عضو المجلس الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة لـ «المستقبل»: الحروب الأهلية تبدأ بانهيار المؤسسات والسلطة الإجرائية تعني جعل الأمور تجري

316

عضو المجلس الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة لـ «المستقبل»: الحروب الأهلية تبدأ بانهيار المؤسسات و«السلطة الإجرائية تعني جعل الأمور تجري»

حاوره: جورج بكاسيني/المستقبل/17 كانون الثاني/16

الحوار مع عضو المجلس الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة شيّق ومفيد وغنيّ في كل الأوقات، فكم بالحري في عزّ الأزمات الدستورية والديموقراطية في لبنان «وفي كل العالم»، وهو الخبير في النظام اللبناني والدستور والمتابع لأزماتهما منذ عقود من الزمن، والباحث الدائم عن حلول انطلاقاً من النصّ والتجربة.

بموضوعيته المعهودة قارب مسرّة مجموعة من العناوين الساخنة بهدوء ودقّة، بدءاً من أزمة الديموقراطية في لبنان والعالم وصولاً الى يومياتنا المثقلة بالفراغ والتعطيل، ليذكّر بأن «كل الحروب الأهلية تبدأ بانهيار المؤسسات»، وبأن الحقّ الوظيفي «يُلزم المسؤولين بممارسة واجباتهم«.. وبأن السلطة الإجرائية تعني «جعل الأمور تجري».

الدكتور مسرّة الذي تحدّث مطوّلاً عن الإرهاب ومخاطره أعاد تسليط الضوء على أن عملياته الأولى «بدأت في لبنان وأن العالم يريد دعم لبنان لكنه يحاذر ذلك لتجنّب المخاطرة»، وتناول عناوين داخلية كثيرة، فكان هذا الحوار:

[هل تنتمي أزمة الدولة والديموقراطية في لبنان الى سياق إقليمي أو عالمي أم أنها حالة معزولة؟

– العالم اليوم في حالة انفصام، لسنا أمام مجرد تحوّل بل انفصام عن فترة ماضية. نشاهد ذلك في الأمم المتحدة التي كانت فعاليتها محدودة بشكل دائم لكنها لم تكن عديمة الفائدة لهذه الدرجة تجاه عالم منفلت من أي ضوابط وتجاه طغاة يدمّرون شعوبهم. لا يعني ذلك أن الأمم المتحدة غير مفيدة، والحمد لله أنها لا تزال موجودة، لكننا في مرحلة صياغة أخرى للأمم المتحدة يكون لها حد مقبول من الفعالية في العالم. ونلاحظ تحوّلاً آخر على مستوى الدول، فسلطة الدولة في تراجع حتى في الدول العريقة في الديموقراطية بسبب تنامي الفردانية وحقوق الفرد، وهذا شيء إيجابي، لكن تنامي الفردانية على حساب مفهوم السلطة والصلة الاجتماعية وسلطة الدولة ومفهوم السياسة كما رآها أرسطو، أي إدارة الشأن العام لأن السياسة هي في الوقت ذاته صراع على النفوذ وعلى الموارد وتنافس على السلطة وتعبئة نزاعية وهي في الوقت ذاته إدارة الشأن العام والمصلحة العامة. هذا المفهوم السياسي في إدارة الشأن العام في تراجع عالمياً وأكثرية الدول العريقة في الديموقراطية تعاني من عجز في تطبيق سياسات عامة لأن المواطنين متذمّرون يشتكون ولا يدعمون وتعدّدت الجهات بين المواطنين على حساب مفهوم السلطة. كلمة السلطة بالمعنى الأجنبي authoriteكلمة راقية جداً غير السلطة بمعنى القوة. اللغة العربية تخلط بين pouvoirوauthoriteالتي هي خاضعة لقواعد ناظمة في الحياة العامة ونشاهد كيف أن مفهوم السلطة يتراجع في المدارس، في العائلة، في تنامي عدم الاحترام للمسؤولين والأساتذة والأب والأم. إذاً، الديموقراطيات في حالة عجز.

