د. جواد بولس: التراث اللبناني وإعادة تفعيله

614

التراث اللبناني وإعادة تفعيله
د. جواد بولس
محاضرة مقدمة باللغة الفرنسية في الجامعة الكاثوليكية “أندريس بييو” بتاريخ 31 ايار من عام 1960
كاراكاس – فنزويلا www.jawadboulos.org

طلبت مني الجامعة اللبنانية، التي تفتتح في هذه الامسية سلسلة جديدة من محاضراتها، ان أتكلم عن “التراث اللبناني”.
وقد استجبت كما الكثير من اصحاب الإرادة الخيرة الآخرين لدعوة الجمعية لأن الموضوع المعروض عزيز جداً على قلوبنا، ويسمح لنا، بالإصافة الى ذلك، في بداية هذا العام ان نقوم بنوع من الجردة لتراثنا الوطني، الذي بفضله تمكنا معرفة افضل عن أنفسنا. فالأمر يتعلق، من جهة ما، بفحص للضمير الجماعي.

مقدمة
أ) تعريف كلمة تراث:
قبل الدخول إلى عمق الموضوع، من المناسب تحديد معنى كلمة “تراث”.
تتفق كافة القواميس على إعطاء هذه الكلمة معنى خاصاً ومعنى صورياً. في المعنى الخاص، يشمل التراث “الأموال المكتسبة بالإرث من الاسلاف”، وبالمعنى: ما يُعتبر إرثاً مشتركاً، … ما يوصي به وينقله جيل منتهٍ إلى الأجيال اللاحقة”. وباللغة العربية يُعطى هذا المعنى، الخاص والصوري، إلى كلمة “تراث” وهذا ما يؤكده القاموس المعجمي للعلامة المشهور الشيخ عبدالله العلايلي .

ب) قدم التراث اللبناني.
التراث بالمعنى الصوري، هو عائلي او مناطقي او وطني. ويشكل التراث الوطني مع الأرض والانسان الذي يعيش عليها والذي يرقد تحت ترابها ما يسمى الوطن….، حتى لو كانوا من اقربائنا او مواطنينا، هو من التراث المشترك لكافة الأمم.
نحن نعلم بالإضافة إلى ذلك، ان تراث فرد او شعب يغري اكثر من يستفيدون به ليس بسسب جهدهم الشخصي بل بسبب إرث اسلافهم الابعد عنهم في الزمان.
وضمن نطاق هذا القدم لا يوجد اي سبب ليحسد التراث اللبناني اي ثالث آخر. فلبنان، في الواقع، مع مصر والعراق، هو احد البلدان الثلاثة الذين يؤسسون معاً مهد الحضارات التاريخية الأولى. اليونان القديمة، أم الثقافة الهلينية وجدة الثقافة الغربية، تعترف هي نفسها أن تراثها الحضاري نفسه يعود بأصله إلى الإرث الفكري الذي كان قد استلمه من بلدان الشرق الأوسط: بابل وفينيقيا ومصر.
تجدر الإشارة إلى أنه عند ولادة الحضارة التاريخية لأول عالم عربي، العالم الكريتي – الإيجي، في أوساط الألف الثالث، كان مصدر هذه الولادة من الشرق القديم، وقد عرفت هذه الحضارة على مر القرون اللاحقة كبوات كبرى، عد من بعدها العالم الغربي الى الغارق في غياهب البربرية. وقد قامت النهضة الكبرى التي تلت هذه الكبوات بفضل أسفار الفينيقيين، في الصنف الأول قبل الميلاد، والعرب المسلمين، في الصنف الثاني من الألفية الأولى بعد الميلاد. وبالتالي، إن كان الشرق الأدنى الحديث قد إستثمر التراث الثقافي للغرب، فهو لم يقم إلا باستعادة دين قديم كان هذا الغرب يدين به منذ زمن بعيد.

ت) اسئلة أولية.
نعم، لا يمكن إنكار أن فينيقيا كانت من أولى مهود الحضارة للحضارات التاريخية الأولى ومن أطلق العالم الغربي الأول في الحضارة، وأنها من ساهم لاحقاً، مع اخترعها للأبجدية، بإثراء التراث الفكري للجنس البشري، وهذا الدور البارز يدعونا إلى الإجابة على سؤالين اوليين، سؤالان تم تفسيرهما بصورة خاطئة ومن المناسب الإجابة عليهما.

السؤال الأول:
هل اللبنانيون المعاصرون متحدرون من الفينيقيين؟ أم أن الفينيقيين لم يكونوا إلا مجرد مجموعة اثنية اختفت منذ زمن بعيد ولم يخلفها أحد من ذاك البلاد ولا تربطنا بهم أي قرابة؟
وجواباً على هذا السؤال المهم علينا أن نذكر قبل أي شيء أن مشكلة القرابة الإثنية التي تطرح بصورة مختلفة وفقاً لتعلق الأمر بمجموعة إجتماعية محصورة: عائلة أو عشيرة أو قبيلة، أو مجموعة أكثر إتساعاً: شعب أو أمة.
في الحالة الأولى، يمكن للعائلة والعشيرة والقبيلة الناشطة أن تنتسب إلى سلف مشترك يمكن التعريف عنه قريباً وقد لا يعرف لا إسمه ولا أصله. ويصعب رغم ذلك لا بل يستحيل تقريباً، إثبات صحة العلاقة مع السلف بصورة قاطعة عندما تكون سحيقة في القدم. وفي الحالة الأخيرة، تكون القرابة الإثنية مجرد إفتراض.
يمكن للعائلة والعشرة والقبيلة في الحالة الأولى أن تطالب بسلف مشترك قابل لتعيين هويته تقريباً، معروف إسمه وأصله في كثير من الأحيان. رغم ذلك فإن هذا الأمر صعب في كثير من الأحيان ويستحيل تقريباً إثبات بصورة اكيدة صحة وجود هذا السلف عندما يكون سحقاً في القدم. في هذه الحالة الأخيرة تكون القرابة الإثنية مجرد إفتراض.

ويحدث ذلك بصورة خاصة عندما يتعلق الأمر بقرب بين مجموعات إجتماعية كبرى أو شعوب أو أمم مع المجتمعات التي سبقتها منذ وقت طويل ضمن نفس الإطار الجغرافي. وفي هذا المجال، تكون فرضية القرابة جدية لأن العقلية والطبائع النفسية للمجموعات الحالية تشبه تقريباً تلك التي كانت للأجيال التي سبقت على التوالي في نفس البلد.

