المطران مارون ناصر الجميل من أنجيه الفرنسية: تهجير المسيحيين المشرقيين يجعل أوروبا أمام تحديات لا تحمد عقباها

451

المطران مارون ناصر الجميل من أنجيه الفرنسية: تهجير المسيحيين المشرقيين يجعل أوروبا أمام تحديات لا تحمد عقباها

الأربعاء 08 تشرين الأول 2014 /وطنية

أنهى راعي أبرشية سيدة لبنان للموارنة في فرنسا والزائر الرسولي على موارنة أوروبا، المطران مارون ناصر الجميل، زيارته الثانية لمدينة أنجيه الفرنسية التي استغرقت يومين، اطلع خلالها على ما أنجز من عمل من أجل تثبيت الرعية الجديدة هناك. وأجرى لقاء مع رئيس أساقفة أنجيه المطران إيمانويل ديلماس وعدد من المسؤولين الكنسيين والسياسيين الفرنسيين. وشدد الجميل على “أن تهجير المسيحيين المشرقيين من أوطانهم سيقلب معادلات كثيرة في أوروبا لا تحمد عقباها”.

وأطلق نداء إلى “السلطات الأوروبية من أجل إبقاء المسيحيين المشرقيين في أوطانهم”. وكان الجميل وصل النائب العام للأبرشية المونسنيور ريمون باسيل صباح السبت الماضي إلى محطة مدينة أنجيه حيث كان في استقبالهما الخوري إيلي العلم وشخصيات.

ثم توجها وبعض أعضاء الوفد لزيارة قلعة أنجيه التاريخية برفقة جوزف بدر الذي تولى شرح تاريخها بالتفصيل وخصوصا البساط المطرز (يعود لعام 1382) المستوحى من سفر رؤيا القديس يوحنا الإنجيلي لنهاية العالم والصراع بين قوى الخير والشر على خلفية حرب المئة عام والمجاعة وتفشي مرض الطاعون. بعد ذلك، دعت اللجنة المنظمة المطرانين الجميل وإيمانويل دلماس، رئيس أساقفة أبرشية أنجيه، والخورأسقف ريمون باسيل إلى غداء عمل في مطعم “لوسانتوران” وجرى نقاش حول سبل توثيق العلاقات بين الكنيسة اللاتينية في محافظة “مين أي لوار” والموارنة المنتشرين هناك وتعزيز التعاون ولاسيما في إطار تثبيت الرعية جديدة في أنجيه. ولبى الجميل وباسيل وأعضاء اللجنة المنظمة دعوة استقبال نظمها على شرفهما النائب الحالي في البرلمان ورئيس بلدية أفرييه القريبة من أنجيه الدكتور مارك لافينور.

بعد كلمة الترحيب، قال لافينور: “للكنيسة المارونية ولبنان تاريخ مشترك، ومصير هذه الجماعة مرتبط منذ عقود بمستقبل هذا البلد، ولفرنسا وشائج قوية به. وإذا كان الانتشار الماروني في العالم يقدر بنحو 10 ملايين نسمة، فإن الموارنة يكابدون اليوم أحلك الأوضاع في الشرق الأوسط على غرار الأقليات المسيحية الأخرى في العراق وسورية فضلا عن الأكراد والأزيديين وغيرهم. فالجميع يعيش تحت وطأة تهديد “الدولة الاسلامية في العراق والشام”… ونحن ندين الأعمال البربرية التي تقوم بها جماعات متعصبة وجهادية”.