ظاهرة الإرهاب دُشّنت في لبنان

[ما هو سبب ذلك؟

– تنامي الفردانية على حساب الصلة الاجتماعية ووسائل التواصل الحديثة التي هي من جهة تنشر معلومات لكن ليس بالضرورة تؤسس لمواطن واعٍ. كل الأفكار الديموقراطية في العالم منذ عهد التنوير ومونتسكيو نشأت على أساس أن الديموقراطية تقوم على مواطنين واعين. أين المواطن الواعي في العالم الذي يعرف فعلاً ماذا يجري. الحمد لله أنه لا تزال هناك بعض الصحف المكتوبة وبعض البرامج المتلفزة التي تنمّي المعرفة لدى الناس، واليوم السبق الصحفي ليس أن تنشر الخبر أولاً لكن السبق هو أن تتحقق من الخبر أولاً، من الذي يفعل ذلك للتحقق من أي خبر؟ والآليات الديموقراطية أصبحت مستغلّة. كانت قضية الانتخابات تخضع في العالم لسلطة المال ووسائل البروباغندا وخاضعة لتراجع الالتزام لدى المواطنين، كل ذلك يعود أيضاً لهذه السلطات الأربعة: المال والأنتلجنسيا والسياسة والإعلام، أصبحوا اليوم مجتمعين في كتلة واحدة، واليوم هناك بحث عن سلطة خامسة هي سلطة المواطن التي هي مفقودة وضائعة. هل يوجد اليوم رأي عام؟ هناك آراء عامة مبعثرة بينما منذ ما يقارب 30 أو 40 عاماً كان هناك رأي عام. هذه الظواهر بدأت سيئاتها في لبنان مع نشوب الحروب 75 90 لم اسمّها لا الحرب اللبنانية ولا الحرب الأهلية. بدأت هذه السيئات تظهر في لبنان من خلال قوى عابرة للدول بين 1975 و1990 كان هناك استخفاف بهذا الوضع في لبنان حيث اعتبروا أن لبنان ظاهرة خاصة ولزّموا الأمن فيه الى دول مجاورة، وبالفعل العمليات الإرهابية التي يشكو منها العالم اليوم دُشّنت في لبنان، وكانت تُطلق اتهامات عشوائية في أغلب الأحيان ضد إسرائيل التي هي ليست بريئة في هذه الأمور، لكن الأحكام كانت عشوائية حول هذا العمل الإرهابي وتعرضت له قوات أميركية وقوات متعددة الجنسيات وتعرض له أخيراً الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكل أفواج الاغتيالات التي حصلت. هذه الظواهر بدأت عندنا والعالم لم يأخذها بكثير من الجدية. ميترنيخ قال في العام 1830 إن «هذا البلد الصغيرة البالغ الأهمية اتخذ ساحة للصراعات الإقليمية والدولية» ولا يزال يُستعمل لغاية اليوم ساحةً» لكن مع نتائج محدودة نسبياً كالحامضة التي تعصرها حتى آخرها تقريباً. لكن لبنان الساحة مثل الفخ. كان الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر يقول إن لبنان مثل القنفذ أينما تلمسه يشكك. لهذا السبب نرى اليوم في قضية لبنان أن هناك دعماً دولياً للبنان ولعل أكثر القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة كانت دعماً للبنان لكن الدول بعد تجربتها في دعم لبنان تريد أن تدعمه من دون مخاطرة لأن العمليات الإرهابية لا تزال في ذاكرتها واللبنانيون لم يستوعبوا بعد بشكل كافٍ هذا الموضوع أي الاعتماد على أنفسهم. أي أن عهد الحمايات والدعم المباشر انتهى، اعتمدوا على أنفسكم. يمكن تفهّم ذلك، لأن لبنان في جوار إما عدائي أو في جوار في طور التحول الديموقراطي أو في جوار كان في طغيان في الماضي كيف يستطيع أن يكون بمعزل عن هذه التغيرات. يجب الإشادة بالقيادات اللبنانية التي خاطرت بحياتها في اتخاذ مواقف لحماية لبنان وعندما قال بعض القيادات «لا» كان مصيرها الاغتيال مثل الرئيس رينيه معوض والرئيس بشير الجميل والرئيس رفيق الحريري. نحن في طور الاعتماد على النفس في جوار مضطرب لكن لا أحد يمنعنا مباشرة من اتخاذ القرار.

