الياس حرفوش: التضحية بأكراد سورية//خالد الدخيل: زمن الوهن السني… زمن الفتنة

209

التضحية بأكراد سورية
الياس حرفوش/الحياة/04 أيلول/16

هل كانت معركة تحرير منبج من تنظيم “داعش” هي الفخ الذي وقعت فيه التنظيمات الكردية المقاتلة في سورية، والذي دفع القوى التي كان صعباً أن تأتلف على شيء في مواقفها من الأزمة السورية، الى الائتلاف ضد الأكراد؟ منبج فتحت الطريق الى معركة جرابلس. ومثلما كانت معركة منبج كردية بامتياز، بغطاء أميركي، وبقوات كردية في معظمها، من “سورية الديموقراطية”، كانت معركة جرابلس معركة عربية بامتياز، وبغطاء أميركي أيضاً، وبقوات من المعارضة السورية، في مقدمها “الجيش السوري الحر”، الذي حظي علناً هذه المرة بدعم تركي، وعلى لسان رجب طيب أردوغان نفسه. حصل هذا كله بعدما رفعت الولايات المتحدة الغطاء عن حزب “الاتحاد الديموقراطي” و”وحدات حماية الشعب”، ودفعتهما الى الانسحاب الى ما وراء شرق نهر الفرات، في تجاوب كامل مع الرغبات والمخاوف التركية من الكيان الكردي على حدودها الجنوبية، الذي تخشى أنقرة أن يكون صالحاً لنقل العدوى الى ما وراء الحدود.
ليست المرة الأولى التي يطلع فيها الأكراد “من المولد من دون حمّص”، كما يقول المثل العربي، الذي لا بد أن له ترجمة كردية. كانوا في طليعة من حارب “داعش”، بدءاً من كوباني، التي يفضل العرب أن يسمّوها “عين العرب”. كان ذلك في وقت كان “داعش” من فبركة النظام السوري وإنتاجه، ولم يكن كثر مهتمين باقتلاعه من المواقع التي كان يتحصّن فيها ولا يزال، وفي مقدمها بالطبع “العاصمتان”، الرقة والموصل. كانت إدارة أوباما تعتبر الأكراد الحصن المنيع في وجه هذا التنظيم، وكان يمكن أن يُسمح لهم بالاستمرار في القيام بهذه الوظيفة المفيدة للجميع، لولا شعور دول الإقليم ومعها كلّ من الولايات المتحدة وروسيا، بأن الزرع الكردي في الشمال السوري لا بد أن ينتهي الى موسم حصاد، على صورة حكم ذاتي في أبسط الأحوال، أو استقلال كامل، في أكثر الأحوال مبالغة. وهذا ما أيقظ أردوغان، الذي لم تقلقه من قبل معركة كوباني، ولا أقلقته مواجهات الحسكة بين الأكراد والجيش السوري والتقدم الكردي في تلك المنطقة، غير أنه بعد انتصار الأكراد على “داعش” في منبج وتقدّمهم في اتجاه جرابلس، وجد أردوغان نفسه مضطراً الى الدخول مباشرة في المعركة مع التنظيم الإرهابي، فقد اعتبر أن هذه المواجهة هي الثمن الذي لا بد من دفعه لتحجيم الأحلام الكردية داخل سورية، وبالتبعية داخل تركيا كذلك.
من كان يتوقع أنه في غفلة عن الأكراد، يمكن أن يأتلف كلّ من الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا ونظام الأسد، وسط صمت عربي، بحجة مواجهة “داعش”، كأن الأكراد هم الذين كانوا يعيقون هذه المعركة، مع أن الإشادات كانت تنهال عليهم في السابق لأنهم حرروا مدناً من التنظيم وعملوا على إعادة أهلها إليها، بل إنهم في معارك سنجار التي وقع فيها الإيزيديون، أطفالاً ونساء ورجالاً، ضحايا التنظيم الإرهابي، كانوا هم الذين فتحوا بيوتهم لمن تمكنوا من النجاة من تلك الجرائم والأهوال. فتح الأكراد طريق المصالحة بين أنقرة وموسكو، كما سهّلوا قبول رجب طيب أردوغان بإقامة لبشار الأسد، قد تطول أو تقصر، في قصر المهاجرين. وفتحوا طريق التفاهم الروسي – الأميركي على تسوية في سورية، ستكون على حساب أحلامهم، كيفما حصلت. وهذا كلّه لأن إعادة رسم الخرائط في المنطقة قد تشمل تفكيكاً لمكوناتها الداخلية، وكيانات ذاتية على قواعد طائفية أو مذهبية، لكن من المستبعد أن يتيح هذا التفكيك احتمال كيان كردي على أية صورة. فهذا البعبع ما زال يخيف دول الإقليم. وباستثناء الظروف الخاصة للتجربة الكردية في شمال العراق، يصعب تصوّر ما يماثلها في الظروف الحاضرة، في كل من سورية وإيران، ولا بالتأكيد في تركيا. على هذه النقطة يلتقي الجميع على التضحية بالأكراد، بل والتآمر عليهم إذا اقتضى الأمر.