من جهته، قال الجميل: “لست المطران الماروني الأول الذي يزور هذه الربوع، بل أنا الثالث بعد المطرانين نعمة الله الدحداح (1889) والياس الحويك (1890) الذي أصبح بطريركا في ما بعد وجاهد من أجل إستقلال لبنان بحدوده الراهنة. نحن من المسيحيين الأوائل الذين تتلمذوا على يد الرسل منذ فجر المسيحية في تلك البقعة من العالم، ونحن أصلا من بلدان الشرق الأوسط وننتمي إلى الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية منذ نهاية القرن السابع. ومذذاك الحين ونحن نعيش جنبا إلى جنب مع المسلمين وأحيانا بمواجهة بعضنا البعض. والحوار ليس بين الانجيل والقرآن بل هو في الحياة اليومية المشتركة. وعلى سبيل المثال، أنا أمارس التعليم في الجامعة اللبنانية منذ 1985 و90 في المئة من طلابي هم من المسلمين، والاحترام متبادل بيننا، وهم يبدون إعجابهم بنظرتنا إليهم وبالطريقة التي نتعامل بها معهم. ونحن جميعا منفتحون على الثقافة الأوروبية”. وأضاف: “أعتقد أن في الأمر مصالح جمة وراء كل ما يجري الآن، يمكن إختصارها بالتسابق على الهيمنة على النفط، والتنازع القائم بين الولايات المتحدة وأوروبا. فالقارة القديمة قريبة من الشرق الأوسط بينما لأميركا سياسة أخرى تعتمد على وضع اليد على الطاقة والنفط. وهذا التنافس يترجم ببيع الأسلحة، واستقطاب الأدمغة والطاقات البشرية. والدليل أن بيننا الآن في هذه الصالة العديد من الأطباء والدكاترة الموارنة في مختلف الميادين. وفي لبنان يتعاون الموارنة والمسيحيون والمسلمون على مذاهبهم المختلفة في إطار نظام فريد في العالم يقوم على التعايش والحوار المتعدد الأبعاد، ويمسي هذا الوطن الصغير مختبرا للتلاقح بين مختلف الثقافات. ونجحنا في هذا الاختبار إذ جرى في ما مضى الحديث عن “المعجزة اللبنانية” لاسيما أن الاسلام في لبنان رضي بحكم سياسي برئاسة ماروني”. وحذر من أنه “إذا دفع المسيحيون المشرقيون، لا قدر الله، إلى هجر أوطانهم، فستكون أوروبا أمام تحديات لا تحمد عقباها. ونحن كمسيحيين لبنانيين ومشرقيين في فرنسا وأوروبا نقوم بدور الشريط العازل بينكم وبين العالم الاسلامي”.

وكشف الجميل أنه يحض السلطات الفرنسية، كلما إجتمع بها، على “مساعدة المسيحيين للبقاء في أوطانهم في المشرق، لأننا نريد البقاء هناك، ولأن رسالتنا هي في تلك الديار. ونحن عرفنا كيف نعيش مع الآخر المسلم لأننا خبرنا ثقافة منفتحة على الآخر”.

ثم جرى تبادل للهدايا. وحضر حفل الاستقبال عدد كبير من رؤساء الجمعيات والمنظمات الأهلية غير الحكومية من بينها السيدة إيزابيل دونيي دابرينيي، مؤسسة جمعية أنجو ـ لبنان الانسانية وزوجها أوبير.

بعد ذلك، عاد الجميل والوفد المرافق إلى كنيسة سان لو في مدينة أنجيه لترؤس الصلاة بحسب الطقس الماروني، ثم ألقى محاضرة بعنوان: “فرنسا والموارنة ومسيحيو المشرق” في صالة الرعية.

وعرض الجميل تاريخ الموارنة، فأكد أن “لبنان وسوريا والأردن هي أرض مقدسة وليس فلسطين فقط، فالقديس بطرس أقام 7 سنوات في أنطاكية التي كانت عاصمة سوريا، والقديس بولس مكث في دمشق كما تعرفون، والمسيح بنفسه جاء إلى صور وصيدا وقام بأعجوبته الأولى في قانا الجليل، أي على مقربة من مدينة صور”. وعن الخبرة اللبنانية-الفرنسية، قال الجميل: “إنها مستمرة، والعلاقات وثيقة. وثمة من يقول إن المسيحيين هم في كنف الحماية. منذ أيام سان لويس ومن بعده كل ملوك فرنسا، لكن علاقة الكنيسة المارونية بفرنسا كانت ثقافية بامتياز. وعام 1614 استدعى الملك لويس الثالث عشر أستاذين مارونيين من المعهد الماروني في روما لتعليم اللغتين السريانية والعربية في المعهد الملكي في باريس، المعروف اليوم بمعهد فرنسا. وبعد العلاقة الثقافية، بدأت العلاقة السياسية، إذ كان جميع قناصل فرنسا في بيروت في القرنين السابع عشر والثامن عشر من الموارنة. ولقد توجه لفيف من الكهنة والراهبات والرهبان في إطار الارساليات إلى كل من لبنان وسوريا وفلسطين، ومعظمهم ووري في الثرى هناك. ويمكن وصف علاقة الكنيسة المارونية بفرنسا بأنها شكل من أشكال الانفتاح على الحداثة. صحيح أننا اعتدنا العيش مع المسلمين، ووجدنا نموذج حياة قائم على الاحترام المتبادل، وصحيح أن الحروب ليست خبزنا اليومي، فإذا زرتم لبنان تجدون أننا نعيش معا إلى جانب بعضنا البعض في كل مرافق الحياة. ليس مستحيلا أن نعيش مع المسلمين، مع الآخر، ولدينا لبنان كنموذج. لكنكم تتساءلون قائلين: إذا لماذا هذه الحرب الدائرة؟ الجواب هو أن هناك مصالح للدول في هذا البلد الصغير، هناك إسرائيل وفلسطين، هناك المصالح الاقتصادية والنفط والطاقة الشمسية والطاقات البشرية، والمطامع المتعددة”.