وبالفعل فإن العالم الحديث يعلمنا أن ما يعرف عن شعب ويميزه عن باقي الشعوب هي الطبائع النفسية الموروثة أو الوطنية التي تتكون وتتشكل بسبب حركة العوامل الطبيعية حيث يعيش. الجغرافيا تكون وتفكك الأجناس. حيث تتم متابعة الطبائع الوطنية لشعب يلاحظ أنها ثابتة مثل المحيط الطبيعي الذي شكلها، وأن هذه الطبائع تتعدل على مر مدة طويلة تقريباً من الوقت من قبل المحيط الجغرافي الذي يستقر فيه هذا الشعب بصورة نهائية.
إذاً، روح مجموعة جغرافية أو شعب هي روحٌ دائمةٌ طالما يقطن في نفس المكان. ما يمكن أن يتحول فيه على مر السنين، من دون تعديل جوهر طبيعته، هي الطبائع المكتسبة أو الإجتماعية، كاللغة والدين والمؤسسات والعادات والتقاليد، إلخ… لكن الطبائع المكتسبة هي عناصر خارجية وسطحية ومتغيرة، لا تنتقل بالإرث ولا تؤسس بذاتها طبائع الجنس. هذه هي التغيرات السطحية التي تؤدي إلى الظن أن شعبان جديداً قد حل محل القديم. في الواقع، أنه نفس الشعب الذي يحل لغة أو دين جديدين بدل اللغة والدين الأوليين.

وكاستنتاجٍ، فإن طبائع الشعب، العامل الرئيسي في تراثه، يتشكل بفعل عوامل جغرافية أكثر مما هي اثنية أو دينية. وينتج عن ذلك أن التراث اللبناني هو الملك المشترك لكافة اللبنانيين، المسيحيين والمسلمين. وهو بالفعل الإرث المشترك لكافة الأجيال التي تعاقبت على لبنان منذ البداية التي تشكلت طبائعه النفسية والأخلاقية من قبل العناصر الجغرافية لهذا البلد. اضافت كل من هذه الأجيال إلى هذا الإرث مساهمته الخاصة الذي يحمل بنفسه علامة المحيط الطبيعي والطبع الوطني. إن الإختلافات التي تلاحظ بعد الأحيان بين ثقافات هذه الأجيال المتعاقبة ليست إلا سطحية فالنسيج الأساسي الذي يجمعهم هو ذاته. يمكننا القول، من دون أي مبالغة، أن اللبناني المعاصر المسلم والمسيحي هو التركيبة الحية واللاواعية للثقافات التي تعاقبت على لبنان والتي تعود جذورها إلى الحقبات الفينيقية والكنعانية وما قبل التاريخ.

السؤال الثاني:
لماذا فينيقيا التي ساهمت بصورة لامعة ولمدة طويلة في ولادة وتطور حضارة العالم القديم هجرت من حقبة معينة هذا الدور العظيم، بينما إستمر سكانها، ورثة وخلفاء الفينيقيين والكنعانيين، في السكن في نفس الأرض؟
الجواب على هذا السؤال المهم بسيط جداً. يتعلق توقف المبادرات الخلافة لفينيقيا، إضافة إلى موت الحضارات الجميلة لمصر الفرعونية وبابل الكلدانية بنفس السبب: الحروب وفقدان الحرية والسيطرة الأجنبية.
ولكي تتطور كل ثقافة وطنية وتستمر، تحتاج إلى دعميين اساسيين: الإستقلال السياسي والإزدهار المادي. عندما يتم فقدان أحد هذين العاملين وتضعف الثقافة، تختفي على المدى الطويل. إن الإحتلال الفارسي، الذي وضع في أوساط القرن الخامس ق.م. نهاية لإستقلال بابل ومصر، أنهى حضاريتهما الوطنيتين. ولحسن حظ فينيقيا التي حافظت تحت نير الفرس على شخصيتها الدولية ونشاطها البري البحري، لم تعرف مصر اختيها الكبيرتين في الفرات والنيل بل حدث ذلك بعد قرنين، 332 ق.م. عندما دمار الإسكندر المقدوني صور وانهى استقلالها ودمر قوتها الإقتصادية.
فقدت منذ فتح الإسكندر بلدان الشرق الأوسط سيطرتها على أقدارها. بفضل الخلفاء العباسيين في بغداد، إستعداد العراق فحسب خلال فترة قصيرة نسبياً الإستقلال السياسي والإزدهار المادي اللذين سمحا له بالعودة إلى إعطاء الشرق الأقصى وعالم الحقبة حضارة جميلة ولامعة، انهتها من جديد الغزوات الآسيوية والدمار الإقتصادي.
من جهة أخرى، نلاحظ أنه لا بد من تحقيق النهضة في حل إجتماع الظروف الثقافية أو السياسية لتحقيقها. إن القانون التاريخي هو قانون عدم التكرار، يعني أنه من النادر أن تلعب نفس الأمة لأكثر من مرة نفس الدور الكبير في التاريخ، إلا في حال حدوث نشوء ماضي كبير لخلط من الأجناس. من المقبول أن نفكر أنه مع الإستقلال الإزدهار المادي وخلط أجناس مختلفة يعمل لعقود طويلة يمكننا أن نرى في لبنان نشوء ضمن مدة قصيرة نهضة لبنانية، تبدو ملامحها ظاهرة للعيان.

التراث اللبناني
إن التراث اللبناني، ككل تراث وطني، يشمل عدة مجالات: الجغرافي والإقتصادي والسياسي والعسكري والديني والثقافي والسياحي، إلخ…
أنا في الحقيقة لا استغل صبركم الجميل، وسأحاول أن اختصر في عرض مجموعة تراثنا الوطني. من جهة أخرى، الوقت الذي أعطي لا يسمح بذلك. يسرني إذا أن اعطيكم في فصول موحية فكرة عامة وهذا ما انتظره.

