الكولونيل/شربل بركات: رجال رفعوا شأن بلدة عين إبل اللبنانية/الجزء الأول

773

رجال رفعوا شأن بلدة عين إبل اللبنانية
الكولونيل/شربل بركات
02 كانون الأول/15

لكي لا تضيع تضحيات الذين ساهموا فيما نحن عليه، ولكي يبقى الإرث الذي وصل الينا محترما فتستمر القرية الجنوبية البعيدة عن المدن ومشاكلها، وبنفس الوقت وسائل تسهيل البقاء والازدهار، سوف نقصّ عليكم بعضا مما وصل إلينا عن رجال سكنوا عين إبل ورفعوا شأنها لتبقى لنا محجا ومشعلا نفاخر به بين الناس.

لم يكن من السهل ابدا على ابناء هذه القرية الصغيرة القابعة في بلاد البشارة المنسية والتي سيجتها التلال الصخرية وأحراج السنديان والملول وأشواك القندول والبلان، أن يستمروا لولا وجود من آمن بأن العمل هو أساس النجاح وأن القلة ليست إلا حافزا على الاندفاع في تنظيم الانتاج وتطوير الوسائل ومن ثم اضافة الفرح إلى اليوميات والعنفوان إلى القدرة والاعتزاز إلى كل انجاز مهما صغر وهذه مجتمعة تحتاج إلى مجتمع منظم ومنضبط يعرف أن يقدّر القيم ويسهم في انتقال التقاليد إلى الأجيال القادمة.

في هذه التلال الصخرية راى العينبلي مصدرا مهما للحجارة الصلبة، فقصّبها وبنى منها حيطان البيت الخارجية، ومن الصخور الكلسية السهلة العلاج عمّر قناطره لتحمل بعض الأغصان التي يغطيها “الركس” الآتي من الاحراج الكثيرة القليلة الشجر الباسق، وعليها مدّ طبقة من البلان المضغوط الذي شكل العازل وحمل التراب الأبيض الكلسي الذي يمنع، فور ترطبه ودحله، دخول الماء. وكانت الحجارة الكلسية ايضا إذا ما حرقت بالنار تنتج تلك المادة البيضاء التي يرشق بها البيت فيزهو بياضا ويمنع الكثير من الجراثيم والطفيليات من التعشش في حناياه. إذا من الأرض التي سيجته وشكلت الحاجز لأطماع الآخرين، وجد العينبلي المواد الأولية لبناء بيته وهو الجزء الأهم لجمع العائلة تحت سقف دافيء خاصة في ايام الشتاء القارصة.

وفي الأرض الحمراء المعلقة حيث حفظ ترابها بحيطان من الحجارة الغشيمة التي تسمح بتسرب الماء ليخف الضغط، زرع هذا الفلاح النشيط زيتونه وتينه واضعا العنب على السناسل ليؤمن مصادر غذاء يمكن حفظه لأيام الشح والقلة؛ فالزيتون يحفظ بالزيت في الخوابي طيلة السنة كما في النعائر مكبوسا، والتين مجففا هو غذاء الفلاح في الحقل ويحفظ ايضا كمربى بعد غليه، أما العنب فهو مصدر الخل والنبيذ والعرق وخاصة الدبس الذي يحلى به كل شيء إضافة إلى الذبيب والمربى وكلها مواد يمكن أن تعطي غذاء وطاقة طيلة السنة. وقد يضيف عليها بعض الحبوب التي تحفظ أيضا في خلايا البيت وتشكل مع تبنها أعلاف حيواناته العاملة منها والحلابة.

حديثنا إذا عن هذا الفلاح ومجتمعه، وإذا كان فلاسفة اليونان القدماء حددوا شروط قيام المملكة المستقلة بأن يكون عندها ثلاثة منتجات هي الزيتون والعنب والقمح فإن عين إبل وقد زادت التين أيضا واستحقت ذلك النوع من الكفاية التي يمكن أن توفر لها هذا النوع من الاستقلال. من هنا سوف يكون لمن ساهم في تنظيم هذا المجتمع شأن مهم دعما للاستمرار.

