طوني عيسى/يحتسبون لمواجهة الإسلاميِّين والتيار المدني

39

يحتسبون لمواجهة الإسلاميِّين والتيار المدني
طوني عيسى/جريدة الجمهورية/الاثنين 13 شباط 2017

عندما يفكِّر الطاقم السياسي التقليدي في قانون الانتخاب وتركيبة المجلس النيابي المقبل، يقفز أمامه الكابوس. كابوس الانتخابات البلدية التي، لو اتّبعت نظاماً نسبياً، لَحقّقت انقلاباً على هذا الطاقم في كثير من الأماكن. لذلك، النسبية مأزق للقوى السياسية جميعاً… كلٌّ من منطلق مختلف.

مأزق النسبية في لبنان هو أنّ أياً من القوى السياسية المُمسكة بالقرار لا تريدها في العمق. فالجميع يخشاها. أمّا المطالبون بها فيَسعون إلى استثمارها لتحقيق مصالحهم.

وهكذا، فلا فضل لقائلٍ بالنظام النسبي على قائلٍ بالأكثري:

– الذين يقاتلون النسبية، وأبرزهم الحريري وجنبلاط، يقولون في وضوح إنها لا تناسبهم.

– الذين يقاتلون من أجل النسبية، الشاملة أو الجزئية، يريدونها على قياسهم أيضاً. فحركة «أمل» و«حزب الله» مطمئنان إلى أنّ النتائج المتوقعة في الدوائر الشيعية ستكون الأقل تأثّراً بالنسبية. وتالياً، لن يأتي النظام النسبي إلّا بالقليل من النواب الشيعة، خارج إطار لوائح الحركة و«الحزب».

في المقابل، ستُفكّك النسبية تمثيل الحريري للسنّة وجنبلاط للدروز، وتأتي بنواب سنّة ودروز ومسيحيين حلفاء للثنائية الشيعية. ويعني ذلك أنّ «أمل» و«الحزب» قد يخسران بعض المقاعد الشيعية بالنسبية، لمصلحة شيعةٍ مستقلّين، لكنهما يعوِّضانها بكثير من المقاعد الحليفة في ملاعب الطوائف الأخرى.

أمّا المسيحيون، فثنائيتهم الجديدة: «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، تريد النسبية ضمن شروط، أي ضمن المعايير التي توفِّر لها أكبر اكتساح للدوائر المسيحية. فهي تريد النسبية بالمقدار والشكل اللذين يسمحان لها بتثبيت هذه الثنائية في المجلس النيابي.

لذلك، النسبية بمعناها الإصلاحي الذي يرغب فيه الحقوقيون والناشطون في مجال الحقوق المدنية ليست هي المقصودة بالسجال الدائر حول النسبية. وفي المقابل، إنّ الإصلاح ضمن النظام الأكثري، باعتماد الدائرة الفردية، كما في دول متقدِّمة، ترفضه المكوّنات الطوائفية الكبرى لأنه يعيدها إلى حجمها.

لو تأخّر انتخاب رئيس للجمهورية إلى ما بعد الانتخابات النيابية، لكانت قد جَرت هذه الانتخابات في مواعيدها، على الأرجح، وبقانون «الأمر الواقع»، وبمَن حضر، لأنّ الفراغ ممنوع دولياً والتمديد لم يعد مقبولاً. لكنّ الدينامية السياسية التي وَلَّدها وصول الرئيس ميشال عون لم تعد تسمح بانتخابات الأمر الواقع.

المشكلة اليوم تكمن في الآتي: لا عون قادر على فَرض «منطِقِه»، ولا خصومه قادرون على تجاوزه- كما فعلوا مع رؤساء سابقين- وفرض «انتخاباتهم» بقوة الأمر الواقع. والتحدّي هو في النقطة التي سينتهي عندها هذا الكباش: هل هي أقرب إلى هؤلاء؟ أم أقرب إلى عون؟

هذه الصورة لا تكتمل إلّا بأخذ المعطى الخارجي في الاعتبار. فالقوى السياسية التقليدية تتعرّض لضغوط المجتمع الدولي، ولا سيما منه الولايات المتحدة الاميركية، من أجل تطوير النظام السياسي والسماح بدور أكبر لفئات الشباب والمرأة. وهذا الاتجاه الإصلاحي يقتضي الذهاب في أحد اتجاهين: إمّا النسبية بدوائر كبرى، وإمّا الدوائر الفردية.

