أنطوان نجم: شارل مالك السياسيّ اللبنانيّ القوّاتيّ

226

شارل مالك السياسيّ اللبنانيّ القوّاتيّ
أنطوان نجم
معراب في 27 نيسان 2017

أفضّل الكلام على الدكتور شارل مالك وهو في وَسَط معمعان سياسيّ ضاغط وخطِر.
في هكذا ظرف، تَبرز استقامة المرء، وصِدقُ نيّاته وفعّاليّة ُ قدراته. فداخلُه خارجُه. وخارجُه تجسيد لما في داخله. في مثل هذه الحال، نفهم الشخص على حقيقته. علمًا بأنّ “السياسيّ”، في الدكتور مالك، عنوانٌ من عناوين. لا هو الأفضل ولا هو الأقلّ شأنًا. لكلّ منها أهميّته الكبيرة في نطاقه، خصوصًا وإنّها، كلَّها، عابقةٌ بعطر يسوع المسيح.

عاصر الدكتور مالك، في لبنان، أزمتَين سياسيّتَين وجوديّتَين، في فترتَين لا يباعد بينهما سوى عقدَين تقريبًا. الأولى بين العام 1956 والعام 1958. والأخرى منذ العام 1975 وحتى رحيله إلى بيت سيّده في العام 1987، بعد ذكرى ميلاد حبيبه يسوع بثلاثة أيّام. فكان في صلبهما ديناميًّا، ملتزمًا فعّالًا، ونافذًا قويًّا.

في الأولى، عمِل رسميًّا من على منبر الدولة اللبنانيّة. فكان، في الوقت نفسه، وزيرًا للخارجيّة من تشرين الثاني 1956 حتى أيلول 1958، ووزيرًا للتربية حتى آب 1957، ونائبًا في المجلس النيابيّ اللبنانيّ، في دورة وحيدة، في العام 1957. في هذه الفترة، كان في العلانيّة وصاحبَ سلطة.
أمّا في الأزمة الثانية، فعاش “المقاومة اللبنانيّة” في أعماق أعماقه، سواء أفي “جَبهة الإنسان والحرّيّة”، أم في “الجَبهة اللبنانيّة”، أم ضمن “القوّات اللبنانيّة”. وهذه النُقطة هي التي ألقِي عليها، الآن، شعاعةً من شُعلة، وهي شبه مجهولة من المواطنين عمومًا.

كنّا ثلاثةً على تواصل دائم: المعلّم شارل مالك، والقائد بشير الجميّل وأنا، خصوصًا في اللحظات العصيبة. لم نُخفِ عنه، في الأمور التي ينبغي أن يكون مطّلعًا عليها، لا معلومةً، ولا تحرّكًا، ولا اتّصالًا جرى مع أيٍّ كان. اللقاءات كانت تتمّ نهارًا وليلًا. نحلّل. نتناقش. نستنتج. ونتوافق على ما ينبغي القيام به.

ولطالما اجتمعنا وحدنا-الدكتور مالك وأنا- ساعات طويلة، خصوصًا في الليالي، في مكتبه في الطابق العلوي من منزله، نتباحث في رؤى المقاومة اللبنانيّة.
في 27 أيلول 1980، التقَينا: الدكتور مالك وبشير وسائر قياديّي القوّات اللبنانيّة، ومنهم الدكتور سمير جعجع والعقيد ميشال عون، في خَلوة سرّيّة في دير سيّدة البير في المتن. وكنتُ قد اقترحت على بشير أن يطلب إلى الدكتور مالك أن يرئس اللقاء ويدير أعماله. فوافق بشير بحماسة.
كان الموضوع مركّزًا على المرحلة التي تلي 7 تمّوز من ذلك العام، وخصوصًا على انتخابات رئاسة الجمهوريّة في لبنان والتي ستجري بعد عامَين.
وضعتُ للخَلوة “ورقة عمل” تشتمل على عدد من السيناريوهات، خلاصتُها ضرورةُ أن تتسلّم المقاومة اللبنانيّة السلطة في العام 1982، وذلك بإيصال بشير إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة.

في البند الأوّل من “ورقة العمل”، حدّدتُ الهدف بالآتي: “الوصول إلى السلطة”. فاقترح الدكتور مالك استكمال الصياغة بإضافة عبارة “بقصد التسهيل في تطبيق أهداف القوّات اللبنانيّة”. ثمّ أبرز أهمّ سبب يفسّر، إستراتيجيًّا، ما كان يجري، فقال: “… المؤامرة، في أبعادها البعيدة، هي فصلُ مسيحيّي لبنان عن مسيحيّي العالم الغربيّ، وضمُّهم إلى العالم الشرقي والاكتفاء بذلك. كلّ شيء له مغزى متوسّطيّ-غربيّ-أوروبّيّ-مسيحيّ-تحريريّ-إنسانيّ لا يريده خصوم لبنان. لبنان حجر عثرة وشوكةٌ، لأنّ عنده هذه الخِصال. هذا مهمّ من الناحية الحضاريّة…وينبغي درس علاقاتنا الخارجيّة بشكل دائم.”

