طوني عيسى: مَن رمى رئاسة الجمهورية في «السلّة»؟

111

مَن رمى رئاسة الجمهورية في «السلّة»؟
طوني عيسى/جريدة الجمهورية/الاثنين 10 تشرين الأول 2016

قد ينزل موفد بكركي إلى عين التينة لـ«يتضيَّف» خبز العباس، و«يردّ الإِجر» موفد الرئيس نبيه برّي ليتناول الخبز والملح والمعمول في الصرح البطريركي. ولكن، بعيداً عن الضيافات التراثية والنيّات الحسنة، هل يمكن السؤال: ماذا حلَّ بالسلّة؟ شعرت بكركي بالاستفزاز عندما أعلن الرئيس بري أنّ رئيس الجمهورية لا يمكن أن يأتي إلّا ضمن سلّة تفاهمات شاملة، وهذا حقّها. فليس سهلاً على البطريرك أن يقبل بجعل موقع الرئاسة مادة مساومة سياسية على الطاولة.

في تقدير بكركي أنّ الرمز الوطني لا يعود رمزاً عندما يصبح مادة مساومة. ورئاسة الجمهورية وفق الدستور والأعراف يُفترَض أن تكون الشريك الأساسي في صناعة التسويات الوطنية.

وأيّ معنويات ستبقى لهذه المرجعية إذا جرى ارتهانها إلى أن تُفرِج عنها مساومات القوى الطوائفية الداخلية والمحاور الإقليمية المتصارعة؟ الأسئلة مشروعة في بكركي. وقد سارع بري إلى إيضاح المعنى الذي يقصده بـ»السلّة». لكنّ المثير هو أنّ هناك قوى مسيحية أساسية، معنية بالاستحقاق الرئاسي مباشرة، لم تشارك بكركي غضبها، بل بادرت إلى الدفاع عن رئيس المجلس وتبرير طرحه. ويمكن الحديث عن بلبلة مسيحية إزاء هذه المسألة. فكل من القوى المسيحية «درسها» وفق مصالحه الخاصة، وليس انطلاقاً من الرمزية التي يحملها موقع الرئاسة.

لقد أظهر العماد ميشال عون عدم حماسته في رفض فكرة بري. وعلى رغم أنّ الوزير جبران باسيل زار الصرح متعاطفاً مع البطريرك، فإنّ الرابية تركت لبكركي والآخرين أن يقلِّعوا شوكهم بأيديهم في هذه المسألة، لأنّ الموسم هو موسم انفتاح. وفي ظنّ الرابية أنّ اقتناع برّي بعون مرشحاً رئاسياً هو اليوم قيد المفاوضة، وقد تصل «اللقمة إلى الفم»، وليس من مصلحة «التيار» فتح سجالٍ مع عين التينة يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

لكنّ عون، بهذا الموقف، يثبت أنّ طرح برّي في محلِّه. وفي عبارة أوضح، إنّ النهج الذي اتّبعه عون أساساً في ملف الرئاسة، وما زال، هو الذي يجعل موقع الرئاسة والرئيس والانتخابات الرئاسية رهينة السلّة المتكاملة.

 ويوحي هذا النهج بأنّ عون لا يرفض منطق السلّة بالمطلق، بل هو مستعد للقبول بها إذا كانت تأتي به رئيساً للجمهورية. ومنذ البداية، أعلن عون رفضه أن يأتي رئيس الجمهورية في سلّة التفاهمات الشيعية – السنّية، أي بسلة «التحالف الرباعي».

