الوزير السابق عباس خلف/ملح الأرض… أو مآسي لبنان التي تلحّ على علاج سريع

689

ملح الأرض… أو مآسي لبنان التي تلحّ على علاج سريع

الوزير السابق عباس خلف/المستقبل

11 تشرين الأول/14

لا يحتمل التدهور الذي وصلت إليه الأوضاع الأمنية والمعيشية والاقتصادية في البلاد الاستمرار في سياسة «الحال كالمعتاد» (Business as usual). ولنبدأ بالأمن الفالت: المخطوفون العسكريون مهددون بالذبح في كل ساعة، ولا يزال يخطف عسكريون أو مواطنون جدد في شكل شبه يومي. المواصلات العامة تتعرض للقطع والاعتصامات أمام الإدارات العامة أصبحت حدثاً شبه يومي للمطالبة بإطلاق المخطوفين. وهذا يفاقم أزمة السير الخانقة التي تهدر وقت المواطنين وتؤثر في أعصابهم وتعطّل أعمالهم، وبالتالي تؤثر سلباً في الإنتاجية في كل المرافق العامة والخاصة. ولقد أصبح الشارع «فشة خلق» لكل متضرر أو ثائر أو مطالب بحق أو معترض على ظلم لحق به أو بمن يلوذ به. وهذا التصرف بالطبع يقضي على البقية الباقية من هيبة الدولة.

ننتقل إلى تفكك الدولة وتدنّي أداء الإدارة العامة بكل فروعها، بما في ذلك القضاء والأمن الداخلي. والأدهى أن هذا الأداء المتدني بدأ يصيب القطاع الخاص أيضاً، ما يشكّل عبئاً ثقيلاً على الإنتاجية في الدورة الاقتصادية وعلى مستوى الخدمات حتى في مجالات الرعاية الصحية والقطاع التربوي.

أما المستوى الثالث، وهو في رأس الأولويات في الظروف الحالية، فهو تسليح الجيش وقوى الأمن وتجهيزها بأقصى السرعة. لقد تكرّمت المملكة العربية السعودية بتقديم هبتين لدعم الجيش وقوى الأمن، الأولى بثلاثة مليارات دولار والثانية بمليار واحد. وبصرف النظر عن أخبار السمسرة التي تتداولها بعض أجهزة الإعلام، فإن البطء المريب في التنفيذ يجعل المرء يتساءل: ألا يدرك المسؤولون الخطر الوجودي الذي يهدد مستقبل لبنان ومصيره والذي يوجب السرعة والشفافية في كل عمل يتناول دعم القوى العسكرية لمواجهة الوحش الإرهابي الذي يهدد البقاع والشمال وأنحاء أخرى في لبنان؟

وإذا انتقلنا إلى مطالب الموظفين في القطاع العام، نرى أن سياسة «الحال كالمعتاد» لا تزال هي السائدة. مسألة سلسلة الرتب والرواتب، وهي حقوق مستحقة منذ سنوات نالت وعوداً رسمية ومتعددة باستحقاقها وضرورة إنجازها، لا تزال تراوح مكانها بعد أن توحّدت الحركة المطلبية في شكل عابر للطوائف والمذاهب والمشارب السياسية للمرة الأولى في لبنان.

ولا بد من الإقرار بأن الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات التي رافقت تحرك هذه الحركة قد نجم عنها بعض الضرر للحركة التجارية، لكن المسبب الأساس لهذا الضرر هو تقصير الحكومات المتعاقبة والمجلس النيابي بإجراء الدراسات العلمية الشفافة والوصول إلى قرارات تلبي حقوق الموظفين من جهة ولا تشكّل عبئاً إضافياً للمالية العامة والاقتصاد الوطني.

ومن السلسلة ننتقل إلى مشكلة الكهرباء الغائبة، والتي تبتلع مليارات الدولارات كل عام من دون أن تلبي حاجة المواطن في شكل واف، فأصبح المواطن يدفع فاتورتين، واحدة لكهرباء لبنان والثانية لمشغّل المولّد الكهربائي. أما مشكلة المياومين واحتلالهم مبنى إدارة شركة الكهرباء فهي فضيحة الفضائح التي أسقطت «ورقة التين» وكشفت عدم قدرة السلطة على تولي أي مسؤولية عامة بكفاءة. أما مشكلة المياه التي تعزوها الإدارة إلى شح الأمطار والمتساقطات، ففشل آخر للدولة التي عجزت حكوماتها على مدى عقود عن وضع خطة لبناء السدود والبحيرات وتنفيذها في مواقيتها. ولا تقل رداءة خدمة الاتصالات الهاتفية وخدمة الإنترنت أهمية عن سلسلة التقصير التي لا تنتهي، والناس يعيشون على الوعود التي لا تتحقق ولقد سئموا تعهدات الوزراء الذي يُشبعون الناس تفاخراً بتقدُّم قطاع الاتصالات وازدهاره وتفوّقه وهو في الواقع في أسفل درجات الرداءة.

