نوفل ضو: الماكينات الإنتخابية وغرف العمليات

51

الماكينات الإنتخابية وغرف العمليات
نوفل ضو/جريدة الجمهورية/السبت 01 تموز/2017

خلال الايام العشرة الماضية، حطّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط برفقة نجله تيمور في موسكو معلناً «إعادة ترميم العلاقات التاريخية بين المختارة والكرملين»، وأدّى رئيس الحكومة سعد الحريري صلاة عيد الفطر الى جانب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز قبل أن يزور ولي العهد الامير محمد بن سلمان، في خطوتين تؤشّران الى طبيعة التموضع الإقليمي للحريري. وأطلق الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله تحذيراته بفتح الاجواء اللبنانية لاستقدام مئات الألوف من المقاتلين العرب والمسلمين، من باكستان وأفغانستان واليمن والعراق وايران لمحاربة إسرائيل، في حال أقدمت على مهاجمة لبنان او سوريا. في هذا الوقت، كان «القادة المسيحيون» يتسابقون على إعلان إطلاق ماكيناتهم الإنتخابية في «عروض قوة» متبادلة أمام الرأي العام، في محاولة لتظهير قدرة كل منهم على حسم نتائج الإنتخابات النيابية المقبلة لمصلحته، تحت شعار استعادة قوة المسيحيين السياسية وتعزيز دورهم في تحديد مسار القرارات الوطنية.

بكلام آخر، لم يقارب جنبلاط القوة الدرزية في لبنان من زاوية معركة أحجام انتخابية بينه وبين كل من الامير طلال ارسلان والوزير السابق وئام وهاب، بل من زاوية «شراكة معينة» بينه وبين قطب دولي له دوره وأثره في تطورات الوضع الإقليمي، وبالتالي في الوضع اللبناني. فجنبلاط استعاد استراتيجية والده في عدم ربط حجم دوره السياسي الداخلي حصراً بعدد نوابه المرتبط بالحجم العددي للطائفة الدرزية كأقلية في لبنان. فكمال جنبلاط قدّم نفسه في المعادلة السياسية الداخلية شريكاً للاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وللاشتراكية الدولية كقوة حزبية دولية، وكشريك لمنظمة التحرير الفلسطينية وعبرها للعرب من موقعه كرئيس للحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب. وها هو وليد جنبلاط يسعى لتعزيز دوره المحلي، ليس من خلال تركيز جهد مبكر على تحجيم تمثيل أرسلان او محاولة قطع الطريق على تمثيل وهّاب، بل من خلال إحياء «الشراكة السياسية» مع موسكو التي تسمح له بتعزيز دوره المحلي.

امّا الحريري، وعلى رغم الصراع التمثيلي الضاري الذي ينتظره في طرابلس وصيدا وبيروت والبقاع مع خصومه التقليديين ومع منافسيه الجدد والمجتمع المدني، فلا يزال يتصرّف من موقع انّ تَموضعه الإقليمي في قلب الاستراتيجية السعودية – الخليجية – العربية للمنطقة، يعوّض عليه ما يفترض أن يخسره من مواقع نيابية نتيجة اضطراره للسير بقانون النسبية الكاملة الذي من بين أهدافه تحجيم كتلته النيابية، وبالتالي كسر احتكاره للتمثيل السني وتشتيت الكتلة السنية لإضعاف قدرة تيار «المستقبل» على التأثير في القرارات اللبنانية.

وجاءت الإطلالة الأخيرة لنصرالله في يوم القدس لتؤكّد المؤكّد بأنّ «حزب الله» لا يحصر مصادر قوته وحجم دوره وتأثيره في القرارات الوطنية بعدد أعضاء كتلته النيابية، على رغم أنه الأكثر ارتياحاً لموقعه الانتخابي، ليس فقط في طائفته وإنما ايضاً على مستوى حلفائه في الطوائف الأخرى.

فماكينته الانتخابية الحقيقية هي في قوته العسكرية ودوره العسكري والأمني ليس فقط على المستوى اللبناني، وإنما أيضاً على المستوى الإقليمي في سوريا والعراق واليمن والبحرين امتداداً الى دوره الإقتصادي والتنظيمي في افريقيا والأميركيتين الشمالية واللاتينية، على رغم الضغوط المتزايدة التي يتعرّض لها هذا الدور.

في مقابل هذه الصورة البانورامية للدور الاسلامي في لبنان وامتداداته الإقليمية والدولية وتقاطعاته مع سياسات كبرى تسهم في إعادة رسم جغرافية المنطقة ودولها وأنظمتها، يُطلق «القادة المسيحيون» ماكيناتهم الإنتخابية باكراً، في استعادة لمنطق «الحروب الإلغائية» ولَو بأدوات سياسية وبعناوين ديموقراطية.

ما من شك في أنّ لانطلاق التنافس الإنتخابي بين القوى السياسية والحزبية المسيحية أوجهاً إيجابية لناحية الأداء الديموقراطي في الشكل، وفي أنّ عدم ربط وضع لبنان بصراعات المنطقة والعالم يخفّف عنه الكثير من الضغوط ويحرّره من إحراجات وذيول وتداعيات سلبية عدة، أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لكن تَعمّد بعض القوى الحزبية المسيحية تجيير «السياسات الخارجية والامنية والعسكرية» للقوى الاسلامية في لبنان أو السكوت على مثل هذا التجيير، أو عدم وضع معالجاته في الاولويات المطلوبة في مقابل تقديم السعي الى دور محلي أكبر في تركيبة السلطة، يعتبر خطأ استراتيجياً قاتلاً لمَن يرفع شعار استعادة الدور المسيحي وتعزيزه في لبنان.

بطبيعة الحال، ليس المطلوب لاستعادة الدور المسيحي الفاعل في لبنان استنساخ تجربة «حزب الله» العسكرية والأمنية في اختزال التمثيل الشيعي وارتباطه العضوي فكرياً وثقافياً واستراتيجياً بإيران، ولا استنساخ تجربة «المستقبل» والطائفة السنية في الارتباط العاطفي والاقتصادي بالسعودية ومصر والعالم السنّي، ولا استنساخ الدور الدرزي في محاولة الرهان على شراكة مع روسيا كوريثة لاتحاد سوفياتي لم يعد موجوداً، وإنما المطلوب التخلّي عن نزعة احتكار التمثيل المسيحي وإلغاء التعددية الحزبية والتنوع السياسي ولو كان ذلك باسم الانتخابات والديموقراطية شكلاً… فاستعادة المسيحيين حضورهم الفاعل وتأثيرهم في الحياة والقرارات السياسية في حاجة الى صياغة تصوّر لدور مميّز لهم يجعلهم حاجة لمحيطهم والعالم، وليس الى ماكينات إنتخابية تذكّر بغرف عمليات حروب أضعفتهم باسم توحيد المرجعية العسكرية والسياسية.

* عضو الهيئة المركزية لـ«١٤ آذار – مستمرون»