الدكتورة رندا ماروني: لقد أخطأ المؤسس لفكرة القومية السورية

568

لقد أخطأ المؤسس لفكرة القومية السورية
الدكتورة رندا ماروني/22 تشرين الأول/17

إن الحركة الإعتراضية التي سجلها الحزب القومي السوري أمام قصر العدل على الحكم الصادر بحق قتلة رئيس الجمهورية الشيخ بشير الجميل أعادت إلى الأذهان مسألة نشوء القوميات في العالم العربي وخلافاتها في الأبعاد الجغرافية، فمن الحروب الأيديولوجية إلى القومية العقائدية الدينية إختلطت المفاهيم وتشوهت القضية.

وفيما مشهد أول أمس عاد اليوم ليتصدر الشاشات ويعيد إلى السطح واقعا مريرا لم يستطع بعد المجتمع اللبناني تخطي تفاصيله التي ما زالت راسخة في الأذهان، صدرت لهجة تأنيبية عبر شاشة حزب الله، قناة المنار، فحواها “إن غاب القط إلعب يا فار” ، فأستهلت التأنيب بالسؤالين التاليين: ينبش التاريخ محاولا تشويش الواقع؟ ومن يستفيد من الضائقة السياسية للتلاعب بمفاهيم وطنية؟

لقد شوش نبش التاريخ على صورته اللالبنانية الجديدة وعلى مفاهيمه الخاصة للوطنية التي تخيلها فرسمها فرضا، وصاغها فتلاها أمرا عازما طمس التاريخ ليتهيئ له أن التاريخ بدأ معه فيما هو عنصر مستجد على الساحة وغائب عن مراحل تطور الكيان اللبناني الطويل حيث كان لتوافق وتضارب النظريات القومية محطة فيه.

لقد أسفر التطور العام الذي طرأ على لبنان في عهد المتصرفية أن سعى المفكرون المسيحيون على الأخص إلى إقرار بعض المبادئ التي يقوم عليها تعاون إسلامي مسيحي، وقد تبين لهؤلاء أن فكرة القومية التي عرفتها أوروبا بصبغتها العلمانية هي السبيل المجدي، وكانت فكرة القومية قد سبق لها أن تفشت في أنحاء السلطنة العثمانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر فظهرت أول الأمر في الولايات البلقانية، حين ثار العرب واليونان ضد الحكم التركي مطالبين بالاستقلال، ثم إقتدت بهؤلاء شعوب البلقان الأخرى، وكانت هذه الشعوب جميعها مسيحية تناضل ضد حكم إسلامي، فإتخذت فكرة القومية عندها بطبيعة الحال صبغة دينية وأحدثت الثورات المسيحية في البلقان ردة فعل عند المسلمين فهموا للدفاع عن سطوة الإسلام وقامت الإضطرابات الدينية في مختلف الأقطار العثمانية مما زاد في نقمة الرعايا المسيحيين على الدولة وكانت الحكومة العثمانية في هذه الأثناء قد باشرت في التنظيمات (١٨٣٩-١٩٧٦) وبدأ لهم أن أفضل سبيل إلى ذلك هو في تعزيز قومية عثمانية علمانية، إلا أن النزعة العثمانية هذه لم تلق نجاحا عمليا إذ رفض غلاة المسلمين قبول مبدأ المساواة بين المسلمين وغير المسلمين الذي قامت عليه النزعة. أما الرعايا المسيحيين فداخلهم الشك في النيات الكامنة وراء حركة الإصلاح ففيما إستهدف الإسلام علنا إبقاءهم في منزلة وضعية أنذرت النزعة العثمانية بحرمانهم من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها كذميين ضمن النظام الملي.

كان لظهور الفكرة القومية صلة وثيقة باليقظة الأدبية العربية التي قامت في لبنان في عهد المتصرفية، ولعل أول من نادى بها المفكر البحاثة بطرس البستاني، ففي الصحيفة الأسبوعية “نفير سوريا” التي صدر العدد الأول منها في 1860، دعا بطرس البستاني إلى التآخي بين مسيحيي سوريا ومسلميها وفي 1870 أصدر البستاني مجلة الجنان وجعل شعارها “حب الوطن من الإيمان” وكانت عبارة الوطن عند البستاني ورفاقه تعني سوريا لكنها كانت سوريا غير منفصلة عن التراث الثقافي العربي، وهكذا إلتقت فكرة القومية السورية منذ أول ظهورها بفكرة العروبة.