1. المجال الجغرافي:
ان النطاق الجغرافي هو الحجر الأساس لبنائنا التراثي، العامل الدائم الذي حدد بصورة دائمة وأدار دفا تطور أو نشاط اللبنانيين منذ البدء. هذا النطاق هو في نفس الوقت وصية تراثية، تم نقله من كفى الأجيال السابقة منذ العصر الحجري القديم وعامل خلاق لملكنا التراثي، كونه كما قلنا شكل الطبائع الوطنية للمجموعات الإجتماعية يعين أو يعرقل نشاطاتهم المتعددة.
المجال الجغرافي هو إلى حد ما الغطاء الجسدي للشعب والأمة.
إن كان الشعب السوري والعراق والمصري والتونسي والجزائري ، إلخ… الذين ينتمون إلى نفس العراق الانتربولوجي، العرق المتوسطي، ويتكلمون نفس اللغة ولهم نفس الديانة، هم مادياً ونفسياً مختلفون ومتمايزون فيجب أن يتم البحث عن السبب في مجالاتهم الجغرافية المختلفة على التولي.
وكاستنتاج، إن الحياة والنشاط العام للبنانيين في كافة الحقبات محددة بشكلٍ رسميٍ بالشكل والموقع الجغرافي لبلدهم.
يتألف لبنان البلد من جدارٍ جبليٍ شاهقٍ، سلسلة جبل لبنان، التي تنحدر بشكلٍ شبه عامودي إلى الشرق وبشكلٍ ألطف نحو البحر الأبيض المتوسط إلى الغرب. هو إلى حدٍ ما جزيرة جبلية أو جبل ينحدر نحو البحر. إضافة إلى ذلك، إن هذا المجمع الجغرافي الفرد المنعزل عن الداخل ولذي ينظر إلى البحر، يقع في مركز معابر دولية، في منطقة هي ممر بين قارات العالم القديم.
تطور الجبال بين الناس شعور فطري بالإستقلال الجماعي والحرية الفردية. البحر طريق تواصل يشجع على التبادل الإقتصادي والثقافي، يطور الوسائل البشرية المفتوحة على البضائع والأفكار القديمة من الخارج، وبالتالي تصبح المجتمعات عالمية النظرة ومتسامحة ومتحررة وديمقراطية ومعتلة وعاشقة للتطور والحياة الفكرية والفنية. هذه الطبائع الأساسية أو الوطنية هي طبائع الشعوب التي عاشت في هذا البلد منذ فجر التاريخ حتى أيامنا هذه، تحت مسميات: ما قبل الكنعانيين، الكنعانيين، الفينيقيين واللبنانيين.

2. المجال الإقتصادي:
• الزراعة:
إن عدم كفاية الموارد الزراعية، بسبب قلة الجزء الصالح للزراعة من الأرض والقرب من البحر وموقع البلد في وسط ممر دولي، حث اللبناني على ممارسة الزراعة المكثفة لأرضه بشكلٍ دائم وتكريس نفسه للنشاط البحري والتجاري.
وبما أن اللبنانيين كانوا مزارعين أكثر منهم أهل ارياف، ففي حقبات أخرى، كأيامنا هذه، زرعوا الأشجار المثمرة والزيتون والعنب والتين، إضافة إلى الحبوب التي تدخل في صناعة الخبز. تعلمنا سجلات مصرية من القرن الخامس عشر قبل الميلاد أنه في لبنان تلك الحقبة “كانت البساتين مليئة بالثمار؛ وفي المعاصر كان النبيذ يجري كأنه ماء؛ الحبوب على الجلول (الجبال) كانت أكثر من الرمال على الشاطئ.
أليس هذا ما يجري في لبنان اليوم؟

• الإبحار
فيما يتعلق بالنشاطات البحرية والتجارية للبنانيين الأولين، نعرف أنه منذ النصف الثاني للألفية الرابعة، بين 3500 و 300، كانت جبيل تنقل إلى مصر، على متن سفنها الخاصة، أخشاب من لبنان ومنتجات آسيوية.
إمتد عمل الوسيط هذا، الذي إستمر على مر القرون، إلى كفى بحار العالم المعروفة. ظهرت في لبنان أول مرافئ بناها الإنسان. يكتب ج. مونتينو “العمل الذي قام به الصوريون والصيدونيون والأرواديون بجمعهم الأرصفة البحرية بواسطة حواجز أمواج إصطناعية، مع رفع الجدران صقلوبياً من أجل حماية مراسيهم، وذلك وحده جدير بالإعجاب”.
مرفأ صور القديم الذي تدمر بسبب زلازل أرضية ويوجد حالياً تحت البحر على عمق ثمانية إلى خمسة عشر متراً، كان فيه حاجز وأحواض وموانئ وأرصفة مطولة بكواسر أمواج. كان الفينيقيون أول من إخترع الإبحار امتلكوا أسطولاً بحرياً وسطلاً حربياً.
ولعدم وجود البوصلة، الأداة التي لم تعرف قبل القرن الثاني عشر بعد الميلاد، كان البحارة الفينيقيون يهتدون بكوكبة الدب الأصغر الذي اسماها اليونانيون فينيق، “النجمة الفينيقية”. كانت القوة العظمى في العالم القديم، مصر وآشور و بابل وفارس، تستعين بالفينيقيين عندما كانوا يحتاجون الى بعثات بحرية. ولجأ ابطال هوميروس إلى البحارة الفينيقيين عندما احتاجوا إلى البحار. حملت عملات المدن الفينيقية على الدوام صورة سفينة.
حتى عام 1200 ق.م. كانت فينيقيا مستقلة وتابعة للقوى العظمى في تلك الحقبة، وخاصةً مصر. حوالي عام 1400، مرت بلاد الفينيقيين بفترة إنحطاط وفوضى. عندما كان ريب-آدي ملك جبيل مهدداً بأخطار جسيمة من الشرق تتمثل بلحثيين، أعداء مصر، توجهلة الفرعون، رئيسه، بهذه التعابير: “عند قدمي سيدي، إلهي، شمسي، وحب حياتي، سبع مرات وسبع مرت أخرى أذل نفسي”. ويضيف الجبيلي: “جبيل هي ممفيس الأخرى خاصتك”. كان ذلك أسلوب تلك الحقبة. لكن الفرعون، الذي كان عليه أن يستجيب لنداءت أخرى، لم يتمكن من إرسال أكثر من نجدة غير ذات معنى، وريب-آدي إنتهى إلى الهزيمة.
بعد عام 1200، ساعد الحظ الذي يدور على الدوام فينيقيا. الإمبراطورية الحثية التي كانت تسيطر على آسيا الصغرى وشمال سوريا دمرتها شعوب البحر ودخلت مصر في فترة طويلة من الإنحطاط. ومع إطمئنان فينيقيا من الجهة القارية إبتداء من تلك الفترة، بدأت دورها الإمبراطوري كسيدة للبحار الذي دام عدة قرون. وأيضاً، تغير تصرف الملوك الفينيقيون مع مصر بصورة جذرية. حوالي عام 1100، زكابعل ملك جبيل، فخوراً بمراكبه ال”10000 التي كانت تتاجر مع مصر” لم يتذلل أمام سفير مصر. “أنا لست خادماً لك ولا خادماً لمن أرسلك”، قال له.
هذه اللهجة المتعالية لملك جبيلي في عام 1100، والتي تتناقض مع تذلل سلفه في عام 1400، هي لهجة كل العصور. نرى اليوم أمثلة عديدة على كافة المستويات.
الملك سليمان ائتمن فينيقيي صور حوالي عام 950 على بناء اسطول البحر الأحمر. وكانت سفن الاسرائيليين، التي قادها بحارة فينيقيين، تقوم برحلة كل ثلاثة سنوات الى اليمن وافريقيا، تعود محملة بالبضائع المختلفة، التي كانت تنقلها القوافل الى صور.
وهكذا، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة كان لبنان يؤمن الخبراء للبلاد الأجنبية التي كانت تحتاجهم.
وكان يؤمنهم ايضا” لبلاد الفراعنة. وبالفعل، حوالي عام 600 ق.م، بعد أن انتزع نبوخذ نصر فلسطين من مصر، حاولت هذه الاخيرة ان تعوض عن نفسها باتجاه أفريقيا. اسطول مصري في البحر الأحمر، بناه وقاده بحارة فينيقيين، تولى من قبل الفرعون نخاو الثاني استكشاف سواحل أفريقيا الجنوبية. بعد ثلاث سنوات من الابحار، عاد الفينيقيون الى مصر عن طريق مضيق جبل طارق . كانوا قد داروا حول رأس الرجاء الصالح. الذي لم يتم اكتشافه الا بعد عشرين قرنا” من قبل البرتغالي فاسكو دي غاما في عام 1497 م.ب.