للوصاية وجهان خارجي وداخلي

[كيف يمكن للبنان اتخاذ قرار وهناك تعطيل لآليات اتخاذ القرار؟

– النظام الدستوري اللبناني هو أساساً نظام صعب ودقيق. يقول الرئيس حسين الحسيني إن لبنان كميزان الجوهرجي قائم على توازنات ويتطلب درجة عالية من الحكمة. فترة الاحتلالات التي حصلت في لبنان استغلت الديموقراطية لضربها واستغلت التعددية لضربها. واليوم هناك خبراء لضرب الديموقراطية بالوسائل التي هي ظاهراً ديموقراطية، على أساس التوافق وعلى أساس حرية الرأي وعلى اعتبارات عديدة، اعتمدت أساليب عدة لجعل النظام اللبناني غير قابل للحكم إما بالتعطيل أو من خلال حكومات تضم الجميع بشكل لا يتخذ أي قرار مهم إلا بعد موافقة الباب العالي. مقاربة كثير من علماء الدستور تكون في بعض الأحيان منقوصة. في النظام الدستوري اللبناني يجب تجنب منحيين: الأول ربط ما حصل في لبنان من حروب بطبيعة النظام، لأن ما حصل في لبنان أكبر بكثير من النظام وأكبر من أي نظام في العالم، وحمّلونا في لبنان قضية الشرق الأوسط التي هي أكبر أساساً من كل الدول العربية مجتمعة وربما أكبر من قدرة العالم على معالجتها. والمنحى الثاني هو اختزال موضوع الاحتلالات التي حصلت في لبنان. كل نظام دستوري تحت الاحتلال لا ينتظم. يجب أخذ هذين العاملين في الاعتبار. لدينا إرث ثقيل جداً ولدينا رجالات وبحاجة لرجالات لتقوم بهذا العمل، ولدينا وسائل تربوية وثقافية للعودة الى قيم الجمهورية.

[انتهت الاحتلالات والوصايات ولا يوجد منذ العام 2005 جيش غريب على أرض لبنان. لماذا لا يزال النظام معطلاً؟

– لا أعلم إذا كانت الوصاية قد انتهت. للوصاية وجهان خارجي وداخلي لأن لها أعوان ولديها بنيات ذهنية في النفسية اللبنانية. اللبناني لديه عقدة الباب العالي. علينا الشفاء من هذه العقدة. اليوم لبنان في وضع هل أنت راشد أم لا. النظام العالمي والنظام الإقليمي فجأة رمى بنا للانتقال من سن المراهقة الى سن الرشد أما أهم مظاهر هذا الانتقال فكانت «انتفاضة الأرز«، «ربيع بيروت«، «ثورة الاستقلال«. كان انتقالاً بالفعل من المراهقة الى سن الرشد حيث اللبنانيون من كل المناطق والطوائف والأعمار والفئات شعروا أننا كلنا صغار في لعبة الكبار. لكن ثورة الأرز وربيع بيروت تعرّضتا للاستغلال من خلال وسائل التواصل الحديثة ومن خلال تظاهرات مضادة ومن خلال تسخيف الظاهرة ومن خلال إعطائها معنى سياسياً مبتذلاً وتصويرها أنها صراع حزبي رغم أنها تتخطى أي معنى حزبي وتعرضت للابتزاز والتسخيف. لقد كان المجتمع قائد الثورة لكن الوضع كان غير ملائم. ماذا نفعل في هذا الوقت الذي يسميه البعض الوقت الضائع أو اليأس أو الانحطاط.

[ماالحلّ؟

– هناك مثل يقول عندما يعم اليأس تزداد الحاجة الى الذين لا ييأسون. نحن اليوم أمام حالة فيها مظاهر ايجابية جداً مثل «إعلان بعبدا« الذي أقرّ بالإجماع وهو تلخيص لسنّ الرشد اللبناني الميثاقي. هناك إيجابيات أنه نتيجة التجربة والمعاناة يتجنب كل الفرقاء الفتنة لأنهم سيكونون ضحيتها. هناك بعض الفئات التي تسعى الى الفتنة لكن القيادات الرئيسية تسعى الى تجنب الفتنة وهذا من الإيجابيات. لكن لا يوجد شيء مساعد أي أن الأنتلجنسيا والجامعات والإعلام وخصوصاً المتلفز بغالبيته ليس مساعداً في هذا العامل النهضوي، مع أن الفترة مناسبة جدياً بالرغم من قضية النفايات وما الى ذلك لاستنهاض المجتمع.

