إيلي الحاج: قصة بوست وتيار معتدل في لبنان

67

قصة بوست وتيار معتدل في لبنان
إيلي الحاج /مجلة البديل/10 نيسان/17

لما وقع هجوم إرهابي ضد أبرياء في اي دولة ، أقع في حيرة شديدة، من أين يأتي المهاجمون بكل هذا الحقد ليقتلوا أناساً لا يعرفونهم، لا قضية أو خلاف معهم، ويقتلوا أنفسهم أيضاً غالب الأحيان؟

تتجمد عيناي على الشاشة. تتغيّر البلدان والمدن: باريس، لندن، ميونيخ، بروكسيل، نيس، مدريد اسطنبول، وقبلها وبعد دمشق وبغداد وسائر مدن سوريا والعراق. السيناريو نفسه ومشاهد لا تتغير: الدم، صراخ الجرحى، أشلاء الضحايا، رعب الناجين، رجال الأمن، الكاميرات والبث العاجل المباشر، وأيضاً لا يتغيّر انتماء المهاجمين الديني.

أنا أحب المسلمين، ورغم معايشتي الحرب الأهلية في بلدي لبنان بكل تفاصيل قساوتها وبشاعتها، لم أخلط يوماً بين الأهداف السياسية لأطراف الحرب ونظرتي إلى الإنسان، أي إنسان.

أقصد بكلمة أحبهم، فضلاً عن أنني لا أميز بين مسلم ومسيحي، وما يهمني في الآخر قلبه، هو أنني أشعر على الدوام بأنني أقرب إلى المسلمين لأنهم في الغالب بسطاء السريرة طيبون غير متكبرين، كما أراد يسوع صديقي الشخصي للناس أن يكونوا. وألاحظ حساسية خاصة فيّ حيال نظرة المسيحيين عموماَ وليس جميعهم بالطبع ،إلى أنفسهم. نظرة أسميها “زنطرة” لا تقنعني أسبابها البتة، أكتفي بأنها تعود في رأيي إلى بقايا انقلابات سريعة في أوضاعهم نقلتهم من حالة مجاعة مهينة قبل مئة سنة إلى حالة يُسر، وانفتاح مفاجئ بفعل جهد الإرساليات على عالم متقدم جداَ مقارنة ببيئتهم المتخلفة، فتماهوا معه قبل سواهم من مواطني لبنان والدول العربية حولهم لم ينتبهوا أن هذه الأفضلية التي نالوا حظوتها صارت إلى حد من الماضي وتلتها وستليها تحولات لمصلحة غيرهم. يكفي أن المسلمين الذين أصادقهم وأعرفهم من كثب على الأقل، يحرصون على تعليم أولادهم وثقافتهم مثلي وأكثر.

وثمة سبب آخر لـ”الزنطرة أن مسيحيي لبنان محليون جداً باهتماماتهم وتفكيرهم، وإن نزلوا إلى المدن ولا سيما بيروت وضواحيها منذ زمن بعيد بغالبيتهم، يبقى في أذهانهم خلط بين ثقافتي القرية والمدينة. من يعتبر نفسه وجيهاً في قريته وبين أجباب عائلته تلازمه نظرة الوجاهة إلى نفسه وإن كان بين أناس لا يعيرون وجوده ومقامه أهمية.

وهذا تفصيل، توسعت فيه قصداً، محاولاً من خلاله تحليل انحيازي عاطفياً إلى المسلمين، المظلومين في بيئاتهم وظروفهم وأنظمة دولهم، وفوق ذلك أوضاعهم الصعبة إجمالاً في العالم الجديد والمتطور بسرعة هائلة، مما يشعرهم بعجز عن اللحاق به أكبر من عجز شعوب أخرى فقيرة ومتخلفة هي أيضاً، لكنها غير غريبة عن الحضارة العلمية والفكرية الحديثة . حضارة تحقق يومياً قفزات هائلة في التكنولوجيا والعلم والفن والأدب، وتعاكس رؤية الإسلام إلى العالم كما تعاكس رؤية المسيحية إليه. لكن الفارق أن الغرب أنهى ثـورته على الكنيسة والفـكر الغيبي الدينـي بالانتصار) بدءاً من فرنسا 1789)، وعاد إلى منطق أثينا وروما في عصرهما الذهبي السابق للمسيحية، تاركاً للمؤمنين حرية التعبد العبادة والطقوس الدينية تحت حماية الديموقراطية وحقوق الإنسان، فاستفادت من هذا المجال المفتوح أمامها كي تحاول أن تتصالح مع قيمها أولاً ومع حقيقة العالم في ضوء العلم والمنطق ما استطعت التوفيق بينهما وبين الإيمان الذي تحمل رسالته.