زمن الوهن السني… زمن الفتنة
خالد الدخيل/الحياة/04 أيلول/16
هل هناك وهن سنّي؟ ولماذا سنّي تحديداً؟ وإذا سلمنا بذلك فما علاقته بالفتنة؟ علامات الوهن السنّي باتت واضحة، وتبدو مقلقة لمن ينظر هذه الأيام إلى الوضع العربي والإسلامي، سواء من زاوية دينية، أم زاوية سياسية علمانية. من هذه العلامات أن الدول العربية تتعرض لهجمات متتالية، من الداخل والخارج، ومع ذلك تبدو عاجزة ومرتبكة فكرياً وسياسياً. هذه الدول، التي تحكم غالبيتها مجتمعات غالب أهلها من السنّة، في حال انقسام سياسي صامت، لكنه عميق ومربك. ويأتي هذا الانقسام في أحرج لحظة يمر بها العرب في تاريخهم الحديث، فالمجتمعات العربية تواجه انفجارات آيديولوجية وسياسية وإرهابية من الداخل، وهجمات من الخارج، دول تنهار ومهددة بالتقسيم، وأخرى تقاوم حال خوف تزحف إليها! في مثل هذه الحال يصبح الانقسام أكثر إرباكاً ومدعاة إلى القلق، لأنه يفرض نفسه فرضاً في لحظة حرجة أول وأهم متطلباتها وضع الاختلافات ومسببات الانقسام جانباً إلى ما بعد تجاوز العاصفة. العلامة الأخرى، أن المؤسسات الرسمية للفكر السنّي تبدو في حال جمود وشلل واضحين. كأنها فقدت القدرة على المبادرة والتجديد. في مقابل ذلك، ونتيجة له جرى اختطاف هذا الفكر من تيارات وميليشيات متطرفة صارت لها أسماء وكيانات لا يمكن تجاهلها، لكنها كلها تقع بمسمى “الجهادية السلفية السنّية” مقابل الجهادية الشيعية. العلامة الثالثة أن هناك مواقف نقدية حادة أحياناً ضد السلفية، والجهادية السلفية، وضد “الإخوان” على نطاق واسع، بعضها رسمي، وبعضها الآخر ليس رسمياً، لكنها مواقف لم تتجاوز مستوى الهجاء، فشلت في أن تتمخض عن أطروحات متينة تقدم بديلاً عن هذا الفكر الذي أشبعته هجاء، أو مخرجاً للانسداد الفكري الذي انتهت إليه السلفية ومعها “الإخوان”. والأرجح أن السبب الرئيس وراء هذا العجز، أو التلكؤ في تقديم البديل هو سبب سياسي قبل أي شيء آخر. ولأن تبني بديل فكري بحجم ما هو مطلوب الآن يتطلب بالضرورة مراجعات واستدراكات وتنازلات سياسية من الجميع، وهذا المطلب متعذر الآن، يمكن القول إن هذا العجز يمثل بحد ذاته علامة رابعة على حال الوهن المشار إليها. العلامة الخامسة هي تعمق حال الارتباك بين العروبة والإسلام عما كانت عليه قبل المرحلة الحرجة، وبين الوطنية والعروبة، والإسلام والوطنية، وبالتالي بين الدولة والدين، وبين الطائفة بوصفها منتمى مذهبياً والدولة بوصفها منتمى مدنياً، وبين هذه الطائفة والإسلام باعتباره منتمى حضارياً يتسع للجميع. وأكثر المرتبكين هنا هي الدولة العربية بمؤسساتها السياسية والدينية والثقافية. وعندما ترتبك الدولة يرتبك الجميع. آخر مؤشرات الوهن ما صدر عن المؤتمر الذي عقد الأسبوع الماضي في غروزني الشيشانية، وتحديده أهل السنّة والجماعة عقدياً بالأشعرية والماتريدية، وفقهياً بالمذاهب السنية الأربعة، وإخراج المدرسة السلفية و”الإخوان” من هذا التحديد. وهذا في حقيقته موقف سياسي مشبوه، يعبر عن سذاجة باذخة من حيث أن من يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى أهل السنّة والجماعة يتبرعون بتذرير جماعتهم على أسس مذهبية بما يفاقم حال الانقسام ويغذي الفتن بين أهلهم أولاً، ومع الجماعات الأخرى ثانياً.
لعل أفضل من تناول هذا المشهد وأكثر من كتب ويكتب عنه باستمرار هو المفكر اللبناني العربي رضوان السيد. ففي ورقة طويلة له (أكثر من تسعين صفحة) لم تنشر بعد، يجمل صورة للمشهد استخرجها، إلى جانب ما تقوله الأحداث والتطورات، من أدبيات ستة مؤتمرات إسلامية، ما بين آذار (مارس) ونيسان (أبريل) 2014، على النحو الآتي:
1- أنّ الإسلام (السنّي) انفجر في أيدي السلطات والمؤسَّسات الدينية معاً.
2- أنّ هذا الانفجار مضى ويمضي في اتجاهين: التشدد والتطرف والعنف، بعنوان السلفية (الجهادية)، والإسلام السياسي.