واعتبر أنّ مصلحة هذا التحالف أن يأتي برئيس ضعيف، وأنّ مجيء الرئيس المسيحي الأقوى يتكفّل بإنهاء مؤامرة السلّة. وهذا الموقف فيه الكثير من الصواب. لكنّ المقاربة العونية للحلّ تثبت «السلّة» ولا تلغيها.يعتقد عون أنه «خربط» السلّة حتى اليوم بإصراره على الترشّح ورفض الرئيس «الوسطي» وتعطيل النصاب لانتخاب رئيس للجمهورية سواه، لأنه- وحده من دون سواه- يمثّل الميثاقية المسيحية، خصوصاً بعد حصوله على دعم «القوات اللبنانية». لكنّ عون لم ينجح في فرض انتخابه. وهكذا بات الملف الرئاسي ضحية التعطيل المتبادل إلى مدى غير منظور: عون يعطِّل انتخاب الرئيس الوسطي بنجاح، و»الحلف الرباعي» يعطّل انتخاب عون بنجاح. ومشكلة عون أنه، بعد نحو عامين ونصف العام على الفراغ الرئاسي، لم يقتنع بأنّ العقبات التي تعترض سبيله حقيقية وغير قابلة للمعالجة، وأنه- بقصد منه أو من دون قصد- أدخل ملف رئاسة الجمهورية ضمن سلّة تفاهمات من نوع تلك التي طرحها بري، لكنّ «سلّة» عون غالباً ما تبقى «فاضية». مثلاً، سبق لعون أن فاوض الرئيس سعد الحريري لأشهر طويلة، ثم طرَح ثلاثيته الشهيرة للسلطة: هو والحريري والسيد حسن نصرالله. وفي الترجمة العملانية، عون في بعبدا، الحريري في السراي، وبرّي في البرلمان. وهذه السلّة سقطت سريعاً لأنّ الطرف الذي طرحها لا يمتلك أدوات الضغط الكفيلة بتسويقها. وفي السياسة لا أحد يعطي مجاناً. لذلك، ليس مطروحاً أن يدفع بري ثمناً لتثبيت موقعه في الحكم لأنه يستند إلى رصيد وافٍ من القوة، خصوصاً من جانب «حزب الله». ويمكن للحريري أن يستخدم بعض نقاط القوة ويُقايض الأثمان للعودة إلى السراي. ولكن ما هي الأدوات التي يملكها عون، وأوراق القوة، التي تتيح له فرض «سلّته»؟ وفي عبارة أخرى، هل هو يملك الثمن الذي يجب دفعه مقابل تحقيق هذا الهدف؟

الشيعة يحسمون أمرهم: لا رئيس للمجلس سوى بري. وإلى حدّ كبير، لا يختلف السنّة على دعم عودة الحريري إلى السراي. أمّا المسيحيون فيتصارعون جدياً على رئاسة الجمهورية بدل التفاهم على شخصية واحدة جامعة وانسحاب كل المرشحين الآخرين لمصلحة هذه الشخصية. وهذا ما يشرذم قواهم ويجعل الرئاسة مادة مساومة بين أقوياء الطوائف الأخرى. ففي معادلة القوى، الشيعة هم الأقوى، السنّة في مرتبة ثانية، والمسيحيون يحلّون في مرتبة ثالثة، وبفارق شاسع عن الشيعة الذين يحظون بفائض قوة إقليمي ومحلي، وعن السنّة الذين ليسوا كالمسيحيين أيتاماً في أي حال.

وفي الأيام الأخيرة، شاء بري أن ينعقد مجلس الوزراء، فوافقه رئيس الحكومة السنّي على عقده، على رغم تحفظات «المستقبل». كما رمت الرابية جانباً كل تحفظاتها وكتمت غضبها وارتضَت المشاركة في الجلسة بشكل كافٍ، ولو غاب باسيل. لعلّ وعسى أن «يفتحها الله» في وجه عون. يستتبع ذلك طبعاً جلسات تشريعية يريد بري تسهيل الطريق أمامها، على رغم اعتراضات عون والدكتور سمير جعجع ومطالبتهما بأن يكون قانون الانتخاب في طليعة جدول أعمال الجلسات. لكنّ النموذج الذي تمّ اعتماده في كانون الأول 2015 قضى بإرضاء المسيحيين معنوياً ببعض التشريعات، مقابل مشاركتهم في الجلسات. فهل ستتكرّر التجربة؟ المتابعون للملف الرئاسي يعتقدون أنّ الجدل الذي دار حول «السلّة» أخيراً لم يكن في محلّه لأنّ الجميع يتعاطى مع ملف الرئاسة أساساً بمنطق المقايضات. كما أنّ بعض القوى المسيحية، ولا سيما عون، عمَّقَ ارتهان الموقع الرئاسي بدل أن يبعده عن المتاجرة والتجاذبات، كما يفعل الشيعة والسنّة والدروز عندما يتعلق الأمر بالمواقع التي يشغلونها. إنّ مأزق المسيحيين الحقيقي لا يكمن تحديداً في طرح ملف الرئاسة ضمن سلّة متكاملة، لأنّ السلّة تأخذ وتعطي من الجميع وللجميع. وكما يأخذ الشيعة والسنّة والدروز من رئاسة الجمهورية، كذلك يمكن للمسيحيين أن يأخذوا من رئاستي المجلس والحكومة وسواهما. لو كان المسيحيون أقوياء لربما كان ممكناً أن يمارسوا ترف الانقسام والتصارع في الملف الرئاسي. لكنّ مأزقهم الحقيقي يكمن في انقسامهم داخل وضعيتهم الضعيفة، وبعد فقدانهم الكثير من الأوراق، فيما يتماسك الأقوياء حول مواقعهم. وفي الأشهر المقبلة، سترتفع أسهم «السلّة» إذا استمر الفراغ، لأنّ قانون الانتخاب واستحقاق الانتخابات النيابية سيدخلان أيضاً في المساومة… والآتي على الطريق.