الدكتور عصام خليفة: لبنان لم يُفصَل عن سوريا بل هو انبثاق للذاتية التاريخية اللبنانية

2155

لبنان لم يُفصَل عن سوريا بل هو انبثاق للذاتية التاريخية اللبنانية

الدكتور عصام خليفة/النهار/11 تشرين الأول/17

في حياة كل شعب محطات كبرى وحاسمة تعتبر تحولاً أساسياً في مسار تاريخه. ووصول أي شعب الى مرحلة قيام دولته هو امر يعني ان هذا الشعب الّف وحدة اجتماعية مشتركة تضم بشراً متحضرين بحسب جورج بلينك، اما كاره دي مالبرغ فقد رأى في الدولة “جماعة من البشر، قائمة في إقليم يخصها، تتمتع بتنظيم، تنجم عنه، لمصلحة هذه المجموعة وبعلاقاتها مع أعضائها، قوة عليا للعمل والامر والاكراه”. والدولة – كل دولة – تتألف من ثلاثة عناصر: الشعب، والاقليم الجغرافي، والسلطة التي تمارسها الدولة على من يقيم ضمن حدودها. ويرتبط بهذا العنصر الأخير مفهوم السيادة الداخلية في الدولة، كما ان السيادة الداخلية غير ممكنة من دون السيادة الخارجية. لان الدولة – كما يقول مالبرغ – “اذا كانت مرتبطة بشيء من التبعية إزاء دولة اجنبية، فلا تكون متمتعة بسلطان سيّد في الداخل”.

في العام 1920 اعلن قيام دولة لبنان الكبير، وهذا التاريخ هو مفصل سياسي في حياة شعبنا. ورداً على المقال الذي كتبه الدكتور حسان حلاّق في جريدة “النهار”، ص 9، من العدد الذي صدر في 6 تشرين الأول 2017، يهمنا إيضاح النقاط الآتية:

1- الدولة اللبنانية لم تُفصَل عن سوريا، كما يزعم الباحث، انها انبثاق للذاتية التاريخية اللبنانية التي تعود- على الأقل- الى القرن السادس عشر. وقد تجسدت هذه الذاتية في الامارة المعنية ثم الشهابية وفي القائمقاميتين والمتصرفية. ان اعلان دولة لبنان الكبير جاء رداً على الظلم الذي حصر اهل الجبل وفصل عنهم سهل البقاع وموانئ الساحل، كما انه جاء رداً على اهوال المجاعة التي أودت بثلث شعبنا الى الهلاك! واذا كانت غالبية النخب المسيحية قد ناضلت لتحقيق هذا الإنجاز قبل وخلال وبعد العام 1920، وتلاقت معها نخب من السنّة والشيعة والدروز، إلا ان غالبية النخب الإسلامية اتحدت مع النخب المسيحية في العام 1938 من خلال الميثاق الوطني الذي اعلن في منزل الزعيم الوطني يوسف السودا، وقد تبلور ذلك في انتفاضة عام 1943 التي حصلت تحت راية العروبة والاستقلال باعتبارهما الركنين الأساسيين للدولة اللبنانية المعاصرة. ان الدولة اللبنانية التي تضم بالتساوي مسلمين ومسيحيين هي تجربة فذة ونموذج قلّ نظيره على المستوى العالمي.

2- المسلمون لم يرفضوا كلهم صيغة دولة لبنان الكبير كما يذكر د. حلاق، فعبد الحليم الحجار كان عضواً في الوفد اللبناني الأول الذي ذهب الى مؤتمر الصلح، والشيخ محمد الجسر موقفه اللبناني معروف، وثمة قيادات شيعية كثيرة وعرائض قدمت الى لجنة كينغ – كراين تؤكد المطالبة بلبنان الكبير. ولا مجال للتذكير بموقف النخب الدرزية، فعلى امتداد فترة الامارة والمتصرفية وصولاً الى مرحلة الحرب العالمية الأولى كان للطائفة الدرزية الدور الطليعي في بلورة الذاتية اللبنانية. والأمير توفيق أرسلان كان عضواً بارزاً في الوفد اللبناني الثالث الذي تمكن من انتزاع إقرار فرنسا بقيام الدولة اللبنانية.

3- يزعم د. حلاّق ان البطريرك الحويك كان متخوفاً من قيام دولة لبنان الكبير. والحقيقة ان مطلب لبنان الكبير يعود الى فترة البطريرك بولس مسعد الذي اكد في كتابه الصادر عام 1863، “الدر المنظوم”، ص 288- 289، ان “جبل لبنان كما يشهد علم الجغرافيا، يبتدي لجهة الشمال من حدود جبال النصيرية الفاصل بينه وبينها النهر الكبير… وينتهي لجهة الجنوب عند مرج ابن عامر الى شرق عكا”. كما يدخل جبل الشيخ وحاصبيا ووادي البقاع وانطيليبان في تحديده للبنان من جهة الشرق. لقد استمرت البطريركية المارونية في الدفاع عن مشروع لبنان الكبير مع البطريرك الحويك، ومن يطّلع على أرشيف بكركي وارشيف وزارة الخارجية الفرنسية يعرف جيداً الدور المحوري الذي اضطلع به هذا البطريرك العظيم في قيام الدولة اللبنانية.