• التجارة
كان الفينيقيون ينقلون بشكل رئيسي البضائع الفاخرة. كانت مخازنهم في اسبانيا وغالة وألمانيا تسهل عملياتهم التجارية في تلك المقاطعات وعلى السواحل حيث كانوا يتوقفون كانت السفن الفينيقية تبقى لشهور وحتى سنوات، الى ان تنفذ حمولاتها.
وكمالكين للتجارة البحرية، لم يهمل الفينيقيون التجارة البرية. على طرق القوافل التي كانت تخرج من ساحل لبنان، كانوا يصلون الى دمشق وحمص وحماه وحلب وتدمر وآسيا الصغرى وآشور وبابل والخليج العربي والقدس والبحر الأحمر والجزيرة العربية . رافق الفينيقيون الاسكندر الى الهند.
في ايامنا هذه، ينتشر اللبنانيون ايضا في كل مكان، لكن البحرية اللبنانية لم تلعب حتى ان لا دوراً مهماً، لدي امل في ألا تتأخر لتلعب هذا الدور.
اتهم بعض المؤلفون اليونانيون القدماء الفينيقيين أنهم بحارة مخادعون وطماعون واتهموهم بممارسة القرصنة. هذا الاتهام الذي بدأ الآخرون يراجعونه قاس وغير عادل. يجب أن نتذكر ان اليونانيين كانوا خصوم الفينيقيين ومنافسيهم في البحار. من جهة اخرى كان ظاهراً بين البحارة الفينيقيين افراد شرسين وعديمي الضمير، كما يوجد في كل مكان وكل العصور، خاصة بين الناس الطموحين الى الارباح والثروات.

3. المجال الثقافي:
• العصر الكنعاني أو الفينيقي
حوالي نهاية الألف الرابع، كانت بلاد ما بين النهرين ومصر، اللتان اخترعتا كتابات تصويرية مختلفة، تشكلان كتلتين بشريتين كبيرتين متحضرتين. حوالي تلك الحقبة، الكنعانيون أو ما قبل الفينيقيين في لبنان، الذين تبنوا كتابة هيروغليفية خاصة موحاة من مصر وأخترعوا السفر في البحر، كانوا يعملون كوسطاء بين جيرانهم الكبار في الفرات والنيل.
حوالي منتصف الألف الثالث، الكنعانيون الذين كانوا يجوبون شرق البحر المتوسط، نقلوا الى العالم الكريتي والايجي، الذي كان يهيم في البربرية، منافع الحضارة الشرقية، التي كان لديها عدة قرون من القدم. وكمالكة للبحر الفيجي، افتتحت كريت منذ تلك الحقبة حضارة كريتية – ايجية لامعة استمرت لعدة قرون.
حوالي منتصف الألف الثاني، وبينما كانت بلاد ما بين النهرين ومصر عالقتين في كتابتهما التصويرية، اخترع كنعانية جبيل أو بيبلوس الكتابة الابجدية.

1. اختراع الأبجدية
اختراع الأبجدية، ويعود الفضل في ذلك الى فينيقيي جبيل بلا منازع، كانت نتيجته احداث ثورة في الحياة والنشاطات الثقافية لشعوب العالم القديم. من جهة اخرى، فإن المكتشفات الحديثة أكدت أن هذا الاختراع كان نتيجة سلسلة طويلة من الاختبارات والتجارب التي تلاحقت خلال ثلاثة أو اربعة قرون. تثبت هذه الأعمال التحضيرية بصورة واضحة ان اختراع الأبجدية لم يكن عمل عفوي لجيل ولا ثمرة الصدفة.
وفي الواقع، فان هجر الكتابة التصويرية، التي كانت على اساس الصور، لصالح الكتابة الأبجدية، وهي على اساس الصوت كان يفترض عملا” فكريا” جبارا”، كان جهدا” عظيماً للفكر الفلسفي، للتحليل والتركيب الذي كان يفوق مستوى القدرات الفكرية لانسان تلك الحقبة. في ذلك الزمن , كانت المشكلة في الواقع جديدة للروح الانسانية.
المشهور م. دونان “كان احد الاختراعات الانسانية الثابتة التي لم تتغير . تحت رموزها المتعددة… وبعد 4000 عاما” في عالم يحركه كل شيء، استمرت فوق كل تطورات الحضارة”. وبالفعل، كل ابجديات العالم في ايامنا هذه هي نتيجة الأبجدية الفينيقية.

