الـيـاس الزغـبـي: توطين

177

توطين
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/21 أيار/16

70 سنة، ولم يتمّ توطين الفلسطينيّين في لبنان. فهل يتمّ توطين السوريّين في 5 سنوات؟
السؤال ليس من باب إنكار وجود فكرة التوطين، في عقلٍ ما أو تخطيطٍ ما. بل من باب مدى واقعيّة هذا الخطر، ومدى استخدامه في الكسب السياسي والشعبي، وتوظيفه الظرفي في الاستحقاقات لا أكثر.
فالتهويل بالتوطين الفلسطيني، وبعده السوري، يعلو ويهبط على وقع البورصة السياسيّة، وسرعان ما يطويه أصحابه مع انطواء مناسبة أو استحقاق أو امتحان شعبي ما، ليعودوا بعد حين إلى نغمته، بدون أن يبذلوا أيّ جهد في دفعه أو التخفيف من خطره.
وكأنّهم يريدون بقاءه عقوداً كسلعة تجاريّة في السياسة يتمّ تسويقها عند الطلب، وإخفاؤها لرفع سعرها في عرض لاحق.
هذا ما يجري بالفعل في لبنان منذ أشهر، وما جرى في الأيّام القليلة الأخيرة، من خلال التركيز على تقرير الأمين العام للأُمم المتّحدة بان كي مون، والمتضمّن إشارات لتجنيس نازحي الحروب في العالم، وعددهم يناهز ربع مليار، في الدول المضيفة.
بغضّ النظر عن نصّ التقرير وكم مرّة وردت فيه عبارة “تجنيس”، كما طاب لبعضهم الإحصاء، فإنّه لم يذكر دولة بالاسم، ولم يُشر إلى لبنان تحديداً، لكنّ اللبناني يجنح دائماً إلى اعتبار نفسه الحلقة الأضعف، وتستفيق فيه هواجسه ومخاوفه. وهو على حقّ في ذلك.
لكنّ المشكلة تكمن في البناء على كلمة هنا وتعبير هناك، ولو كان عامّاً، والغرق في التأويل والتفسير والاستنتاج، تماماً كما حصل منذ عشرات السنين في مسألة توطين الفلسطينيّين. ولا يخفى أنّ الارادة الدوليّة أقرب إلى توطين الفلسطينيّين من السوريّين، خدمةً لإسرائيل.
والقضيّة تبقى في حدود الرصد والانتباه والمعالجة، لولا تحويلها عمداً إلى نوع من الاستغلال السياسي والظهور بمظهر صاحب الدور الأوّل والأحقيّة في “اكتشاف المؤامرة”، وكأنّها أمر واقع لا رادّ له، فتبدأ الولولة ودبّ الصوت فوق رأس ميت لم يمت.
وسرعان ما سرت عدوى النحيب والندب، على آخرين، وصولاً إلى الحكومة التي شغلها الموضوع وقرّرت أن تتحرّك لتستطلع حقيقة الأمر.
ولم يكد الصراخ يعلو ويتمدّد، وقبل أن يقوم أحد بأيّ خطوة، صدر بيان رسمي هادئ ورصين من الأُمم المتّحدة في نيويورك يؤكّد أنّ “لا تجنيس للنازحين في لبنان”، وصدرت توضيحات كافية من ممثّلة بان في لبنان تضع حدّاً للغط السياسي المفتعل.
بيان سريع واضح وحاسم، قطع الطريق على الندّابين، وأعاد وضع القضيّة في نصابها الصحيح، وكشف فضيحة الاستغلال الرخيص في مسألة وجوديّة للبنان. فكانت خسارة معنويّة وسياسيّة فادحة للمستغلّين.
وهذه التجربة تُبيّن كم أنّ لبنان في حاجة إلى دبلوماسيّة رصينة عالية الصدقيّة، تذهب إلى الأساس ولا تتلهّى بالقشور في مقاربة القضايا المصيريّة. وكم أنّه يحتاج إلى سياسيّين من قماشة القادة وأهل البصيرة والحكمة وبُعد النظر، وليس لمحترفيّ الكيد السياسي والمصابين بضيق الصدر والأفق.
توطين السوريّين، بعد الفلسطينيّين، مسألة لا تُواجه بهذه الخفّة، وليست قدراً عالميّاً لا يمكن ردّه، في حال صحّته. وقد قُيّض للبنان رجالات عرفوا كيف يواجهون أيّ توجّه من هذا النوع ونجحوا. فعلى الخلف أن يقتدي بنهج السلف الصالح، لا أن يواجه الخطر بهدر السيادة وتشتيت الإرادة.
بعض الإتزان في العمل السياسي والدبلوماسي أمر مطلوب وملحّ. والأولويّة هي للكف عن ادّعاء البطولات، خصوصاً أنّها في معظم الأحيان تكون بطولات وهميّة هدفها الكسب السياسي والشعبي السريع.
توطين؟ بالتأكيد لا. هي ال”لا” التي يُجمع عليها اللبنانيّون، خلافاً لكلّ ترويج وتزوير. وقد دوّنتها مقدّمة دستورهم التي ترقى إلى النصّ التأسيسي الميثاقي الثابت ما فوق الدستوري والقانوني.
وأيّ خطر حقيقي، من مستوى توطين أو تجنيس أو غيرهما، سواء ورد في تقرير عام، أو في خطط خفيّة، لا يمكن احتكار التصدّي له مع التشكيك بإرادة الآخرين من الشركاء في الوطن والدولة والهويّة والسيادة.
ولا تجوز المزايدة، في مسألة بهذه الخطورة، تجاه من بذلوا عشرات آلاف الشهداء في درء الأخطار الخارجيّة، وكانت مثلّثة الأضلاع: فلسطينيّة وسوريّة وإسرائيليّة. ويعاني لبنان الآن ضلعها الرابع الإيراني.
فمن يريد مكافحة الخطر على الوجود، لا يفاضل بين الأخطار، أو يواجه واحداً ويبايع آخر.
والحرب على التوطين لا تكون بالنظّارات والكيديّات.