النائب المستقيل روبير فاضل: ماذا بعد استقالتي؟

73

ماذا بعد استقالتي؟
بقلم النائب المستقيل روبير فاضل/النهار/24 كانون الثاني 2017

فوجئ الكثيرون بابتسامتي العريضة عندما قدّمت استقالتي الخطية من مجلس النواب في حزيران الماضي، وظنّوا أنني سأعود عنها سريعاً أو انني توّاق الى العودة الى القطاع الخاص بعد تجربة مرّة في الحياة العامة.

لم يعرف إلّا قليلون، مدى الانزعاج الذي بدأت أشعر به قبل سنتين، بعدما خاب أملي في إنجاز أي خطوة تحسِّن الوضع المأسوي لبلدنا، إذ اتضّح لي أنني أصبحت شَرِيكاً لنظام وتركيبة وثقافة سياسية تحوّلت عبئاً على مشروع الدولة والشعب. وبعد الاستقالة، وبعدما راجعت تجربتي السياسية، تبين لي أن الشعب اللبناني يستحق نظاماً أفضل، ولا تزال لديه الطاقة الحيوية والرؤية والالتزام لإصلاحه، وان مكاني الطبيعي هو مع هؤلاء الناس.

هذه المقالة خطوة في رحلتي الاصلاحية. حاولت ان أختصر تجربتي السياسية علّها تنوّر كل مواطن، وبخاصة الشباب، وتقنعهم بالانخراط بفاعلية في إصلاح نظامنا السياسي.

قبل الخوض في تفاصيل تجربتي وتوصيف أمراض نظامنا، من الواجب الاعتراف بأن الطبقة الحاكمة تمكّنت من توقيف الحريق المذهبي الذي يشعل المنطقة على حدود لبنان، وهذا إنجاز لا يستهان به. لكن هذا الانجاز لم يترجم في ادارة الخلافات الداخلية وتأمين الحدّ الادنى من الخدمات العامة ووقف ظاهرة تفكيك الدولة وتعميم الفساد.

النظام اللبناني بمعنى المنظومة السياسية يشكو أمراضا كثيرة تهدّد الكيان ومضمون رسالته:

أولها، ثقافتنا السياسية: لن أنسى أول إجتماع للائحة الائتلافية في طرابلس قبل أسابيع من الانتخابات النيابية الاخيرة عام ٢٠٠٩، حين اقترحت على زملائي الافادة من التوافق السياسي بين قيادات المدينة لالتزام برنامج إنمائي يوفّر فرص عمل ويعيد العجلة الاقتصادية الى هذه المدينة المنكوبة. ردّ أحد الحاضرين بعبارة “مبيّن روبير جديد بالسياسة!”. لم أدرِ يومها أن هذه الملاحظة ستكون عنوان السنوات السبع التي عشتها في المجلس، حيث تبين لي أن عدداً كبيراً من المسؤولين غير معنيين بالمصلحة العامة وبتخفيف معاناة الناس، إلا إذا كانت من خلال مؤسساتهم الخاصة أو على الأقل تُسجّل الخدمات في خانتهم. والكثير يمارس بقصد أو بغير قصد المبدأ الشهير “تخرب على يدي ولا تعمر عن يد غيري”.

ثانيها، استغلال الفقر المدقع: قدمت اقتراح قانون لإزالة الفقر المدقع يخفف معاناة ٣٠٠ الف لبناني يعيشون بأقل من ٦ دولارات يومياً، ويُؤْمِّن تعليم الأولاد وتدريب الأهل لإخراجهم من دوامة اليأس بكلفة لا تتخطى ٥٪‏ من عجز الكهرباء أو ٢٪‏ من خدمة الدين. تبيّن لي من خلال سنة ونصف سنة من الترويج لهذا القانون ان جزءاً كبيراً من الطبقة السياسية غير معني بمعالجة ظاهرة الفقر الأدنى، أو في حال إنكار لها، كأن الفقر ظاهرة لا تعني اللبنانيين، أو لا يريد ويا للأسف تحرير هؤلاء المواطنين من الحاجة الى خدماتهم لأن الامساك بأصواتهم إحدى ركائز النظام الحالي.

