انطوان قربان: سمير فرنجية أو لبنان الأزلي

115

سمير فرنجية أو لبنان الأزلي
انطوان قربان/ترجمة نسرين ناضر/النهار/18 تشرين الأول 2016

سادت أجواء من زمن آخر يوم الاثنين 10 تشرين الأول الجاري في قصر الصنوبر خلال قيام السفير الفرنسي بتقليد سمير فرنجية وسام جوقة الشرف من رتبة “كومندور” باسم رئيس الجمهورية الفرنسية فرنسوا هولاند. كان النسيم الخريفي عليلاً، والأجواء عذبة ودافئة، وعائلية وحميمة بطريقة رائعة ومستساغة.
ساد انطباعٌ بين المدعوّين بأنهم يشاركون في لقاء بين أصدقاء أكثر منه في مناسبة رسمية وشديدة التقيّد بالبروتوكول. وكان في قلوبهم غصّةٌ يُحرّكها الحنين. فقد شعر كل واحد منهم في أعماقه بأن فرنسا تكرّم، بشخص سمير فرنجية، لبنان الأزلي، لبنان العلاقات التي تذهب أبعد من الصداقة بين الشعوب، حتى ولو بدا أنه يختفي من الذكريات. لقد تلبننت فرنسا من أجل سمير فرنجية، لأنه في ذلك المساء، أصبح اسم سمير فرنجية “السيد لبنان”.
قيل كل شيء عن المسيرة السياسية والمسار غير العاديَّين لهذا الرجل الخارج عن المألوف. يختصر في شخصه لبنان بتنوّعه وتناقضاته إنما أيضاً بمرونته الاستثنائية وخصاله الجميلة على الرغم من كل المآسي التي تحلّ به منذ عقود طويلة.
“السيد لبنان”، أو “البيك الأحمر” كما يُلقَّب، شخصية آسرة. لا شك في أنه زعيم إقطاعي بحكم نسبه، لكنه يعيش الحياة البسيطة للأسر البورجوازية بعيداً من المظاهر والادّعاءات. تفضح خصاله، التي تنمّ عن رقيّ مرهف، السيد الإقطاعي الذي بداخله. ومع ذلك، يبقى قريباً جداً من الناس الأكثر بساطة وتواضعاً. هو صديق وفي، وخصم يهابه أعداؤه، وصارم في موقفه من حقوق الإنسان، يجسّد في شخصه رمز الشجاعة والاعتدال والمصالحة والمغفرة. يحرص في شكل خاص على عدم السماح لقوّته الفكرية بسحق طيبة قلبه الكبيرة.
ابن زغرتا وعائلاتها هو أشبه بسمكة في الماء في إقطاعته. لكن حتى هناك، يبقى مطبوعاً بالتمدّن وبقيم الكياسة والرقي التي تميّزه. العيش المشترك في قاموسه هو سلّم من القيم الحضرية التي ترتكز كلها على الفرد، والتي تبقى طبيعته الثانية.
كان بإمكان سمير فرنجية أن يمتثل، من دون أي صعوبة، للطابع التقليدي للجبل اللبناني. كان بإمكان هذا البيك، ابن البيك، أن يقتطع لنفسه مكانةً سبق أن بنتها عائلته حتى قبل أن يبصر النور. ومع ذلك، اختار المدينة ليصنع فيها صورة لنفسه تتلاءم ونظرته إلى استقلاله الفردي. في المدينة، نصبح “كلباً أو طفلاً”، كما عبّر بورخيس خير تعبير. لقد اختار سمير فرنجية، من جهته، أن يكون ثائراً عنيداً، ذا نوبات غضب مشهودة وتواضع يُضرَب به المثل. لا يحب البيك أن يكون سيداً مستبداً وأن يكون في تصرّفه عدد كبير من الأزلام المستعدّين لإطاعته طاعة عمياء. يمارس البك الحس الديموقراطي حتى الهوس. لا يفرض أي قرار، بل يتشارك أفكاره؛ إنه في بحث دائم، ليس عن مجرد التسوية التي غالباً ما تكون مخزية، إنما عن الموافقة الحرّة والطوعية.
يتميّز “السيد لبنان” أو “سمير بك” بلطفه الذي يرتسم ابتسامة على ثغره، حتى في أحلك الظروف. كان هناك شيء من السمو عندما سمعناه يتحدث بخفر، في الكلمة التي ألقاها في قصر الصنوبر، عن “هذه اللحظة الصعبة في حياتي حيث عليّ أن أخوض، مرة أخرى أيضاً، معركة ضد عنف من نوع آخر وذي طبيعة أكثر غدراً”. لقد حافظ “السيد لبنان”، الذي يتأكّله عنف المرض ويوهن قواه، على ما يتميز به من ابتسامة طفولية ونظرة تشعّ بطاقة شبابية.
لقد أعطانا سمير فرنجية درساً رائعاً في الإنسانية، على صورة لبنان ومرونته الراسخة. ففي ذلك المقر، الذي يكتسب مكانة مهمة في التاريخ اللبناني، أظهر لنا ذلك الرجل الذي أنهكه المرض، ببساطة شديدة، كم يبقى الإنسان عظيماً وسط كل مآسيه.
إذاً لقد رأت فرنسا، وطن الروح الكونية والفكر الإنساني، في سمير فرنجية رمزاً للبنان إنما أيضاً رجلاً عرف كيف يجسّد، على أكمل وجه، القيم التي نقلتها بنفسها إلى العالم: إحساس الحرية القوي، والتجربة المعيوشة الأكثر واقعية للمساواة بين جميع البشر، وتشارُك الأخوة الأكثر أصالة على الرغم من كل التناقضات.
لقد أدركت فرنسا أن قيمها الخاصة، قيم الحرية – المساواة – الأخوة، هي مضمون العيش المشترك الذي يجسّده سمير فرنجية، اللبناني الشجاع، المتحرر من الأغلال الثقيلة للعشائرية والطائفية.
إلى هذا الرجل، أقدّم فائق احترامي.