4- يذكر د. حلاّق ان المسلمين لم يشاركوا في صياغة دستور 1926. والواقع التاريخي، ومحاضر مجلس النواب في العام 1926 تبين ان اللجنة التي انتخبها المجلس لوضع الدستور تضمنت أسماء: عمر الداعوق، الأمير فؤاد أرسلان، صبحي حيدر، عبود عبد الرزاق، يوسف الزين. واذا كان بعض النواب المسلمين القلائل قد تحفظوا عن بعض المواد في الدستور، فان الدكتور ادمون رباط يؤكد ان مناقشات إقرار الدستور كانت تدور حول كل مادة “بجد وحرية، مع الإقرار من جانب جميع النواب بمبدأ الانتداب ووفائهم للدولة المنتدبة” (الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، 1970، ص 365).

5- يذكر د. حلاّق ان المسلمين رفضوا المعاهدة الفرنسية – اللبنانية، والحقيقة ان مشروع المعاهدة نال شبه اجماع من نواب المجلس ولم يتحفظ عنها الا النائب خيرالدين الاحدب وحده.

6- يركز الباحث د. حلاّق على تحميل فرنسا امراضنا الطائفية والانقسامات بين اللبنانيين. والحقيقة ان هذه الامراض تعود الى الفترات السابقة للانتداب الفرنسي. وقد استمرت بعد رحيل هذا الانتداب. والدكتور حلاّق الذي كان مقرباً جداً من إعطاء رستم غزالي الدكتوراه في التاريخ من الجامعة اللبنانية يعرف جيداً دور سلطة الوصاية في حينه في تقسيم اللبنانيين وتعميق المشاعر الطائفية اكثر بكثير مما فعل الفرنسيون!

7- لا ندري ما هي المراجع التي استند اليها د. حلاّق ليؤكد ان الاقضية الأربعة تدفع 82% من الضرائب وان 80% من واردات الخزينة كانت تصرف على سكان جبل لبنان. وعلى كل حال يتناسى الدكتور حلاّق ان نصف سكان بيروت، على الأقل، كانوا من المسيحيين وان الاقضية الأربعة كانت فيها نسبة غير قليلة منهم ايضاً، وان سكان جبل لبنان مختلطون (مسيحيين ومسلمين ودروزاً).

8- ان اتهام د. حلاّق للمحتل الأجنبي الفرنسي بإعلان قيام دولة لبنان الكبير يستبطن تجاهلاً بان المشروع الأساسي الذي كانت تعمل لتحقيقه وزارة الخارجية الفرنسية، قبل مجيء حكومة ميللران، كان قيام سوريا الموحدة الفيديرالية الفرنسية. ان من يطّلع جيداً على أرشيف الكي دورسيه وارشيف البطريركية المارونية وارشيفات الاتحاد اللبناني والرابطة اللبنانية في باريس وحزب النهضة اللبنانية في نيويورك وغيرها من الارشيفات الخاصة المختلفة، يعرف جيداً ان القيادات اللبنانية الروحية والزمنية خاضت معركة ديبلوماسية وشعبية كبرى بين 1918 – 1920 لاجبار السياسة الفرنسية على الإقرار بقيام دولة لبنان الكبير. ولولا تراجع الأمير فيصل عن اتفاقه مع كليمنصو، حيث تم ضم البقاع الى حكومة دمشق، “ويكون لرئيس الدولة السورية وللمندوب العالي الفرنسي مشتى في بيروت التي ستتمتع بإدارة بلدية مختارة” – كما نص الاتفاق – لولا تراجع فيصل عن هذا الاتفاق، بضغط من المؤتمر السوري من جهة والتيارات اللبنانية الاستقلالية من جهة أخرى، لتغيرت أمور كثيرة!

9- لقد توصل آباء الاستقلال من كل الطوائف الى صياغة نص مكتوب للميثاق الوطني اللبناني في منزل الوطني الكبير يوسف السودا عام 1938، وقد تجسد هذا الميثاق في معركة الاستقلال عام 1943.

وهكذا كافح اللبنانيون لقيام دولة لبنان الكبير، كما كافحوا لتحقيق السيادة والاستقلال لهذه الدولة عام 1943. وكم يبدو ملحاً، في هذه المرحلة التي تعاد فيها صياغة خرائط المنطقة، ان نتمسك بمرتكزات ميثاقنا الوطني، وبوحدتنا الوطنية وبسيادة دولتنا ضمن كامل حدودها الدولية، وان نواجه مخططات إسرائيل بطبعاتها المختلفة وفي طليعتها التيارات الداعشية الإرهابية، وان نعمل لتعطيل مفاعيل النزوح السوري الخطير واغراق مختلف مناطقنا بالنازحين.

ان الاحتفال بقيام دولة لبنان الكبير هو عيد وطني كالاحتفال بعيد الاستقلال والجلاء. وكل تشكيك بهذه الاحداث التاريخية الكبرى في حياتنا المعاصرة تحمل معاني خطيرة في هذه الأيام.

واننا ندعو جميع المؤرخين الموضوعيين من كل الطوائف الى التضامن لإعلاء راية الوعي الوطني وقيم الاستقلال والسيادة والوحدة الوطنية، والعمل على تحقيق الانماء المستدام والقضاء على الفساد وتثبيت دولة العدالة والقانون في مواجهة كل الاخطار الداخلية والخارجية الداهمة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا المعاصر.