وأعرب الجميل عن أمله “بالعودة إلى العيش بسلام بين أبناء الديانات السماوية الثلاث، وهذا ممكن شرط إيجاد قانون مدني عادل يساوي بين الجميع، وإلا عمت الفوضى. اليوم يحدثونكم عن “داعش”، فمن اين أتت كل أنواع السلاح هذه؟ ثمة مخطط كبير من تدبير القوى العظمى”. وعن نظرته إلى الأصالة، قال: “ما اسعى إليه كماروني وكلبناني من أي طائفة ومذهب كان، هو الحؤول دون الذوبان في البلدان المضيفة، لأننا نحمل عبق المشرق، وهو قيمة مضافة تعزز التنوع والتعددية. كما لا أريد أن نعيش في “غيتو” بعيدا عن الكنيسة اللاتينية في فرنسا وأوروبا، إذ لديكم الكثير لنتعلمه منكم، ولدينا الكثير لنعلمكم إياه لكي نمشي سوية لسبر الحقيقة ولمعرفة ربنا ونشر القيم والمثل الانسانية. وأنهي كلمتي بقول فرنسي”لكل شعرة ظلها”.

وصباح يوم الأحد، إجتمع الجميل بوفد من موارنة مدينة نانت، وجرى تبادل للآراء وتم البحث في خطوات عملية مقبلة. ثم ترأس قداس الأحد بحسب الطقس الماروني في كنيسة سان لو اللاتينية، وعاونه المونسنيور باسيل وخادم الرعية المارونية الخوري إيلي العلم والخورأسقف لوران بريجيه خادم رعية سان لو. وقال الجميل في عظته: “نحن منتشرون كمهاجرين في كل أصقاع المعمورة، وأينما حللتم تجدون مسيحيي المشرق، ومهما اشتدت الصعاب، حافظت الكنائس المشرقية على تراثها الأنطاكي العريق. والكنيسة العالمية لا يمكنها الاستمرار بمفردها من دون أخذ وجودنا ووجود الكنائس المشرقية بالاعتبار، وليس بمقدورها ان تشهد للمسيحية من دون مشاركة الكنائس المشرقية. أجدادنا نهلوا الإيمان منذ مجيء المسيح، ومن آباء الكنيسة ولاسيما مار إفرام السرياني، وثبتنا تطويب خمسة قديسين من لبنان في القرنين العشرين والواحد والعشرين، ومنهم مار شربل الذي قد تعرفونه”. وعما يجري في المشرق، قال الجميل: “هو الجنون بعينه، حيث يعتدي علينا المجانين البرابرة، فهل من المعقول قطع الرؤوس في القرن الواحد والعشرين؟. لم آت إلى هنا للندب بل لإلقاء التحية على مواطنينا الذين يشهدون باستمرار على إيمانهم بالكنائس المشرقية رغم كل شيء، كما لإبداء الشكر على صلواتكم واستضافتكم لنا في بلادكم، وعلى استضافة اللاجئين والمعوزين. ونحن بدورنا نصلي من أجل فرنسا، وبطريركنا يخصص القداس الأول بعد عيد الفصح على نية فرنسا. وهذا دليل على أننا نتشارك معكم في الوحدة عبر الصلاة. وحين حلت الفيضانات في فرنسا عام 1910، طلب البطريرك الحويك من كل الرعايا المارونية جمع التبرعات والحسنات لتقديمها لكنائس فرنسا ولاسيما الفرنسيين المعوزين”.

وختم: “نحن ندافع معا عن قضية واحدة هي المثل والقيم نفسها، ونأمل أن تكون تعاليم الإنجيل وقيم حقوق الإنسان، ويكون هذا التضامن، نبراس العلاقة السليمة مع شعوب المشرق وقبول الآخر، وهذه هي النقطة السلبية في المشرق، إذ من الصعب القبول بشخص ليس من طائفتنا وديننا وحزبنا. ونأمل أن تطبق هذه المثل هناك”. وبعد القداس الاحتفالي، شارك أبناء الرعية التي تضم ايضا عائلات سريانية وكلدانية من سوريا والعراق في الغداء، فاختلطت الأطباق اللبنانية والسورية والعراقية بالأطباق الفرنسية. وكان للخوري إيلي العلم كلمة شكر للجميع على الجهود التي بذلوها لإنجاح زيارة المطران الجميل الثانية لأنجيه.