1. اختراع الكتاب
وأيضا” في جبيل أم الأبجدية ولد بعد مدة قصيرة , الكتاب الحقيقي اب الكتاب الحديث. ومن اجل هذا الاختراع سمى اليونانيون جبيل بيبلوس , اي ” مدينة الكتاب “.
• دخول العالم الهليني الى الحضارة
حوالي عام 1200 ق. م، وقعت كارثة انسانية، غزو شعوب البحر الشمالي، الذين انتشروا في العالم افيجي والشرق الأدنى ودمروا المؤسسات والحضارات الموجودة. أمبراطورية الآخيين في اليونان التي ورثت أمبراطورية الكريتيين وامبراطورية الحثيين في آسيا الصغرى اختفتا الى الأبد . مدينة أوغاريت الفينيقية عانت نفس المصير. المدن الفينيقية الأخرى، اضافة الى فلسطين، دمرت بصورة رهيبة. واستغل الفلسطيون هذه الأحداث واستقروا على الساحل الفلسطيني، وبقي الليبيون في ليبيا. استقر الآراميون في سوريا وبلاد ما بين النهرين والعبرانيون الاسرائيليون توغلوا في كنعان – فلسطين التي كانوا يطمعون بها منذ هجرة ابراهيم حوالي عام 2000 م.ق.
البرابرة الدوريون، خلفاء الاخيون في اليونان ومدمرو حضارتهم، جعلوا من العالم اليوناني الايجي ومحيطه منطقة بربرية.
وكما حدث في الألف الثالث, وقد كان الفينيقيون قد نشروا في العالم افيجي الحضارة الشرقية, التي تطورت في كريت ولاحقاً في اليونان, حدث بعد ارثة عام 1200, عاد العالم اليوناني الايجي من البربرية وولدت الحضارة من جديد بفضل الرحلات الفينيقية.
“يكتب ج. كونتنو, ان تجربة شعوب البحر الرهيبة, أخرت لكن لم تدمر الثقافة الفينيقية. ويبدو أنه بعد مرور الغزاة استعادت الحضارة مسيرتها منطلقة من السواحل اللبنانية. عندما تم تأليف الألياذة والأوديسة كانت فينيقيا في قمة ازدهارها؛ كانت تجارتها تشع بعيداً فوق البحار. كل يونان ذلك العصر دانت بالكثير لفينيقيا في سلسلة أعمال من مستوى عال جداً أثبت ان اليونان دفعت الضرائب لفينيقيا”.
“يلاحظ المستشرق والفيلسوف ماسون – أورسل، أنه لا يوجد أي شعب قبل الرومان مثل الفينيقيين ساهم في نشر حضارة البحر المتوسط في غرب أوروبا… قامت فينيقيا بأكثر مما يعتقد للتحضير للفلسفة الهلينية”.
كان اليونانيون القدماء يعترفون ان الفينيقيين هم مبدعو ” الخروج الثاني من البربرية ” للبلد الهليني الذي أنتج بعد ذلك بعدة قرون ” المعجزة اليونانية “. وفي متابعة لتقاليدهم الأكثر تصديقا”, قدموس, ابن الملك الفينيقي أجينور, سافر بحثا” عن أخته أوروبا التي خطفها الاله زيوس, وأسس مدينة ثيباس (ثبين – ثيفا) في اليونان ونشر الأبجدية وتعلم أصول أعمال الزراعة وصهر المعادن.

1. نصوص رأس شمرا
النصوص التي تم اكتشافها عام 1929 ب.م في رأس شمرا قرب اللاذقية, هي قطع مما كان يشكل مكتبة المدينة الفينيقية القديمة أوغاريت, التي تدمرت حوالي عام 1200 ق.م بسبب غزو شعوب البحر الشمالية. هذه الكتابات, الموضوعة بلغة هي لهجة كنعانية – فينيقية, تشمل سلسلة من نصوص أدبية وقصائد أو ملاحم ذات طابع ميثولوجي أو اسطوري. تمت كتابتها حوالي عام 1400 ق.م وتعود هذه القصائد الى ماض سحيق في القدم.
يشير المستشرق الايطالي دل ميديكو الى الكثير من الصفحات الجميلة من هذه القصائد, ويمكن وضعها بين اجمل درر الأدب القديم, ويصاب المرء بالمفاجأة أمام جمال المواضيع وغنى التعابير والقيمة الأخلاقية السامية التي تبرز في مجموع هذه الكتابات.
“يلاحظ ج. كونتنو, أنه اذا حللنا نصوص رأس شمرا بذاتها, سوف نجد فيها الكثير من الصور الشعرية التي تستعمل في العهد القديم؛ لكن ليس من هذه الناحية يمكننا ان نقارن, بل في ظهور أماكن وأشخاص من العهد القديم. تارح, اب ابراهيم… قادش والنقب في جنوب فلسطين, مدينة اشدود وبعض المدن الأخرى”. كانت كتابة نصوص الكتاب المقدس لاحقة لقرون عدة لنصوص رأس شمرا.
ويضيف ش. فيرويود : “كان يقال الكثير خلال الحقبة الرومانية أن فينيقيا أنتجت مؤرخين وفلاسفة حتى قبل حرب طروادة ( حوالي عام 1200 ق.م ). وأكثر من ذلك, فان فينيقيا قد أنتجت وقبل حرب طروادة شعراء وجدت أعمالهم بين أنقاض مدينة… هجرت قبل حوالي 3000 عاما”… ويلاحظ في نفس الوقت أنه بينما اخذت مصر في اعمالها التصويرية الكثير من فينيقيا, بالمقابل لم تأخذ فينيقيا شيئاً من مصر في هذه الأعمال, ولا من بابل في باقي الأساطير الكنعانية، ان نظرنا الى الأمر على الاقل من وجهة نظر قصائد رأس شمرا”.

1. المفهوم الذري
نشير اخيرا الى ان فيلسوفا فينيقا, وهو موخوس الصيدوني, ولكي يفسر الطبيعة اخترع في النصف الاول من الالف الأول ق.م مذهباً فلسفياً, بعد ان طبق في ايامنا هذه, احدث ثورة في عالمنا الحديث. نتكلم عن المفهوم الذري, اساس نظرية الذرة الحديثة.
بعض العلماء المعاصرين , في نزعهم مجد هذا الاختراع عن موخوس , حاولوا القول ان الفيلسوف اليوناني ديموقريطس ( حوالي 400 ق.م ) هو سلفهم . لكن اليونانيين انفسهم، كالكاتب وعالم الجغرافيا سترابون وغيره من الكتاب القدماء, ينسبون الابوة الى الفينيقي موخوس . نحن نعلم ايضا ان كتابات موخوس التي سبقت ديموقريطوس كانت قد ترجمت الى اليونانية, وان هذا الاخير سافر لمرات عدة الى الشرق . يشرح ماسون – اورسل: ” ربما تمكن ديموقريطوس خلال رحلاته ان يتعرف الى سابقة لمبادرة كانت سابقة لنظريته الخاصة.”

