الكولونيل شربل بركات: طريق الملوك

395

طريق الملوك
الكولونيل شربل بركات
06 آذار/16

تكلمنا في حلقة سابقة عن صور عاصمة التجارة العالمية وقد كانت نقطة الانطلاق لسفن عبرت البحار فملأت المتوسط مدنا وحضارات ووصلت إلى انكلترا اليوم “جزيرة القصدير” وإلى بحر الشمال ودار احفادها ابناء ترشيش وقرطاجة حول افريقيا ووصلوا إلى البحار البعيدة والجزر الخضراء. ولكنها كانت في نفس الوقت مركز جذب لكل المفتشين عن المغامرة المربحة والثروة الممكنة من خلال التجارة بما هو مطلوب أو فتح أسواق لبضائع متوافرة وهكذا تعلّم الكثيرون على أيدي أبنائها تطويع المستحيل بالارادة والاصرار وبروح المبادرة الفردية في ظل غياب المنافسة ووسع الآفاق. وكانت التجارة البرية مهمة بقدر ما كانت عليه التجارة البحرية ولذا فقد كان هناك وسائل ساعدت على بنائها واستمرارها من بينها شبكة الطرق ومراكز الاستراحة التي تتيح لقوافل التجار الانتقال من المصادر إلى المدينة الأم وأسواقها المفتوحة على كل أنواع البضائع.

 فمن صور لم يكن بامكان قوافل الجمال أو البغال المحملة أن تعبر جنوبا إلى فلسطين على الخط الساحلي وذلك بسبب رأسي البياضة والناقورة (وما بينهما من الرؤوس التي تصل كلها إلى البحر). ويقول “فولني” الرحالة الفرنسي الذي زار المنطقة في 1783 بأن ممر البياضة الذي شقه الأسكندر المقدوني كان لا يزال بعرض لا يتجاوز الأربعة أذرع يوم مر عليه وهو مخيف جدا للعبور وقد سقط أحد البغال التي كانت برفقتهم إلى البحر بما عليه. فإذا كان هذا الممر الذي حفره الاسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد بقي مدة الفي سنة على حاله فذلك لأن طرقا أخرى أسهل كانت تتبعها قوافل التجار الكثيرة في ذهابها وايابها من وإلى صور. والطريق الذي كان يسلكه أجدادنا زمن العثمانيين أي في بداية القرن الماضي كان على ما يبدو طريقا أسهل وهو يعبر من جنوب صور إلى منطقة عين بعال ومن ثم إلى قانا ويصعد في وادي الدب إلى ياطر (ياه-عثر) حيث ينزل إلى وادي العيون ومنه إلى حزور وعين حانين وعين طربنين ومن ثم ما نسميه درب كفر برعم إلى يارون وعلى هذا الطريق يوجد الكثير من عيون الماء التي تستريح بقربها القوافل قبل أن تكمل سيرها. ويارون هذه تبعد مسيرة يوم واحد، على سرعة القوافل، عن صور وتلتقي فيها الطريق القادمة من دمشق إلى مرجعيون أي الطريق الشمالي والطريق الجنوبي الذي يدخل فلسطين إلى مصر أو الصحراء العربية.

 والطريق الذي يسير شمالا من يارون باتجاه عيترون (عثر- أون) شرق مارون الرأس لا يزال يسمى حتى اليوم “درب السلطانة” أي طريق السلطان او ما كان يطلق عليه تسمية “طريق الملوك” وهي التي سلكها المصريون شمالا وشعوب ما بين النهرين جنوبا وهذه الطريق التي تسير بعد عيترون شمالا في وادي السلوقي هي نفسها التي سلكها “ابن جبير” في رحلته في الألف الأول للميلاد بعد عودته من الحج إلى مكة المكرمة. فهو كان قدم من الاندلس حيث يقيم إلى مصر ومن ثم، وبعد اتمامه فريضة الحج، سافر مع الحجيج الشامي الذي انتقل إلى البصرة وبغداد فالجزيرة ومنها إلى حلب وحماه وحمص وبعلبك حتى دمشق. وهو يصف جبل قاسيون حيث لا يزال دم “هابيل” الصدّيق الذي قتله شقيقه “قابيل” على صخرة في هذا الجبل، بحسب سكان المدينة. ومنها سافر على طريق القوافل قاصدا عكا التي سيأخذ منها سفينة متوجهة إلى الاندلس، وهو يصف لنا الطريق الذي يمر في ما يسمى الجولان السوري اليوم وينزل إلى بانياس فمرجعيون ومن ثم إلى وادي السلوقي حيث يقف بالقرب من حولا ليدفع ضريبة المكوس لصاحب تبنين وتقطن حامية المكوس قلعة “دوبيه” “De paie” التي لا تزال تحمل الاسم الفرنسي والذي يعني “الدفع”. ومن مرجعيون إلى يارون مسيرة يوم على سرعة القوافل ومنها إلى دمشق أيضا مسيرة يوم وفيها اي مرجعيون يلتقي الطريق الصاعد من صيدون العظيمة عبر هضبة النبطية حيث بقيت قلعة “بوفور” (الحصن الجميل)، والتي تركب “الشقيف” وتشرف على وادي الليطاني، تربض منذ الف سنة وحتى اليوم.

ومن يارون جنوبا يدخل الطريق باتجاه الناصرة وهي على مسافة يوم سفر أيضا قبل أن ينزل إلى السهل الذي يسمى مرج ابن عامر حيث تدور خلف جبل الطابور باتجاه البحر متجنبة جبل الكرمل ومن هناك تنزل إلى الساحل وتمر في يافا فغزة والعريش إلى مصر. أما نحو بلاد العرب فهي تنزل من الناصرة شرقا إلى الأغوار حيث المدينة التي لا تزال بقايا آثارها الرومانية في “بيت شآن” والتي كانت مركز استراحة القوافل القادمة من الصحراء وهي على مسيرة يوم من “بترا” في الأردن اليوم.

 وقد سلك السيد المسيح ورسله هذا الطريق من الناصرة إلى بلاد كنعان أي إلى قانا وصور وقد حضر، كما يقول “لاغرانج” احتفال “تموز” الذي يقام في أول الصيف ونحن نعرف أن هيكل دامو (دموزي أو تموز) يقع بقرب “عين داما” في خراج يارون ويسير موكب الاحتفال بالعادة من هيكل دامو إلى هيكل اشيرتا القريب منه على تلة شرتا في عين إبل. ولا بد أن تكون عين طربنين التي تعني الارض المقدسة قد ساهمت في ارواء عطشه في ذلك اليوم من أول تموز أو في غيره من الرحلات إلى بلاد كنعان بحسب التقليد العينبلي.