النظر عمّا إذا كان إصرار مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، على إجراء الاستفتاء الأخير كان خطوة حكيمة أم لا، يجوز القول: إن الإشارات الأميركية الملتبسة للأكراد الانفصاليين في شمال سوريا… شجّعته على التورّط في الذهاب بعيداً. وهنا أزعم، أن أي زعيم كردي أقل ذكاءً من بارزاني ما كان، لولا الإشارات الأميركية، ليُقدِم على خطوة بهذا الحجم متجاهلاً الانقسام الكردي الداخلي المزمن، والموقفين التركي والإيراني العدائيين، وقلة الحماسة الدولية للتعجيل بتقسيم العراق في هذه المرحلة.

وماذا عن سوريا؟
منذ ابتكرت واشنطن ميليشيا اختارت لها اسماً جذاباً هو «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)… بل قبل ذلك، منذ اختارت دعم ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية – المكوّن الأساسي لـ«قسد» – في معارك عين العرب (كوباني)، متجاهلة تحفظات تركيا وانتقاداتها، فإنها شجّعت التيارات القومية الكردية على الحلم بـ«كردستان كبرى» واحدة موحّدة من الإسكندرونة إلى كرمنشاه، ومن دياربكر إلى أورمية، مروراً بكامل الشمالين السوري والعراقي.

والواقع أن دعم الأكراد في عين العرب تزامن مع سخرية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما علناً من أهلية المعارضة السورية المسلحة للقتال. وهذا، مع أن ثمة مَن يجادل بأنه لو أعطت واشنطن هذه المعارضة ربع ما أعطته للميليشيات الكردية لكان الوضع في سوريا مختلفاً عما هو عليه اليوم.

ما علينا. كل هذا صار في الماضي.
عهد أوباما انتهى. والنشاط الروسي مع «شعوب» سوريا بات عنصراً حاسماً في تحديد شكلها – واستطراداً هوية لبنان – بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب. ومسار جنيف، ومعه الوسيط الدولي ستافان دي ميستورا، أيضاً صارا مشهداً بروتوكولياً لا معنى له بعدما سمحت واشنطن لموسكو بجعل «آستانة» بديلاً عن جنيف. وأيضاً بعد «القضاء» على «داعش»، ذلك التنظيم الشبحي الذي أرادت له القوى الكبرى أن يكون مبرّر تقسيم المنطقة في أعقاب اقتلاع، ومن ثَم تهجير، نحو 20 مليون مسلم سنّي في العراق وسوريا.

باختصار ما نحن بصدده اليوم، إعادة رسم خريطة المشرق العربي من لبنان إلى العراق، وهذا مشروع أكبر من اللاعبين المحليين… كما اكتشف السيد مسعود بارزاني!