1. الدين
يعترف المستشرقون بالقيمة الاخلاقية السامية للدين الفينيقي للدين الفينيقي. الالهة صالحة وخلاقة: هي تعطي الحياة وتقرر القدر. كان ينظر الى الالهة كخلاقة وكقاض للانسانية. تنقطع علاقات الناس بالاله عندما يخالفون الشرائع الموضوعة لهم ويوفون للاله, وهو ربهم, من اجل ان يمنحهم طلباتهم.
كان الفينيقيون يعترفون بوجود نفس تنفصل عن الجسد عند الموت وتستمر بالحياة, لكن تبقى في حياة جامدة كالنبات. كانت النفس تحافظ على اتصال حميم بالجسد الذي فارقته. وايضا كان يجب حفظ الجثمان.
العنصر الرئيسي في العبادة هي الصلاة التي يجب ان تصدر من كامل الكيان وليس فقط من الفم, ويجب الا يتمنى المرء الشر للاخر في صلاته.
كان يتم التبشير بافكار الصلاح. في كتابة لملك جبيل الى ربة جبيل لكي تمنحه الحياة وتطيل ايامه وسنواته, لنه ملك صالح “. يكفي هذا النص وحده ليشهد على القيمة الاخلاقية للدين الفينيقي.

• الوضع الاجتماعي
اساس المجتمع هي العائلة. كان الزواج يتم بدفع مهر الى الحمى; لكن الشابة يجب ان توافق. الاولاد هم عطية من الالهة. البحبوحة والثروة هي النذور المعتادة التي كانوا يطلبونها. كانت الاطعمة تخضع للمعالجة. الآداب الجنسية كانت صارمة.
كان يجب تحاشي العنف والغضب والحقد. العطاء واجب, وكان يحدد بنسبة 12 % من الاستهلاك اليومي .
وكما يقول الكتاب المقدس “حيث كان التجار اغنى من الملوك”, عرفت المدن الفينيقية, ثورات سياسية حركها عدم رضى. من الافضل لأثرياء لبنان اليوم ان يتأملوا بوضع اسلافهم, لكي يتحاشوا مصيرهم .

• التعددية الدينية
تطلعنا نصوص رأس شمرا ان الفينيقيين كانوا منقسمين بين من يعبدون الاله ايل ومن يعبدون الاله بعل.
تظهر لنا هذه الوقائع وضع روحي معبر جداً . فبينما كان الملوك ينظر اليهم على اساس انهم آلهة او نواباً لاله عشيرة او امة, والذي كان الرئيس الاعلى للالهة الاخرى, كان دور الملك الفينيقي في المجال الديني محدودا جدا. وبما ان الشعب كان منقسما بين طائفتين كبيرتين وكل واحدة لديها اله ملكها الأعلى الذي كان عليه ان يبقى بعيدا” عن المشاكل الدينية, لم يكن باستطاعة الملك ان يكون رئيس احدى الطائفتين الكبيرتين . يمكن القول ان اللبنانيين القدماء, الذين كانوا منقسمين الى طوائف دينية قبل حوالي 3500 عاماً, تمكنوا من ايجاد ما يسمى اليوم “الدولة المدنية” والفصل بين الدين والدولة .
الوثنية, مع آلهتها المتعددة وأتباعهم, سبقت المسيحية في لبنان, التي توزع سكانه بين مذاهبها المتعددة. وبعد توسع الاسلام, اضيفت مذاهبه المتعددة الى المذاهب المسيحية .
اذاً, التعددية الدينية في لبنان ليست حدثاً جديداً, ولا اختراعاً للاستعمار. ان استمرار هذه التعددية طوال آلاف السنين من التاريخ يشير الى ان الوضع الروحي هو تقريباً عضوي وغريزي ووراثي. هو في الحياة الاجتماعية ظاهرة الروح المتحررة والمتسامحة للبنانيين خلال كل العصور والذي جعلهم يبدعون, حسب فهمهم الأفكار الدينية والأفكار المبسطة والتسامح مع حرية الاخرين .

1. الفنون
يعبر الفن الفينيقي على اساس أنه فن مركب , يأخذ عناصره من الحضارات الاجنبية . كان الفينيقي عاملا ماهراً, ناشراً للفن أكثر مما هو فنان مبدعا رغم ذلك, يعترف المؤرخون أن “الفينيقيين بتقليدهم للنسخ الاجنبية أعطوها طابعاً شخصياً.
ومن دون محاولة انكار هذا الرأي, يجب الاعتراف ان بعض انتاجات الفينيقية لها قيمة كمثيلاتها من أجمل الانتاجات الفنية الأجنبية . تتكلم الالياذة عن جرة فضية تعود لآخيل, وهي “اجمل جرة على وجه الارض, فقد زينها المبدعون الصيدونيون بصورة رائعة”.
اخترع الفينيقيون ايضا” الصباغ الأرجواني الذي كانوا يصنعونه في صور وصيدا, وكانوا ارباب هذه الصناعة.

• العصر اليوناني – الروماني
منذ فتوحات الاسكندر, فينيقيا والبلدان الأخرى في الشرق الادنى فقدت لقرون طويلة استقلالها وسيطرتها على مصائرها, تحولت الى مجرد مقاطعات ضمن الأمبراطوريات التي ثلث العالم الشرقي المجاور: الأمبراطوريات اليونانية – المقدونية والرومانية واليونانية – البيزنطية والعربية والتركية السلجوقية والأيوبية والمملوكية والصليبية والتركية العثمانية, من دون ان نتكلم عن السيطرة الأجنبية في عصرنا .
على مر هذه السلسلة الطويلة من القرون, كسفت شمس الثقافات الوطنية لمختلف البلدان المقهورة, باستثناء فترة قصيرة نسبياً خلال مرحلة بغداد, التي تحولت الى مركز الأمبراطورية العباسية ورأت الولادة من جديد لمدة من الوقت لحضارة جميلة ولامعة. وخلال هذه القرون الطويلة بدلت فينيقيا, كأكثر بقاع البلدان الأخرى المجاورة, ولعدة مرات, اللغة والدين. استسلمت اللغة الفينيقية امام الأرامية, ثم أختفت هذه الاخيرة لصالح اللغة العربية. من جهة أخرى, انمحت الوثنية أمام المسيحية, ثم لاحقا تقاسمت المسيحية المكان مع الاسلام. لكن هذه التبديلات السطحية لم تبدل الروح اللبنانية التي استمرت هي نفسها روح ما قبل العرب وما قبل الأراميين .
كانت صور تحت حكم الأمبراطورية الرومانية مركزاً ثقافياً وكان فيها مدرسة الفلسفة الراقية. الافلاطوني ماكسيموس , احدى معلمي الامبراطور ماركو – اوريليو , النيو – افلاطوني بورفيريو, الجغرافي ماينوس , اضافة الى الفقيه القانوني أولبيانو , هم أبناء صور . كان في صيدا مدرسة فلسفية اسمها الأريسطوطاليسية . كانت بيروت مركزا” للمدارس المهمة ومن بينها مدرسة الحقوق, وقد أشير اليها كاحدى المنارات الاكثر نشاطا” في العلوم والشرائع .
عندما اصبحت المسيحية دين شعوب شرق البحر المتوسط, توزع سكان هذه المقاطعة بين كثير من المذاهب المسيحية: الآريوسية, النسطورية, المونوفيزيقية, الخ … ووفاءً لدورها التقليدي, احتوت فينيقيا على الكثير من الطوائف التي تنتمي الى هذه المذاهب, كما احتوت في فترة الوثنية على المؤمنين بالاله ايل والمؤمنين بالاله بعل. وبعد توسع الاسلام أضيفت الى المذاهب المسيحية المتعددة الاسلام ومذاهبه المتعددة. الوحدة ضمن التعدد والحرية كانت تستمر تحت سماء لبنان الجميلة وظلال جباله المضيافة .