وانطلاق «الربيع العربي» عام 2010 دَعّم هذا الاتجاه. ولكن، وفيما تحوَّل «الربيع» حروباً أهلية طاحنة أطاحت استقرار عدد من الكيانات، يكمن التحدّي في أن يكون لبنان نموذجاً ناجحاً في القدرة على تطوير النظام من دون إسقاط الاستقرار.

لذلك، نَما «الحراك المدني» في شكل لافت جداً في الأعوام القليلة الفائتة، وكاد يحقّق الإنجازات في غير مكان، وخصوصاً في بيروت حيث كاد يحظى بنصف المجلس البلدي، في مقابل انكفاء نسبي لموجة التشدُّد الديني الإسلامي التي رافقت انطلاق الحرب في سوريا.

واليوم، يبدو مناسباً لـ«حزب الله»، الذي يصنّفه الأميركيون منظمة إرهابية، أن يَظهر بصورة المقاتل من أجل تطوير النظام واعتماد النظام النسبي. وهو بذلك يُكمِل صورته المقاتلة للإرهاب الديني والتشدُّد الإسلامي (السنّي).

وإذ يضع الطاقم السياسي نظام النسبية على طاولة البحث، فهو يحظى بتشجيع دولي لاعتماده. ولذلك، يفكّر كل طرف بالصيغة المناسبة لـ«تطويع» النسبية بحيث تأتي ملائمة له. وهو لا يدرس ما تقدِّمه النسبية لإحداث نقلة نوعية في اتجاه التمثيل الصحيح للأقليات والأكثريات في شكل عادل، بل ما ستكون مصلحته باعتمادها. الفكرة التي تَلْقى التشجيع دولياً هي أن تؤدي النسبية إلى ضخِّ دم جديد في البرلمان. فهي إيّاها التي ساهمت في دفع عدد من الأحزاب نحو نقل قياداتها إلى الجيل الشاب، ولو من داخل الإطار العائلي، سعياً إلى تغيير في النهج.

ويُراد من الانتخابات النيابية المقبلة، من خلال النسبية، أن تؤدي مهمّة مزدوجة: تنمية حضور الشباب غير المنضوين في الأطر الطوائفية التقليدية، والحدّ من موجة التشدّد الديني التي تعصف بكيانات عربية أخرى. وتحت هذين العنوانين، تحاول القوى السياسية التقليدية أن «تدبِّر رأسها»، مع الإيحاء بأنها مستعدّة لمواكبة التطوير والتحديث. لكن هذه القوى تتجنّب الوقوع في فخّ تسليم الرؤوس للقوى البديلة، على تناقضها: لا للتيارات المدنية العابرة للطوائف، ولا للتيارات المتشدِّدة دينياً، التي تقفل الطوائف. وتحاول القوى التقليدية الإفادة من أزمة قانون الانتخاب وضغط المهل الدستورية لتمرِّر، مرّة أخرى، تسوية «على الطريقة اللبنانية» تُبعد عنها كأس التغيير. وتفكّر هذه القوى في احتمال «تحالف المتضررين»، أي أن تقوم شرائح المجتمع المدني، في مناطق عدّة، بالتحالف مع قوى سياسية مختلفة، بعضها لها وزنه، ما يؤثِّر في المعركة. وفي هذا المجال، يبدو لافتاً إعلان اللواء أشرف ريفي أنه سيتحالف مع «المجتمع المدني» وآخرين في مناطق عدة. هذه هي الزاوية التي من خلالها يجلس أركان الطاقم السياسي التقليدي إلى طاولة البحث ويفكرون في صوغ القانون الجديد للانتخاب، وهي التي تكشف خلفيات المواقف الرافضة النسبية أو الداعمة لها. إنه حُبُّ البقاء أولاً وآخراً.