وإذا ألقينا نظرة على التقارير الصادرة عن جهات مالية مختصة نجد أن الشأن المالي يعاني من تفاقم الدَّين العام وتدني الجباية وانخفاض الواردات السياحية. وعندما أعلن عن احتمال وجود اكتشافات نفطية في المياه الإقليمية، تنفّس اللبنانيون الصعداء بأن خير الله آت والبحبوحة في الطريق إليهم. وعلى رغم أن عملاً جاداً أُنجز في المرحلة الإعدادية الأولى، فهذا الأمر الحيوي لمستقبل لبنان الاقتصادي لم ينل الاهتمام المتواصل والسريع، فنام في أدراج من يملكون المفاتيح، ويقال إنه يتخبّط في معمعة توزيع الحصص والمغانم الشائعة.

بعد هذه الجولة في مجالات فشل السلطة الحاكمة وتقصيرها في الارتقاء إلى مستوى آمال الشعب الصابر وأمانيه، لا بد من إلقاء نظرة جادة على الاستحقاقات الداهمة التي لا تحتمل أي تأجيل:

– استعادة المخطوفين العسكريين من خلال التفاوض المباشر أو بالمقايضة من دون عُقد أو مزايدات. وهذا يستدعي إنجاز الملف القضائي للمسجونين المتطرفين في سجن رومية، وتجاوز الشكليات التي لا يجوز التمسك بها في الظروف الخطيرة الطارئة، وإطلاق الأبرياء منهم فوراً.

– انتخاب رئيس للجمهورية «اليوم وليس غداً»، ولو لزم الأمر عقد اجتماع نيابي طارئ «يحتجز» فيه النواب في مبنى المجلس إلى أن يخرج الدخان الأبيض بإعلان انتخاب رئيس توافقي وسطي ومعتدل.

– تعديل قانون الانتخاب وإجراء انتخابات نيابية بعد انتخاب رئيس للجمهورية.

– معالجة مشكلة النازحين السوريين وتجميعهم في شكل يؤمّن ضبط تحركاتهم وتلافي أضرار فوضى انتشارهم من دون رقابة صارمة.

– إقرار سلسلة الرتب والرواتب بسرعة وفك أسر شركة الكهرباء بالقوة إذا استدعى الأمر، وتوفير الإنارة لكل المناطق بالتساوي.

– فرض رقابة على كل الأخبار التي تتناول الشؤون الأمنية المتعلقة بتحركات وعمليات الجيش وقوى الأمن، والمشاهد التي تُحدث إرباكاً وقلقاً وهلعاً لدى المواطنين. فحرية الإعلام يجب أن تراعي أولاً وقبل أي شيء مصلحة الأمن الوطني ومعنويات القوى العسكرية والمواطنين في شكل عام.

– إن مواجهة الهجمة البربرية والمتعصبة والفكر الظلامي الخطر يجب أن يستند إلى ركائز عدة منها ما هو قصير المدى وهو عسكري وإعلامي وتوعوي، ومنها ما هو للمدى المتوسط وهو التصدي للفكر التكفيري، والذي ينتمي إلى عصور الظلم والظلام والجهل والعنف. وذلك بفرض تدريس كتاب موحد للتاريخ في جميع المعاهد والتركيز على مادة التربية المدنية لتنشئة مواطن مدني لا طائفي ينتمي إلى الوطن وليس إلى الطائفة أو الدين أو أي تيار تكفيري أو ظلامي. ولا بد هنا من الإقرار بأن جزءاً مما يحصل اليوم من اجتياح للفكر التكفيري وانجذاب أعداد غير قليلة من الشباب إلى هذا التيار التدميري، تتحمّل مسؤوليته الأنظمة الاستبدادية والطائفية المتعصبة في المنطقة العربية، وذلك لفشلها في إقامة دول وطنية مدنية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات ويحكمها القانون بالعدل والحزم والمساواة.

إن ذهنية «الحال كالمعتاد» المتخلفة قد مضى زمانها، فالحال اليوم هو للجدّ والشدّة والحزم «والمواجهة» بالفعل لا بالقول، كما هو لتدارك الأخطار المحيطة بالوطن وبمستقبل المواطنين واللجوء إلى التدابير التي تؤمن سلامة المواطن فوراً ومن دون تردد أو مراعاة لأية اعتبارات أو ضغوط. ولولا التجربة السيئة لإعلان حالة طوارئ في ظروف سابقة لكان اقتراحنا هو أن تدرس مسألة إعلان حالة الطوارئ في الظروف الخطيرة والمصيرية والوجودية القائمة. لكن عوامل موضوعية عدة تحول دون اللجوء إلى اقتراح هذا الإجراء. لذلك، فإن البديل هو الانتقال من ذهنية «الحال كالمعتاد» أو «ماشي الحال» إلى الاقتناع بأن أحوالنا ينطبق عليها موضوعياً وواقعياً حكم الطوارئ وليس الأحكام العادية التي لا تطبّق ولا تُحترم من المواطن العادي.

كلمة أخيرة عن الطبقة السياسية الحاكمة. لقد آن أوان رحيلها قبل أن تتعرض أكثر للإذلال والمهانة من معظم المواطنين. وما نشاهد على التلفزيون ونقرأ في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي من تحقير لكرامة الزعماء السياسيين والنواب والمسؤولين القضائيين والإداريين، تكفي لكي يفكّر هؤلاء جدياً بالرحيل.

 وزير لبناني سابق