الحكومات الائتلافية تلغي المحاسبة

[إذاً، نحن أمام معضلة ليست في النظام بل في كيفية التعامل مع هذا النظام. التعطيل هو أبرز تجليات هذه المعضلة؟

– لأن أفضل الدساتير هي مجرد وصفة طبية وليست العلاج. نحن لم نطبق الوصفة وفي بعض الأحيان لم نستطع تطبيقها. نحن الآن في مرحلة لتطبيق الوصفة وإذا طبّقناها ولم نشفَ عندئذٍ نعدّل الدستور. لبنان ليس لديه معضلة أساسية في النصوص الدستورية. انتهينا من المرحلة التأسيسية. تذكّرت كاريكاتوراً للرسام الراحل بيار صادق يقول فيه: «شو هالبلد العمرو آلاف السنين وبيضل بمرحلة تأسيسية». لقد اجتزنا مرحلتنا التأسيسية واختبرناها وأتخمناها.

[ هل كانت هناك سابقة لظاهرة التعطيل في لبنان أو في دول أخرى؟ أي شغور رئاسي، مجلس نيابي معطل وحكومة معطلة؟

– كلمة التعطيل خارج كل منظومة حقوقية. هناك بطء في القرار أو تعجيز في القرار لكن التعطيل المتعمد هو خارج أي منظومة حقوقية. حصلت مرات عدة في بلجيكا حيث لم تشكّل حكومة خلال بضعة شهور (منذ سنوات)، لكن أمور المجتمع والبلد كانت «ماشية» أي لم يكن هناك تعطيل. كان هناك تأزيم لكن من دون تعطيل. التعطيل (sabotage) هو تراجع في المفهوم القانوني والحقوقي وتقاعس عن ممارسة المسؤولية.

[ ماذا عن السلطة الإجرائية؟

– ظهرت في الآونة الأخيرة شعارات كثيرة في الشارع عن المحاسبة لكن قاعدة المحاسبة في لبنان مفقودة في ذهنية الحكومات التي تضم الجميع (الائتلافية) لأنها تلغي المحاسبة من الجذور ولأنها أصبحت برلماناً مصغّراً يضم كل الفرقاء ولا يمكن للبرلمان أن يحاسب نفسه. بوجود الوزراء الذين يمثلون كل الكتل أصبحت اجتماعات مجلس الوزراء تقاسم نفوذ ومنافع ولم يعد كتلة متضامنة معرّضة للمحاسبة إما من قبل المجلس أو من قبل الناس.

[ يعني نظام توافقي؟

– أرجوك لا تستخدم كلمة توافقي فهي كلمة راقية ولها معنى دستوري ولها قواعد حتى باللغة العربية. مفهوم الشورى في الإسلام راقٍ جداً، ومفهوم المواثيق والميثاق راقٍ جداً، لكن كل المفاهيم في لبنان تلوّثت، حتى «داعش» وإخوانه لوّثوا الله. كلمة توافق هي في بناء الأمم لكن سير الحكم يخضع لقواعد. هنا أساس المحاسبة مفقود. في بعض الظروف الاستثنائية قد تنشأ حكومات ائتلافية وهذه ظاهرة موجودة في كثير من البلدان في العالم، والدستور اللبناني في هذا المجال واضح جداً. إنه الدستور الوحيد في العالم العربي الذي استخدم كلمة «السلطة الإجرائية». السلطة الإجرائية هي السلطة التنفيذية، لكن عبارة إجرائية أكثر دقة، بمعنى أنها في معجم «لسان العرب» تعني جعل الأمور تجري. وعند كتابات الآباء المؤسسين للدستور اللبناني وأبرزهم ميشال شيحا، البرلمان هو مجال الحوار الدائم ويضم كل التيارات وكل الطوائف، وفي مجتمع مؤلف من 18 طائفة لا يمكنك تحويل الحكومة الى مجلس حوار، يتحاورون ويناقشون هذا صحيح لكنهم ينفَذون، أي أنهم يجعلون الأمور تجري.

