رشا الأطرش/عون يخترع

80

عون يخترع
رشا الأطرش/المدن/16 شباط/17

لعل الهجمات التي نفذها شبان “حركة أمل” بالأمس على مقر “تلفزيون الجديد”، بتبعاتها كافة، من التصريح التبريري المشين لرئيس “المجلس الوطني للإعلام” عبد الهادي محفوظ، وصولاً إلى شكلية الانتشار الأمني حول التلفزيون، تتجاوز كونها قضية حريات إعلامية ورواسب حرب أهلية (مستمرة). في الحدث المفزع والمألوف، أمس، ما يجعله مظهراً مصغراً لمفهوم تكفّل رئيس الجمهورية ميشال عون، بإعادة إنتاجه، وبأكثر الصِّيغ فجاجة. مفهوم ليس جديداً في الحالة اللبنانية، لكنه بات، بفضل التصريحات الأخيرة لـ”بَيّ الكل” و”رئيس كل لبنان”، فاقعاً إلى درجة تستدرّ الدموع والضحكات في آن واحد.

فكلام عون عن “ضرورة وجود سلاح حزب الله” كمكمّل لعمل الجيش اللبناني الذي “لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل”، والتي بدورها “ما زالت تحتل أراضي لبنانية وتطمع في ثرواتنا الطبيعية”، وتدليله على ذلك بأن الحياة الداخلية اللبنانية بمنأى عن هذا السلاح… هذا الكلام، المفتقر إلى الدقة، لا يكتفي بالانتقاص من السيادة اللبنانية. بل إنه، وربما من حيث لا يدري فخامته المَدين بالكثير لـ”حزب الله”، اجتهاد في المعنى والفكرة: أي سيادة، بل سِيادات البؤر.

فإذا كانت السيادة هي الحق بالسُّلطة الكاملة على كيان سياسي من دون تدخل خارجي، وإذا استقرينا على التعريف الأبسط والأكثر تداولاً للكيان السياسي، والذي غالباً ما يعبّر عن الدولة-الأمة، أي مجموعة من الناس يتشاركون تصوّراً موحداً بالحد الأدنى عن أنفسهم، وهذا التصوّر هو الصمغ الذي يجمعهم، وهم منظَّمون بتراتبية مُمأسسة… فإن التصريح الرئاسي الأخير في شأن خلافي لبناني من نوع سلاح “حزب الله”، والذي لا صيغة دستورية أو قانونية محترمة في العالم يمكن أن تسبغ على مثله صفة شرعية، يطرح سؤالاً أساسياً: هل “يطوّر” لبنان نفسه، كنظام سياسي طائفي يفترض أنه تشاركي وليس فيدرالياً (على الأقل لم يعلن ذلك رسمياً)، بحيث تصبح الطوائف، بواجهاتها الحزبية، هي الكيانات السياسية دون واجهة الدولة اللبنانية؟ أم أنه يمكن الآن الجزم، وبراحة ضمير، بدولة لبنانية فاشلة، وبالتالي بلا أي نوع من أنواع السيادة؟

الأرجح أنها “نَعَم” مزدوجة.
الدولة الفاشلة: فاقدة السيطرة على كامل أراضيها (البقاع؟ الجنوب؟ الضاحية الجنوبية لبيروت؟). لا تحتكر العنف ضمن حدودها (من حزب الله ومشاركته في الحرب السورية إلى غزوة “الجديد”). تشهد انزياحاً للسلطة الشرعية في ما يتعلق بالقرارات الجامعة (قرار الحرب والسِّلم!). قدرتها منقوصة في مجال الخدمات العامة (كهرباء، مياه، نفايات..). وكذلك تواصلها مع الدول الأخرى كعضو كامل في المجتمع الدولي. لبنان، ثلاثة أرباعه تتدلى على هذه الحافة.

أما بالنسبة إلى الكيان السياسي، فلا جديد هنا في المأثرة اللبنانية التاريخية. لكن، من المفيد إعادة قراءة النقد الأوروبي للسيادة السياسية كما أرستها معاهدة “ويستفاليا” (1648). إذ نحت أوروبا، عشية الألفية الثالثة، وغداتها، إلى معنى أرحب للسيادة، بمزيد من الضمّ وإقصاء أقل، ترافقها تأثيرات العولمة، والاجتهادات في وضع أطر واضحة للتدخلات العسكرية والإنسانية خلف الحدود. ثم انكفأت أوروبا، مؤخراً، لتعيد النظر في تجاربها الرحبة. وتفكيرها في ذلك، بصوت عالٍ، أشبه بدرس في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، للعالم أجمع. في حين أن العَقد الاجتماعي اللبناني، والذي تقتضي بداهة العصر والأوان، أنه مُبرَم بين مجموع الأفراد اللبنانيين وبين مؤسسة الدولة، هو في الحقيقة عقود اجتماعية. كل جماعة، كجُزُر سياسية، تبرم عَقدَها السيادي مع زعامتها، وهذه الأخيرة تحرص على “تسجيله” في دفاتر تحمل رمز الأرزة.