وفي القسم الأخير من القرن التاسع عشر شددت الأوساط الأدبية والعلمية التي نشأت حول الكلية السورية الإنجيلية في بيروت والتي سيطر عليها فكريا المرسل والبحاثة الأميركي كرنيلوس فانديك على عروبة سوريا وربما كان بتأثير فانديك، لعنايته العميقة بالتراث العربي، أن تطورت سوريا البستاني شيئا فشيئا إلى عروبة المفكرين اللاحقين به من المسيحيين اللبنانيين، أمثال إبراهيم اليازجي ويعقوب صروف وفارس نمر.

ولم يكن إلا في أواخر القرن التاسع عشر أن برزت فكرة القومية العربية وأخذت تنضج في أذهان بعض المفكرين اللبنانيين المسيحيين من الجيل الناشئ وكانت هذه الفكرة بمفهومها الأصلي لا تتميز بوضوح عن فكرة القومية السورية التي قال بها البستاني، فالقومية العربية التي نادى بها المفكرون المسيحيون تحدت في ذلك الوقت العصبية الدينية السائدة بين المسلمين، كما تحدت فكرة القومية العثمانية التي نادى بها زعماء الإصلاح في الإستانة، من دعاة المركزية، وحاولوا فرضها على جميع البلاد الخاضعة للسلطنة.

ظلت القومية العربية حركة إنفصالية إلى أن حظيت بتأييد المسلمين بعد أن خلع السلطان عبد الحميد وتسلم حزب الإتحاد والترقي الذين تخلوا عن فكرة القومية العثمانية وليستعيضوا عنها بفكرة القومية التركية، حيث قالوا بتفوق الأتراك عنصريا على غيرهم من الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية في السلطنة العثمانية وشددوا على أن مهمة القيادة في السلطنة العثمانية وفي دنيا الإسلام إنما تقع على عاتق العنصر التركي المتفوق، وكان من شأن هذه الدعوة أنها أبعدت بين العرب وبين الأتراك الذي كانوا يسيطرون على الدولة العثمانية، وهذا ما جمع بين المسلمين والمسيحيين تحت رآية حركة قومية عربية شددت على اللغة والتراث العربي كأساس للوحدة القومية، لكن سرعان ما بدأت تلوح في الأفق صعوبات الإستمرار ففيما أصر المسلمون نظريا على علمانية الحركة القومية العربية كاد أن يستحيل عليهم عمليا فصل العروبة عن الإسلام وإذ بدأت النزعة القومية العربية بقيادة المسلمين تتخذ شكلها الجديد كان لا بد من أن يتبدل موقف المسيحيين تجاهها.

ما إختبره الدعاة المسيحيين الأوائل في تجربة القومية العربية كان كافيا للإرتداد عما طرحوه، كما العديد من دعاة القومية السورية فلماذا نشأ الحزب القومي السوري اللبناني حاملا نفس هذه البذور والمعطيات المجربة الغير قابلة للتطبيق في ظل تحريف مفهوم القومية الذي نشأ في الغرب علمانيا وإستورده المثقفون ليحولوه في خرائطهم دينيا مذهبيا .

ففكرة القومية السورية قامت كما قامت فكرة القومية العربية على مبدأ إعلاء شأن المسيحيين من خلال تطبيق قواعد علمانية وما صدق غير قابليته للتطبيق في الثانية يصدق غير قابليته للتطبيق في الأولى، فإعلاء شأن طائفة معينة تمتمد على بقعة سوريا الكبرى يشوبها عقبات كثيرة، كما شاب فكرة تطبيق القومية العربية العديد من الصعوبات الغير قابلة للحل في ظل وجود جماعات متعددة ذو أهداف مختلفة، وعلاقات صعبة لا يمكن لها أن تتطور إلا في إطار مصالح مشتركة ملحة. لقد أخطأ المؤسس وطرح المطروح وجرب المجرب الذي أثبت فشله في غياب المعطيات الواقعية، إنما شجاعة العودة عن الخطأ إنتصار .

تصور نظري
جمع أقطار
أخطأ المؤسس
والعودة إنتصار
تفاديا لهلاك
تفاديا لدمار
وحقد أجيال
موجه القرار
يحارب نفسه
كفعل إنتحار
يترآى له
ويرسم الإطار
ليسكن فيه
بحال إنبهار
مؤجلا سلاما
يركن إنتظار
يبحث في وهم
لا يجد قرار
روحه هائمة
تصرخ إنفجار
تصور نظري
جمع أقطار
أخطأ المؤسس
والعودة إنتصار