ثالثها، ميزات الفساد اللبناني: الفساد ويا للأسف أحد وجوه السلطة حتى في البلدان المتقدمة، إلا أن بعض البلدان تسمح بمعاقبة المفسدين، وتالياً يصير الفساد ملاحقاً ومحصوراً، وليس في وضح النهار كما أضحى في لبنان. المشكلة صراحة أن النسخة اللبنانية من الفساد لها ميزتان مقلقتان: الاولى، ان بعض القيمين على الدولة لا يترددون في تحميلها خسائر باهظة لمنافع قليلة نسبياً. يكبّدون خزينة الدولة المليارات ليحققوا الملايين. وهذا صراحة جريمة مزدوجة لانها ليست ضد المصلحة العامة فحسب، ولكن عكس المنطق واستدامة مصادر التمويل! الميزة الثانية، أن الفساد الذي يجب أن يكون جزءاً صغيراً من مدخول الدولة اصبح في بعض الأحيان الجزء الأكبر، فتعامل الدولة كأن لها حصة السمسار وللسمسار حصة الدولة! والخوف هنا أن ينسحب هذا التعامل على الملف الأكبر في تاريخ لبنان، أي ملف النفط.

رابعها، المغترب يدفع الفدية ولا يحرر الرهينة: الاغتراب هو بكل تجرّد سر الأعجوبة اللبنانية. أكثر من ٧ مليارات دولار سنوياً تدخل الاسواق المالية والتجارية والعقارية، وتخفف مفاعيل سوء إدارة الدولة. والمضحك المبكي أن المغترب هو خشبة خلاص النظام، وليس له كلمة فيه. يدفع الفدية لتحسين وضع أرض آبائه ولتخفيف معاناة أهله، لكن ادارة هذا النظام تأخذ الفدية وتترك الرهينة في حبسها الكبير.

خامسها، النظام المرتكز على شبكة مصالح والعنف السياسي: تمكّن القيّمون على النظام من مدّ شبكة مصالح تؤمّن دعم جزء كبير من رجال الاعمال ورجال الدين والمجتمع المدني. غير أن اللعبة الأمنية متحكمة في النظام من خلال الأجهزة ورواسب بعض الميليشيات ووجود السلاح في يد فريق سياسي. علماً أن فارق القوة بين “حزب الله” وباقي اللاعبين ربما وفّر على لبنان العودة الى شبح الاقتتال الداخلي.

سادساً، إستعادة التوازنات الداخلية أم تعميق الخلافات الطائفية: مشاركتي في أكثر من ١٥ جولة من طاولة الحوار الوطني أوضحت المعالم الاساسية لنظامنا السياسي. شخصت هذا النظام بثلاث فئات وضعت عليها صفات تعلّمتها في القطاع الخاص: شركاء رئيسيون، ثم شركاء عاديون وأخيراً شركاء صغار. منذ انتهاء الحرب الأهلية، هناك ثلاثة شركاء رئيسيين هم الأفرقاء الذين ربحوا الحرب. تمكن الشركاء الرئيسيون من المحافظة على ميزاتهم من خلال انقسام القيادات المسيحية التي كانت إحدى ركائز هذا النظام. والسؤال: هل انتخاب رئيس جمهورية له حيثية شعبية داخل طائفته وطي صفحة الانقسامات المسيحية يؤمنان معالجة إحدى ثغرات نظامنا الاساسية، أم أن النظام تضعضع ودخلنا في مرحلة انتقالية لا شك في أنها ستغيّر هوية الشركاء الاساسيين ودورهم ووزنهم، وتالياً تعمّق الخلافات؟.

سابعاً، للمشاركة توأمها الشرير، وهو المحاصصة: في نظام الطوائف، لا موالاة ولا معارضة. إما ان يكون الكل في الحكم وإما ألا يكون حكم على الإطلاق. تحت عنوان المشاركة، وهي مبدأ نبيل، تعطّل دور المراقبة المنوط بمجلس النواب في إطار مبدأ فصل السلطات. والسبب هو اعتماد مبدأ حكومات الوحدة الوطنية التي هي صورة مصغرة عن المجلس. فكيف يراقب المجلس الحكومة إذا كانت نسخة منه؟ كما ان لا مكان لدولة ومؤسسات مركزية قوية خارجة عن سيطرة الطوائف. في دولة الطوائف، استتبع زعماء الطوائف معظم المؤسسات التي يفترض أن تصحّح أداء الحكومة، ومنها مؤسسات الرقابة والنقابات والهيئات الاقتصادية والاعلام، ما عدا حالات قليلة جداً. وهكذا بات نظامنا السياسي عاجزاً عن الإصلاح والتجديد وتحسين أدائه.

العبر كثيرة، ولكن يمكن تلخيص تجربتي السياسية بكلمات مقتضبة: قوة الطبقة السياسية أضحت أكبر خطر عليها وعلى الكيان، لأنها أعدمت كل مقومات إصلاحها.

هذا سرّ ابتسامتي العريضة آنذاك: استيقظت من نوم طويل واكتشفت الطريق الى إصلاح الدولة والوطن. لذلك قلت يومها: ليست استقالتي هي النهاية، بل هي البداية.

الى اللقاء قريباً…