المسلم يقف أمام حركة العالم المتطور ويشعر بأن هذا العالم قوي جداَ وغني جداَ ، بأنه يسحقه من غير اكتراث ولا يتوقف عنده لأنه فقير وضعيف. وأكبر دليل هو دولة إسرائيل التي يقف معها العالم ضد العرب والمسلمين المطالبين بحقوق طبيعية على أرض فلسطين لشعبها المهجّر المظلوم، وهو فقير لأن ثروات دوله وأوطانه للحكام وليست للشعوب، وضعيف لأنه عاجز عن كسب احترام العالم سواء بأساليب القوة أو المفاوضة وكلما تعلق بزعيم قائد أو حزب خيّب القائد والحزب أمله وخرج بهزيمة إضافية منكرة. عبد الناصر وعرفات وصدام وحافظ الأسد.

عاد المواطن العربي المسلم إلى الدين حيال هذا الواقع المُذل لحماية نفسه على ما أعتقد بإزاء التقدم الساحق للعالم غير المسلم . الدين وحده يعيد إليه شعوراً بأهميته، بالاحترام ما دام فرداً في “خير أمة أُخرجت للناس”. من خلاله يمكنه التوجه إلى الآخرين بثقة: أنتم متقدمون وأنا مسلم. والإسلام سوف ينتصر في النهاية. يكفي أن نصبر وأن نضحي بأرواحنا جهاداً في سبيل إيماننا بالله كما كلمنا في القرآن.

لست ملحداً ، بل اعتبر الإلحاد معاكساً لطبيعة البشر المتميزة بالهشاشة. ولكن مررت بمراحل من تفكير عميق، وقرأت طويلاً لمتخصصين في نشوء المسيحية والإسلام والأديان عموماً، وأوصلتني هذه كلها إلى الفصل في ذهني بين الأسطورة والمغزى الروحي المقصود منها. وكما قرأت الأناجيل والعهد القديم قرأت القرآن، صفحة بالعربية تقابلها صفحة بالفرنسية مع شروحات كي أفهم جيداً ولشدة ما كانت دهشتي كبيرة أمام رد فعل صديق لي في الخليج حيث عملت وأقمت أربع سنين عندما سألني عن آرائي في الدين، فتحدثت عن المسار التايخي لرواية ولادة يسوع المسيح العجائبية والمعجزات التي رافقتها وتلتها . قال لي صديقي “لكنها واردة في القرآن”، قاصداً أنها خارج نطاق البحث في صحتها حرفياً. فغيّرت الحديث.

في 28 حزيران 2016 كنت في منزلي وبدأت الشاشات تنقل أخباراً عاجلة ومشاهد راعبة لهجوم انتحاري في مطار أتاتورك باسطنبول أوقاع نحو 45 ضحية و150 جريحاً. كان الهاتف في يدي وعيناي على الدم والأشلاء البشرية، فكتبت بانفعال وحزن ومن قلب محروق “بوست”على صفحتي الفايسبوكية فحواه لطالما قلت إن الإسلام بريء من الإرهاب، ولكن ثمة آيات في القرآن تحض على العنف ويجب إعادة النظر فيها وعدم التذرع بأن كاتبها الله، ألا يعيد الله النظر؟ في اليوم التالي اتصل بي صديق قريب من مرجعية “تيار المستقبل” ولفتني إلى أن ما كتبته على الفايسبوك يبدو أنه يثير لغطاً، أجبته سأزيله فوراً لا مشكلة، وأزلته فعلاً. ثم بدأت أتلقى تهديدات بإنزال “قصاص الله العادل” بي وبعضهم يصفني أوصافاً مشينة أو يتهجم على المسيحية والمسيح معتقداً أنني كتبت البوست من منطلق ديني ضد الإسلام . حين أني كنت اقصد بإعادة النظر تدبيراً من نوع القرار الذي اتخذه ملك المغرب محمد السادس بمنع تدريس الآيات التي تحض على الجهاد والقتل، وعدم التحدث عنها ونشرها على المنابر وتعديل الكتب الدراسية الدينية . منحت نفسي حرية التفكر والاقتراح بصفتي إنساناً تهمه أحوال البشرية جمعاء ومواطناً يهمه أمر مواطنين له، وأخوة يعيش معهم في وطن واحد.