• العصر العباسي
خلال فترة حكم الخلفاء العباسيين, كان هناك عالمان انسانيان هما, الامام الأوزاعي وقسطا بن لوقا, حيث كانا يمثلا مجد فترة كل منهما .
تميز الأوزاعي, وهو فقيه وعالم مشهور, اصله من بعلبك, عاش وتوفي في بيروت (707– 774), وانتشر اسمه وشهرته في كل العالم الاسلامي , تميز ليس فقط بسعة معارفه في العلوم الاسلامية, بل ايضا” بمزاياه الاخلاقية السامية, وفضائله الانسانية وشرف وبساطة حياته. وصلت العقائد التحررية للأوزاعي, التي تبناها المسلمون في لبنان وسوريا, الى المغرب العربي وأسبانيا
كان قسطا بن لوقا مسيحياً , وأصله من بعلبك, عاش في بغداد حيث توفي عام 912. وهو طبيب وفيلسوف وعالم فلك وعالم فيزياء وكان ضليعا” باللغات العربية والسريانية واليونانية. ترجم عدد كبير من الكتب من اليونانية الى العربية وقد نسخت منها اعدادا كبيرة .
حوالي عام 1100, أصبحت مدينة طرابلس تحت حكم ابن عمار , وهو قاض شيعي , امارة مستقلة ومركزا” ثقافيا” . كان فيها مدرسة مشهورة وواحدة من اشهر المكتبات الاسلامية , وقد تدمرت عندما احتل الصليبيون طرابلس عام 1109 .

• القرون الوسطى (القرن الحادي عشر – القرن الثامن عشر)
ابتداء من القرن الحادي عشر, انتهت الغزوات الآسيوية والاوروبية ( الأتراك والأكراد والمماليك والصليبيون والمغول والتتار والعثمانيون, الخ … ) التي تعاقبت خلال قرون طويلة, بعد أن أخذت معها الازدهار الاقتصادي والثقافة والحضارة في الشرق العربي, تفاقم ظل القرون الوسطى فوق هذا الشرق القديم, الذي اوجد وطور أول الحضارات التاريخية والذي وقع سكانه تحت نير العبودية والجهل والبؤس. هجرت الزراعة تقريبا, توقفت التجارة, ساد الاستبداد في كل مكان , المدن والأرياف لم تتوقف عن خسارة سكانها. مصر التي كان يقطن فيها تحت حكم البيزنطيين والخلفاء العرب ما يقارب 9 الى 10 ملايين نفس لم يكن فيها عام 1800 أكثر من مليونين ونصف من السكن . أما في سوريا وفلسطين لم يكن الوضع افضل .
وهكذا , بعد أن حمل الشرق العربي تحت حكم الخلفاء مشعل الحضارة طوال اربعة قرون تقريبا” , ونقل الى الغرب عبر اسبانيا العربية بذور النهضة الثقافية , بدأ هذا الشرق منذ القرن الثاني عشر يعرف بدايات الانحطاط. خلال القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر توقفت الحركة الأدبية , وفي القرن الخامس عشر كان الكتاب العرب يكتفون بدراسة الأعمال القديمة . ومن القرن الخامس عشر الى القرن التاسع عشر , لم يتمثل الأدب العربي الا بمجرد تعليقات من معلقين تفسيريين قدماء أو ببعض السير التي كانت تخلو من الحس النقدي وجمال الأسلوب .
في هذا السقوط المتدرج نحو هاوية الانحطاط العام , كان لبنان يتمتع بحياة فيها حرية واطمئنان وازدهار نسبي, حيث تطورت الحياة الثقافية . أصبحت القرى تجمعات سكنية وريفية كبرى , حيث ازداد عدد المدارس والأديرة والكنائس. وكان المرسلون الأوروبيون الذين ارسلتهم كنيسة روما يساهمون في تطور الأفكار .
في القرن السادس عشر تأسست المدارس في روما من قبل الموارنة . تم تأسيس المدارس الدينية في لبنان حيث تم اعداد رجال دين متعلمين , ثم فتحت المدارس , وكانت أشهرها المدرسة الفرنسية في عينطورة , التي تأسست في عام 1728 .
في القرن السابع عشر , هجر المسيحيون اللبنانيون اللغة الوطنية القديمة , الأرامية أو السريانية , التي حافظوا عليها في القرى المسيحية في لبنان الشمالي وبدأوا يقومون بدراسات في اللغة العربية . حوالي عام 1600 تم تأسيس مطبعة في دير ماروني في غوسطا في لبنان الشمالي . وبعد قرن من ذلك , تأسست مطبعتان , واحدة في حلب والثانية في دير الشوير وسط لبنان . وفي مصر , أول مطبعة عربية جلبتها البعثة الفرنسية التي رافقت نابليون بونابرت , عام 1798 .