مثلاً… الرئيس عون، رئيس كيان سياسي أبرم “تفاهم مار مخايل” مع “حزب الله”، أوصله في النهاية إلى قصر بعبدا، حيث نُظّمت احتفالات حاكَت مسيرات العام 1989 إلى “بيت الشعب”. وفي عيد الاستقلال، رُفع “عَلَم الشعب”، الذي مُهر، إبان “حرب التحرير” المتبوعة بـ”حرب الإلغاء”، بتواقيع ميشال عون وعصام أبوجمرة وإدغار معلوف. لقد استحضر الكيان السياسي العوني ذاكرة التَطاحُن الأهلي اللبناني، وبالضبط في لحظة تكريسه ممثلاً/رئيساً لها. وغض اللبنانيون الطرف، مصرّين على التفاؤل بالعهد الجديد وتوافقاته. وها هو، من سدّة الرئاسة، يعلن القبول بسلاح “حزب الله”، على حساب الموقع الوطني المبدئي للجيش اللبناني. بحسابات الدكانجية، ارتأى عون، في هذه اللحظة، أن يؤثر “التفاهم”، على “إعلان النيات” مع “القوات اللبنانية”، واتفاق ترشيحه مع رئيس الحكومة سعد الحريري، بل وصورته “الدولتية” التي جهد في رسمها، وانتمائه العاطفي والتكويني لمؤسسة الجيش، والتي قد يقلق الكثير من اللبنانيين بأنها باتت مفرزة الرؤساء.  ولعل عون، في لحظة أخرى، يجري حسابات مختلفة. ومثلاً.. أيضاً…

“حزب الله”، وبعدما قضم السيادة اللبنانية المفترضة، لقمة لقمة، منذ انتهاء الحرب الأهلية، فإنه يحارب الآن باسمها في سوريا. ومن عِبَر الزمان، تعزيز مواقعه في شرق حمص، الغني بالفوسفات، بالتزامن مع إبرام عقود سورية-إيرانية تنص على استثمار طهران في مناجم الفوسفات الحمصية. لتبدو أكذوبة الدفاع عن المقدسات ومحاربة التكفيريين، مزحة، مقارنة بخدمة السيادة الإيرانية.. في سوريا.

قضية النفايات، وملف التنقيب عن النفط والغاز الشاهد على تخلّي الدولة اللبنانية عن حقها في إنشاء شركة نفط وغاز وطنية، لمصلحة شركات ملغّمة بزعماء البؤر السياسية اللبنانية.. والأظرف هو استحداث وزارة دولة لشؤون مكافحة الفساد، ولبنان يحل في المرتبة 136 من أصل 176 دولة في تقرير “منظمة الشفافية الدولية” 2016. الرئيس سعد الحريري يعود إلى رئاسة الحكومة، بعد مساومة مع “حزب الله” و”العونيين”، في لحظة انهيار مالي في مؤسساته الإعلامية والتجارية. وهي لحظة مفصلية في علاقته مع كيانه السياسي، مضافة إلى شدّ عصب يناور به مزاحموه على الزعامة.

ومثلاً.. أيضاً وأيضاً… عدد الناخبين الدروز في عاليه 68 ألف ناخب، ولهم مقعدان في مجلس النواب. وفي الدائرة ذاتها، 30 ألف ناخب ماروني، ولهم مقعدان. إجمالي المسلمين مع الدروز، 78 ألفاً، ولهم مقعدان. وإجمالي المسيحيين 51 ألفاً ولهم ثلاثة مقاعد. هذه الأرقام التي يوردها الباحث في الشأن الانتخابي، الزميل وليد حسين، تعطي فكرة سريعة عن “الطبيعة الإنسانية” لمطلب قانون انتخابي على أساس النسبية، والمتلطي خلف “الطبيعة الإلهية” لشعار عدالة التمثيل.

وأخيراً.. لا بد أن “مؤسسة العماد ميشال عون”، التي أطلقتها بنات الرئيس، ميراي وكلودين وشانتال، قبل عامين، “لنشر فكر العماد ميشال عون في لبنان والعالم، والعمل على تثقيف الشباب اللبناني لتعزيز الديموقراطية لديهم”، قد سجّلت براءة الاختراع الجديد: السيادة اللامركزية.. تمهيداً لتعميم الفائدة، وإن كان لا ينقصها تعميم.