كنت أعدّ الشق السياسي في برنامج إذاعي صباحي من “إذاعة الشرق من بيروت” التابعة لـ”تيار المستقبل”، والحق أني منذ 14 شباط / فبراير و14 آذار 2005 تجاوزت كل انقسامات الحرب اللبنانية وترسباتها . كان “المستقبل” بالنسبة إلي ولا يزال تماماً مثل أحزاب الكتائب و”القوات” والتقدمي الإشتراكي وحركة اليسار الديموقراطي وسواها من أحزاب وهيئات اجتمعت على مبدأ “لبنان أولاً” واللقاء الإسلامي – المسيحي إلى “أبد الآبدين” . وكلما كان يسقط شهيد ممن عرفتهم من كثب واحببتهم ( جبران تويني، سمير قصير ، بيار الجميّل ، محمد شطح خصوصاً) أو ممن كانت علاقتي بهم بعيدة، كنت أزداد اقتناعاً بأن هذا قدرنا في لبنان أن نبقى معاً ممسكين أيدينا بأيدي بعض، كي ننجو أو نسقط معاً في الهاوية ولا يبقى لبنان الذي نعرفه ونحبه.

كان يستهويني عملي الصباحي لساعات قليلة في الإذاعة التي تقع مكاتبها والاستوديو داخل مبنى تلفزيون “المستقبل” أطلع خلالها باكراً على الحركة السياسية في البلاد وألتقي أناساً طيبين وأصدقاء حقيقيين. وفوجئت بأن الحملة علي والتهديدات بإنزال “العقاب الشرعي” بي، أي بالأيدي، مصدرها أشخاص لا أعرفهم إلا بالوجه داخل التلفزيون و”التيار.

وكانت المفاجأة الأكبر تبلغي قراراً من قيادة “المستقبل” ، تحديداً أمينه العام أحمد الحريري بفصلي من الإذاعة، علماً أني لم أكن موظفاً فيها بل متعاقداً لقاء مبلغ لا يذكر شهرياً، من باب “بحصة تسند خابية”.

ولم يكلف نفسه أحمد الحريري اتصالاً أو اعتذاراً أقله عن عملي بلا راتب نحو عشرة أشهر . بالطبع لم أرفع دعوى ولا طالبت بشيء، لا بالرواتب غير المدفوعة حتى اليوم ولا بموجبات العقد، وكان في بداية سنة جديدة.

أكثر ما أحزنني أنه ما عدا صديق واحد عضو في المكتب السياسي لـ”المستقبل” لم يتصل بي أحد من السياسيين والقادة فيه لسؤالي عما جرى وكنت أعتقد أن لي بينهم أصدقاء. قيل لي إن ما دفع أحمد الحريري إلى قراره خوفه من مزايدة أنصار وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي . والحق أن اللواء ريفي اتصل وبادرني بأن “لا إكراه في الدين “وأضاف آيات أخرى تؤيد سلوكاً متفهماً هادئاً حيال ما حصل، ساخراً من رد فعل أمين عام “المستقبل”. التيار الذي- يا للمفارقة!- لا ينفك يقدم نفسه معتدلاً ومنفتحاً يؤمن بالتعددية والديموقراطية وحرية الرأي .

خيبتي من “تيار المستقبل” لم تغيّر نظرتي إلى المسلمين ، اللبنانيين وفي العالم كله. ما زلت كما كنت، لكن ردود فعل مثقفين وكتّاب كبار مسلمين، أصدقاء ومعارف وبعضهم لم أتشرف بمعرفتهم شخصياً، دافعوا عني في مقالات، وآخرين على الفايسبوك وسائر وسائل الاتصال حملت إلي اطمئناناَ إلى مستقبل لبنان، ما دام أبناؤه جميعاً يدافعون عن الحرية فيه وعن الديموقراطية، حتى لو اختلفوا بمرارة على كل شيء.الحرية بخير يعني لبنان بخير