3- أنّ ذلك تزامَنَ مع هجمة إيرانية على العرب والمسلمين الآخرين، استُخدمَ فيها التشيُّع (العربي)، الذي يقود جماعاته المسلَّحة “الحرس الثوري” الإيراني.
4- أنّ هذه الظواهر وضعت الإسلام والمسلمين في مواجهة مع العالم، فصار الإسلامُ مُرادفاً للإرهاب. وزاد الطين بِلَّةً تبرع إيران للمجتمع الدولي بمساعدته في مكافحة الإرهاب (السنّي التكفيري) الذي تقاتله الآن في العراق وسورية واليمن ولبنان!
5- أنّ المطلوب أن تتدخل الدول، بالتعاون مع القيادات الدينية، لحماية المجتمعات وصَون الاستقرار، وإعادة العلاقات بالعالم إلى سويتها، والتصدّي لإيران التي تتغوَّل في المجتمعات العربية، مستهدفة وحدتها واستقرارها من طريق تلك المجموعات المسلَّحة باسم المذهب.
يقترح الدكتور رضوان مخارج عدة من هذه الحال، أحدها إعادة بناء المؤسسات الدينية، التي كما يقول: “ضعُفت كثيراً في المرحلة الماضية، لوقوعها بين الأنظمة العسكرية والأمنية من جهة، والأصوليات من جهة ثانية”. لذلك ظهرت هذه المؤسسات بعد ثورات الربيع “في إحدى ثلاث حالات: حال الضعف الشديد إلى حدود الاختفاء، مثل سورية والعراق وليبيا والجزائر والسودان والصومال. وحال القوة المتوسطة والقليلة الفعالية، مثل تونس ولبنان والأردن وموريتانيا وجيبوتي. وحال سلامة البنية، مع وجود عوائق كثيرة، وافتقاد روح المبادرة والرسالة، وهذه الحال تنطبق على الأزهر والمؤسسة الدينية السعودية والمؤسسة الدينية المغربية. لقد أظهرت مؤسسة الأزهر قدرات معينة على الفعالية والفعل عبر بياناتها ومبادراتها. وتنشط المؤسسة الدينية المغربية في شتّى الاتجاهات، وهي تهدف إلى التسكين المجتمعي، والتحديات، التي واجهتها لهذه الناحية، أقلّ من تلك التي واجهها الأزهر. أما المؤسسة الدينية السعودية – على رغم ضخامتها وإمكاناتها – فإنها تبدو مقسَّمة الروح، ولا تسعى الى أهدافٍ واضحة، في هذه الفترة على الأقلّ. إنّ المؤسسة الدينية السعودية ضد التطرف على وجه القطع. لكنها لا تتحرك من أجل الإنقاذ والتغيير”.
ما يقوله السيد عن حال الضعف التي باتت تعاني منها المؤسسات الدينية الرسمية لأكبر الدول العربية، علامة أخرى، لافتة، على حال الوهن السنّي في هذه المرحلة. كانت هذه المؤسسات في الماضي هي الأكثر نشاطاً وفعالية. وكانت تمثل مرجعيات يصعب جداً تجاوزها أو الاصطدام بها. والسؤال: ما الذي حصل لهذه المؤسسات؟ وهل لتراجعها الآن علاقة بالحال السياسية التي تمر بها الدول العربية؟
أعود إلى السؤال الثاني الذي طرحته في مستهل هذه المقالة: لماذا السنّي تحديداً؟ ألا ينطوي هذا على منحى طائفي؟ هذا يعتمد على زاوية الرؤية. فمن ناحية بات الصراع الطائفي جزءاً من واقع الحال الإسلامية. ولتغيير حال هذا الواقع المزري لا بد من مواجهته كما هو، ومن السذاجة تفادي ذلك. كل محاولات تفادي مواجهة هذا الواقع شكلت غطاء ساعد في تفاقمه. صحيح أن إيران نجحت في الدفع بالأمور في هذا الاتجاه. لكن الطرف العربي ساهم أيضاً سياسياً بوهنه وانقساماته، الأمر الذي فتح الباب أمام تفشي الأصوليات التي تعمل على مواجهة الطائفية الإيرانية بطائفية مقابلة. وهذا طبيعي، فتراجع دور الدولة وترددها يشجع الانقسام والأطروحات الطائفية. إذا كانت المساهمة العربية جاءت من خلال الانقسام وضعف الدولة، فالإسهامات الإيرانية جاءت من خلال وحدة الدولة والمذهب، وليس بالضرورة قوة الدولة. هل يقتضي هذا التوحد العربي مذهبياً؟ طبعاً لا. التعددية مزية. أهل السنّة ليسوا طائفة، وحجمهم الديموغرافي والتاريخي الكبير يؤهلهم للخروج من حال الجمود والشلل الفكري والسياسي، وسحب الورقة الطائفية من يد إيران بمشروع وطني لدولة مدنية جامعة تفعّل مزية التعددية، وتعطل قدرة هذه التعددية على الانقسام والارتباك. غياب هذا المشروع تسبب في الشلل الذي ساهم في ظهور الفتنة وتماديها.