[ بخلاف ما يجري اليوم؟

– كل الأنظمة في العالم خاضعة لمبادئ عامة. هناك مبادئ للديموقراطية وهناك أنظمة يجب تسميتها كما هي واردة في الدستور اللبناني. هو نظام برلماني يخضع لكل الأنظمة البرلمانية، لكنه بخلاف بعض الأنظمة البرلمانية مثل البرلمان البريطاني أو غيرها، يدخل أنماطاً تعاونية وتنافسية في آن، أي من خلال ما يسمّى التمييز الإيجابي، التمثيل الطائفي في الحكم والوزارات، ومن خلال حكومة فيها ممثلون عن كل الطوائف، هكذا تنص المادة 95 من الدستور التي لا تقول تمثيل كل القوى السياسية بل كل الطوائف بصورة عادلة، حكومة تكنوقراط نعم، لكن حكومة تحكم. في الذهنية اللبنانية نخلط بين الأنماط الفيديرالية الجغرافية والفيديرالية الشخصية، في النظام الفيديرالي الشخصي مثل سويسرا أو بلجيكا يمكن أن تكون الحكومة هيئة مشتركة تضم مختلف المناطق، لأن الأمور تتخذ فيها القرارات على مستوى المقاطعات. في سويسرا يفسّر ذلك على أنه في الكانتونات هناك استقلالية ذاتية، إدارة ذاتية واسعة حيث تتخذ القرارات، والمجلس الرئاسي أو الحكومة المركزية تنسّق أو تضع ضوابط بين القرارات المناطقية.

في نظامنا معارضة لكننا أدخلناها في الحكومة

[أما في لبنان؟

– نحن في نظام شخصي موحد. الحكومة ليست في نظام فيديرالي حيث تتخذ المناطق القرارات وتحكم نفسها في كل شؤونها الداخلية. الحكومة هنا مركزية.

[أي الجانب التمثيلي ليس ضرورة في الحكومات؟

– الجانب التمثيلي الشامل ليس ضرورة. لو حوّلت لبنان الى كانتونات ومقاطعات يصبح بالإمكان تأليف حكومة على طريقة الكانتونات في سويسرا. هذا غير واضح في الثقافة الدستورية اللبنانية. أنا بحاجة لمركز قادر أن يكون إجرائياً. تأليف الحكومات عالمياً خاضع لمبادئ عامة. إذا شكّلت حكومة تمثل كل الفئات فهي تلغي المعارضة. ولبنان من التجارب المهمة في العالم التي كان يوجد في نظامه الدستوري دوماً معارضة. مع العلم أنه كان هناك خطر بأن تضعف المعارضة. اليوم أدخلنا المعارضة في الحكومة، عملياً لم يعد لدينا معارضة ولم يعد لدينا محاسبة.

[أصبح لدينا معارضة داخل الحكم؟

– هناك معارضة في المجتمع لكن هذه المعارضة هي جزء من القوى السياسية الموجودة في السلطة، فعندما ينتقد المجتمع الطبقة السياسية الموضوع يحتاج الى توضيح لأن الذين ينتقدون الطبقة السياسية من المجتمع هم جزء من الطبقة السياسية ومستفيدين منها.

[ لننتقل من الجانب التمثيلي الى الجانب المسيحي. هناك دائماً معضلة مطروحة بعنوان أزمة تمثيل المسيحيين. كيف نفسّر ذلك. المسيحيون يعانون من أزمة تمثيل أم دور أم ماذا؟ مع كل استحقاق دستوري نعود لأزمة تمثيل المسيحيين، ما مدى واقعية هذا الشعار؟

– علينا التمييز بين واقع الأمور وبين الاستغلال السياسي والتعبئة النفسية لدى بعض الجهات المسيحية. هناك جانب واقعي بحاجة الى إحصاءات. مثلاً في الجيش والدرك هناك جهود كبيرة لإيجاد توازن ومناصفة لكن هناك تقاعس من المسيحيين في الانخراط في الجيش وقوى الأمن الداخلي. في أكثر الأحيان هناك مبالغة واستغلال لنفسية الضحية عند بعض المسيحيين.