أول مظاهر التنظيم في مجتمعنا القروي كانت طبيعية تشبه ما جرى في كل التجمعات البشرية، فالوحدة الاساسية في اي مجتمع هي العائلة، والعائلة الصغرى تكبر بالمحبة والتعاون لتصبح عائلة أوسع تحتاج لعلاقات متوازنة ومبنية على بعض الحقوق والواجبات تجاه الآخرين. لذا فقد كان التنظيم الاجتماعي في عين إبل يقوم على تمثيل العائلات بشخصيات مشهود لها ببعد النظر والتروّي بأخذ القرارات وتفهّم المصلحة العامة، وهؤلاء شكلوا ما سمي بوجهاء البلدة. وهم بقدر تعاطيهم الشأن العام بتجرد، يضيفون لأنفسهم إحتراما أكبر وتمثيلا أوسع. وكانت حماية الأملاك من التعدي، إن في السرقة أو التخريب وغيره من الأضرار، أمورا مهمة لتأمين وصول الانتاج إلى أصحابه، ما يسهم في ديمومة الأفراد والعائلات الصغيرة واستقرار المجتمع، من هنا كان تنظيم الحماية الموكل إلى الناطور من الأمور الأكثر أهمية في البلدة.

في الأربعينات وبعد أخذ لبنان استقلاله عين أحد أبناء بيروت قاضيا في محكمة الصلح في بنت جبيل، ولم يكن لأبناء عين إبل مشاكل تدعو لتدخل القضاء لأن أكبر مشكل كان يحل عند المختار وينتهي باعطاء كل ذي حق حقه بدون الحاجة لتدخل الدولة، من هنا لم يكن أحد من العينبليين يعرف هذا القاضي، وصادف أن هذا القاضي الجديد كان يحب الصيد كهواية وخاصة لأنه لم يكن له أصدقاء بعد، وفي أحد الأيام وصل في رحلة الصيد إلى أرض عين إبل وتنقّل بين الأرزاق ملاحقا بعض الطيور وإذا بالناطور، وكان يومها أبو مارون يوسف رزق على ما أعتقد، يفاجئه ويأمره بالقاء سلاحه. فسأل القاضي هذا الشخص الذي كان يتكلم بلغة الأمر من أنت ولماذا تريد أخد سلاحي، فقال له أنا الناطور ويجب أن تعلم أن الصيد ممنوع في هذا الوقت من السنة في أرض عين إبل، وبما أنك خالفت القانون سوف أصادر سلاحك وتذهب عند المختار لتسترده بعد دفع الغرامة. فقال القاضي، ولم يعرّف عن نفسه، بأنه مستعد لدفع الغرامة بدون الذهاب إلى المختار، إذا أمكن. فكتب له الناطور مخالفة على دفتر الظبط الذي يحمله وأخذ منه مبلغ خمسة ليرات وأعطاه الوصل ورد له سلاحه مع التنبيه بعدم الصيد ودخول الأملاك خاصة في هذه الفترة من السنة وهي أواخر الربيع. لم يعلم المختار، بعد أن قص عليه الناطور ما جرى، من كان هذا الغريب، ولكن الناطور وعندما ذهب إلى بنت جبيل بعد أشهر لتجديد دفاتر الظبط من المخفر، وكان بنفس مبنى المحكمة، فوجيء بأن القاضي هو نفسه الشخص الذي أوقفه، فتقدم منه معتذرا على ما جرى، ولكن القاضي أجابه بأنك قمت بواجبك وأنا من عليه الاعتذار لأني خالفت القانون، ولكن سؤالي لك الا يوجد مشاكل في قريتكم؟ لماذا لم أرى بعد اية دعوى من أبناء عين إبل؟ فاجابه الناطور أن عندنا مشاكل ككل الناس ولكنها تحل عند المختار ولا حاجة لنا للمحاكم. فزاد القاضي إعجابا بهذه القرية وأبنائها. ومضى ابو مارون وأخبر المختار بما جرى. ولكن القاضي، وكان من أقارب الرئيس رياض الصلح أخبر رئيس الوزراء يومها بهذه القصة وبأن هناك قرية في جنوب لبنان لم يصلني أية شكوى من أحد أبنائها، ولها تنظيمها الخاص وقوانينها حتى بالنسبة للصيد. فقام رئيس الوزراء وأخبر هذه القصة في مجلس النواب قائلا لو كانت كل قرية تعمل مثل عين إبل كنا بألف خير… (يتبع)