في الحقيقة، هذا تفسير واقعيّ، صحيح، يشرح بدقّة وإيجاز ما حصل. والتفسير إيّاه ما زال صالحًا حتى اليوم. وسيبقى صالحًا إلى ما لا أدري من الزمن.
وممّا هو جدير بالذِكر، بالمناسبة، أنّ الدكتور مالك كشف لنا عن سرّ مهمّ، فقال “في العام 1945، حين وصولي إلى أميركة، بدأتُ بالتفاوض لإقامة محالفة معها. وبعد أربعة أشهر، وصلنا إلى هذا النصّ: “في كلّ مشكلة حيويّة تنشأ لأيّ من الفريقَين المتعاقدَين، يتفاوضان بشكل حلّها بالتوافق”. أرسلتُ النصّ سرًّا إلى بشاره الخوري. جاء الجواب: “لا يمكن السير في هذا التحالف”.

في يقيني، إنّ موقف الرئيس بشاره الخوري هو الموقف الصحيح الحكيم. لماذا؟ لأنّ لبنان، في تركيبته الديموغرافيّة، وفي غير الظروف العصيبة والاستثنائيّة جدًّا، عليه ألّا يدخل في أيّ حلف، في المفهوم المتداوَل للكلمة. وعليه أن يعلن حياده.

وخلال النقاش صرّح أحد الحاضرين عن خوفه من شغور مركَز الرئاسة، فعلّق الدكتور مالك: “لا يجوز، مطلقًا، المجازفة، ولا يجوز التأخّر في الإفادة منها إذا الساعةُ قدّمت نفسها. أهمّ شيء هو توحيد الكلمة المسيحيّة وتوسيعها وتعميقها، وتوطيد مكاسب 7 تمّوز في الأوساط المسيحيّة، وتقوية علاقاتنا الخارجيّة.” وهذا ما طبّقه سمير جعجع بعد ستّةٍ وثلاثين عامًا من اجتماع سيّدة البير.

وكرّر الدكتور مالك تحذيره فقال: “الموقف الأميركيّ-الأوروبّيّ-الفاتيكانيّ تِجاه الشرعيّة في لبنان هو موقف طبيعيّ. الشيء الموجود المعترف به دوَليًّا هو الشرعيّة على ضعفها. إذا طارت هذه الشرعيّة ولم يحلّ محلّها، بسرعة، شرعيّة أخرى، سيحصل فراغ في لبنان لا يملؤه شكل يلائم المصالح المسيحيّة. إذًا من أجل مسيحيّي لبنان الشرعيّة ضروريّة في الوقت الحاضر.”

واليوم، وبعد مرور سبعةٍ وثلاثين عامًا، نلاحظ دقّةَ هذا الإدراك وصحّتَه. وهذا، أيضًا، ما حقّقه سمير جعجع.
ثمّ اقترح تحديد الهدف وأسلوب العمل ووسائلَه، فقال:
+ “الهدف: خلق وطن يضمن الأمن والحرّيّة والعدالة والانفتاح لجميع الكيانات اللبنانيّة.
+ والأسلوب: منطق ثوريّ.
+ والوسائل: 1 –تقوية القاعدة الشعبيّة بشتّى الوسائل.
2 –تقوية المحالفات القائمة وخلق تحالفات جديدة.
3 – الوصول إلى الحكم في النهاية.”

وفي نتيجة الخَلوة، اتّخذنا قرارًا باعتماد أحد السيناريوهات المذكورة في “ورقة العمل”، وأوصلْنا بشير الجميّل إلى الرئاسة في 23 آب من العام 1982. وكان الدكتور مالك إلى جانب بشير والحاضرين في قاعة الاجتماعات في المجلس الحربيّ، يشاهدون عمليّة الانتخاب تلفزيونيًّا. وكان أوّل المهنّئين.
هذا نموذج حيّ لموقِف نظريّ وعمليّ للدكتور شارل مالك السياسيّ اللبنانيّ القوّاتيّ، محدّدٍ زمانًا وظرفًا.

وأختم كلمتي بمقطع من مقال لي بعنوان “شارل مالك: كاهنُ المعاناة والمتفقِّهُ بلبنان”، نشرتُه في مجلّة “المسيرة” في العام 2004، في ذكرى وفاة الدكتور مالك السابعة عشرة، قلت فيه: “إذا أردنا أن نَفِيَ شارل مالك بعض حقّه، ونُبقيَه حيًّا في وِجدان الأجيال المسيحيّة الطالعة، ومحبّي الحقيقة، والمتفانين من أجلها، علينا أن ننقل “حسّ المسؤوليّة المرهف” الذي يضرب في أعماق خُلُقيّته الرفيعة إلى مَن هُم حولنا وأبعد من حولنا، وإلى كلّ مكان وزاوية من هذا العالَم المشرقيّ. علينا أن ننشر روحَ المسؤوليّة. قلقَ المسؤوليّة. إرادةَ الاضطلاع بمسؤوليّة المسؤوليّة.”