[ هل صحيح أن هناك أزمة تمثيل عند المسيحيين؟

– هناك أزمة تمثيل لدى الجميع. ما يهمّني أكثر هو تمثيل القوى الحية في المجتمع، القوى الاقتصادية، النقابات، بالإضافة الى القوى المعروفة الحزبية والسياسية والقوى التي تحمل تراثاً لبنانياً، هناك أزمة تمثيل لهذه القوى. لذلك اليوم المجتمع في حالة ضعف لأن المجتمع المدني جزء منه والمؤسسات الدينية والنقابات والقوى الاقتصادية وهي غائبة، مستتبعة أو متقاعسة. فالمسيحيون لديهم موقع في الدستور اللبناني وليسوا كما الأقباط في مصر، وهذا المنحى عند بعض المسيحيين في لبنان في البحث عن تجمع للأقليات ونقل أنماط الدول العربية الأخرى يفقدهم دورهم الريادي. هناك تغيّر جذري في الذهنيات لدى القيادات الإسلامية، نتيجة «ثورة الأرز» و»ربيع بيروت» لأن المسيحيين عنصر توازن بين الطوائف الأخرى ودورهم مطلوب وملحّ، لكن هناك استغلال نفسي لبعض المسيحيين، وهذا بحاجة لمعالجة نفسية. رئاسة الجمهورية في لبنان رئاسة مهمة جداً بدورها، حاكم مصرف لبنان، قائد الجيش، رئيس مجلس القضاء الأعلى، رئيس المجلس الدستوري، هذه مؤسسات ناظمة في الحياة العامة، والحمد لله لأسباب تاريخية، ليس لأن المسيحيين أفضل من المسلمين، لكن لا ننسى أن المسيحي كان خاضعاً لثلاثة أجيال من القهر والاستعباد والتواطؤ، واليوم بعد الظواهر العربية الجديدة يحاول الخروج منها. أهم شيء بالفعل في المنطقة العربية أن لبنان دافع عن النسيج التعددي في المنطقة وهذا تراث نسميه عثمانياً لكنه تراث عربي. المنطقة خلال السلطنة العثمانية عاشت أجيالاً بل قروناً في إدارة التنوع انطلاقاً من فلسفة الحقوق في الإسلام. هذا دور لبنان الرسالة. لكن أين دور لبنان الرسالة اليوم؟ هل لا يزال هناك من يؤمن بهذا الدور؟

مخاطر الفراغ

[ ماذا يعكس الشغور الرئاسي في لبنان منذ سنة وثمانية أشهر برأيك؟

– ذكرت في كتابي الجديد «ثقافة المواطنية في مجتمع الطوائف» أن هذا يعني عدم تقيّد بالقواعد القانونية البديهية. من يحمل مسؤولية عامة يجب أن يمارس الحق الوظيفي. إذا اجتمع مجلس النواب ولم يتخذ قراراً أي لم يصوّت هو حر. لكن يجب أن يجتمع، يجب أن يؤمن النصاب.

[ ماذا يعني الشغور الطويل الأمد في الموقع الرئاسي الأول؟

– مع تفهم هذا الوضع دون تبريره. هناك رئيسان للجمهورية تعرّضا للاغتيال قبل وصولهما الى بعبدا. تفهم دون تبرير.

[ ألا تتأتّى مخاطر من الفراغ؟

– طبعاً، مخاطر المس بكل المؤسسات. كل الحروب الأهلية تبدأ بانهيار المؤسسات بالرغم من مناعة الشعوب ورفضهم للحرب الأهلية. كل مسّ بالمؤسسات واستمراريتها يحمل بذور حرب أهلية.

[ لذلك يجب أن يُنتخب رئيس وأن تعود الحياة الى مجلس النواب والحكومة؟

– لذلك عندما تم رفض الطعن بالتمديد لمجلس النواب كان مدروساً جداً. المجلس الدستوري لم يقبل بالتمديد وإنما اعتبره أمراً واقعاً تفادياً لاستمرار الفراغ في المؤسسات الدستورية.

[عودة الى الإرهاب كيف تفسّر تناميه في عالم اليوم؟

– امتد الإرهاب ونما بصمت عالمي من قبل دول تمارس ديبلوماسية الابتزاز بالأمن. الغرب أصبح خائفاً اليوم. محاضرة سولجنستين (المنشقّ السوفياتي) العام 1978 أمام الأمم المتحدة تحدّث فيها عن تراجع الشجاعة في الغرب. هذا التراجع يجعل منظمات عابرة للدول تمتد وتمارس الإرهاب الذي وصل الى فرنسا ومدريد وأميركا وغيرها. الغرب الذي نشر القيم الديموقراطية يجب أن يدافع عنها، فاليوم هي مهددة. هناك كتابات بدأت تتحدّث عن نهاية الغرب. نهاية حضارة الغرب. يدافعون عن هذه القيم. شهدنا في الماضي جون كينيدي وتشرشل وشارل ديغول ونيلسون مانديلا والأم تيريزا والأب بيار، أين هي هذه الشخصيات اليوم؟ أثناء النازية كان هناك دفاع عن هذه القيم كان بإمكانهم الاستسلام والخضوع للإرهاب النازي. الغرب مهدد بحروب عابرة للحدود، ومن دول مارقة تمارس ديبلوماسية الابتزاز.

[هل لديك شعور بوجود صحوة عربية؟

– كلا لا توجد صحوة عربية، وهذه أيضاً نتيجة تراجع المثقفين والنخب والجامعات. النخب والمثقفون أصبحوا أشخاصاً مثقفين (بين مزدوجين) يؤلفون كتباً فقط. شعرت بالحزن في مؤتمرات عربية عدة عن التحولات في العالم العربي. سمعت نقاشاً من دون مغزى، حديث سفسطائي، أساتذة جامعيون يتحدثون كما لو أن لا دور لهم. سألتهم أين دوركم أنتم في مساعدة هذا التحوّل العربي؟

[الربيع العربي لم يحدث تحوّلاً؟

– خلق ديناميكية جديدة. على كل حال كل هذه الثورات وربيع براغ تخلق ديناميكية جديدة لكن التغيير يتطلب عملاً ثقافياً وتربوياً. اليوم مع منجزات الحضارة والتقدم في المفاهيم الحقوقية، لو أخذت النخب دورها يمكن أن تحقق إنجازاً في أقل من خمس سنوات. ظاهرة تونس والمغرب مهمة جداً. أيام الثورة الفرنسية كان التحوّل بحاجة لسنوات. لم نكن نعرف ما هي الانتخابات وكيف تنظّمها وكيف تضع دساتير. اليوم أصبح كل ذلك معروفاً يمكن قراءته في الكتب وهناك تربية وثقافة. خلال خمس سنوات يمكن إحداث تغيير لكن على النخب أن تأخذ دورها.

[هناك إذن أمل في أن يعطي الربيع العربي ثماره؟

– حتماً سيعطي ثماراً. لكن المدة هي المشكلة لأن الجامعات والمثقفين يتصرفون كما لو أن لا دور لهم في هذا التحوّل.

[ يمكن أن تؤتي ثمارها إذا واجه العرب الإرهاب كما يجب؟

– والدين الإسلامي له دور ليس لأنه دين لكن لأسباب تاريخية. المسيحية مرت بهذه المرحلة التاريخية (صراع البروتستانت والكاثوليك). الدين الإسلامي بحاجة لاتخاذ مواقف. الأزهر بدأ بهذه الخطة. هناك مثل يقول «ليس أشد إيلاماً من ظلم الظالمين إلا صمت الطيّبين». أنا ما يزعجني هنا هو صمت الطيّبين.

[ الحضارة الغربية مهددة والحضارة العربية أيضاً إذا لم تراكم النخب…؟

– إذا لم تراكم ولم تلتزم. أسمع كتّاباً ومثقفين وأساتذة جامعات يتحدثون ويكتبون عن التحولات العربية كما لو أنهم متفرّجون ومحللون وباحثون. الحركة النضالية في تراجع في العالم. حتى فلسفة الإلحاد مع ألبير كامو وجان بول سارتر كانت مناضلة، والشيوعية كانت مناضلة لكن النضال انتهى. العالم اليوم بحاجة الى نضال للتمكين (empowerment) .