• عصر النهضة (القرنين التاسع عشر والعشرين)
في القرن التاسع عشر , شجع العاملون اللبنانيون في المجال الفكري الشباب على الاهتمام بحركة النهضة الثقافية . تأسست الجمعيات الأدبية , وأهمها كانت ” جمعية الفنون والعلوم ” التي تأسست في بيروت وكان من أعضائها كتاب لبنانيين كبار تعلموا على يد المرسلين الأميركيين , وكانت نواة الجامعة الأميركية التي تأسست لاحقاً . وبعد ذلك مباشرة ظهرة في بيروت ” الجمعية الشرقية ” التي تأسست من قبل الآباء اليسوعيين و”الجمعية العلمية السورية ” . من خلال المسائل الأدبية والعلمية بدأت الجمعيات المختلفة , التي كانت الطوائف الدينية ممثلة فيها من خلال مثقفيها , تتعاطى المسائل السياسية بتحفظ .
كان بشكل خاص المثقفون المسيحيون في لبنان وسوريا , الذين تعلموا في المدارس الغربية , هم من أطلقوا فكرة القومية العربية , وهو مفهوم مأخوذ من مبدأ القوميات المنتشر في اوروبا في تلك الحقبة وملائم للارساليات المسيحية في الشرق العربي . وبالفعل , كانت الفكرة العربية تؤمّن للمسلمين والمسيحيين أرضية مشتركة يمكنهم التلاقي عليها والتعاون حول خطة سياسية ووطنية .
منذ اواسط القرن التاسع عشر , ركز الشباب المسيحيون في الشرق العربي جهودهم في مجال اللغة المقدسة للقرآن والآداب العربية حيث اصبح عدد كبير منهم مميزين بشكل خاص . هاجر الكثير من اللبنانيين الاخرين الى مصر وأسسوا هناك الصحافة المصرية الحديثة العظيمة, التي كانت المبادرة والموحية لكل الصحافة المستقبلية في البلاد العربية .
وهكذا, كما نقلت فينيقيا بعد عام 1200 ق.م الى الغرب اليوناني – الايجي, الغارق في البربرية, الحرف الأبجدي والثقافة الشرقية التي سمحت للحضارة الهلينية أن تولد وتلمع , في القرن التاسع عشر م. , قام لبنان بدوره القديم, لكن باتجاه معاكس ونقل الى الشرق العربي الغارق في الجهل العلم والثقافة التي أخذها من العالم الغربي الذي كان وقتئذ, وبفضل العرب في اسبانيا, قد قام بنهضته الفكرية .

• المرحلة الحالية
في أيامنا , يعرف العالم أجمع الدور الرائد لبيروت , العاصمة السياسية والاقتصادية والثقافية للبنان الحديث , والذي ما زالت تلعبه في الحياة والنشاطات الثقافية للعالم العربي . وكما في الماضي, فان لبنان ليس مجرد مركز اقتصادي وتجاري . فخارج جامعاتها ومؤسساتها التعليمية وصحافتها ومؤسساتها وأكاديمياتها وجمعياتها الثقافية والعلمية والفنية ودور النشر فيها ومطابعها الحديثة, الخ…، بيروت هي مكان ناشط للثقافة حيث الكتاب والشعراء والفلاسفة والمؤرخين والحكماء يكتبون أو يطبعون بكافة اللغات. اللغة الأم والوطنية هي العربية , لكن اللغات الأجنبية هي لغات الثقافة وأداة لا بد منها للنمو والتطور. ان مركز ورسالة لبنان في الشرق الأدنى جعل اللبنانيين , طوال تاريخهم العريق, يتكلمون ويكتبون بعدة لغات أجنبية . وجد بين أطلال مدرسة في جبيل – بيبلوس, حوالي عام 2300 ق.م, أن واجبات التلاميذ كانت باللغة الأم الفينيقية وباللغة الأكادية ( البابلية ). كانوا ايضا يتعلمون المصرية .
وكموجز سريع للاطار الخاص بالتراث الوطني الذي استلمه اللبنانيون من الاجيال التي سبقتهم في ذاك البلد الجميل لبنان, وهم ورثته ومن يتابعونه .
كنت اريد التكلم ايضاً عن جزء آخر من هذا التراث, الجزء السياسي والعسكري, وهو جزء غير مقيت. اتمنى ان اتمكن من ان افعل ذلك في ندوات لاحقة .
تم التقدم بقوة في تفعيل هذا التراث ابتداء من نهاية الحرب العالمية الاولى . وكما في الماضي السحيق, يستفيد اللبنانيون من الواقع الجغرافي لبلدهم , فيعرفون من جديد الحرية المطلقة والازدهار الاقتصادي. وكما كانت فينيقيا تملك امبراطورية بحرية وتجارية , لبنان ايضا وبفضل اللبنانيين الذين يعيشون في الخارج يملك امبراطورية معنوية واسعة , تمتد على كل بقاع العالم المعروف, وكالمستعمرات الفينيقية, مرتبطة بالوطن الأم بروابط عاطفية تشتد مع مرور الأيام .
الحياة الفكرية والفنية في لبنان اليوم هي خلية نحل من الثقافة حيث تمثل كافة الطبقات وكافة الطوائف وتعمل باتفاق مشترك على بناء ثقافة انسانية جديدة تستحق ماضي بلدنا .وضمن هذا العمل المشترك , يجب أن نعترف أن الجمعية اللبنانية منذ تأسيسها لم تتوقف عن تقديم مساهمتها الجيدة . ويسعدني أن اذكر في هذه المناسبة اسم السيد ميشال اسمر , مؤسس ومدير الجمعية الذي ما زال حجر اساسها .
سوف تؤسس الجمعية لجانا ثقافية , واحدة منها ستعمل بشكل خاص على التراث اللبناني . وستعمل على التعاون مع هيئات أخرى . لقد أمنت الجمعية علاقة جيدة مع ” الاتحاد اللبناني العالمي “. وضمن أشكال هذا التعاون أصبحت الاجتماعات وجلسات العمل مع المجلس العالمي لهذا ” الاتحاد ” واقعا” . مجلة شهرية باربع لغات ” الشهر اللبناني ” صادرة عن الجمعية سيتم عبرها نشر النشاطات الثقافية في الخارج . لدي أسباب لأتوقع الا تتأخر السلطات الرسمية في تشجيع كل مبادرة في هذا المجال, لأن قوة لبنان الحقيقية تكمن في تاريخه وثقافته ونشرها عبر العالم .
الخلاصة
يمكننا ان نخمن الخلاصة التي نستخرجها من هذا الموجز غير الكامل أعلاه . لم ينتم الفينيقيون الى عرق خصوصي اختفى مع الوقت . لقد الفوا مجموعة اجتماعية تشكلت شخصيتها ومهاراتها وفق ظروف البيئة الجغرافية اللبنانية . وبما أنهم تشكلوا ضمن نفس مكان السكن , يمكن اللبنانيين أن يسيروا على خطى اسلافهم . لنثق بأنفسنا , ولنبعد العقد التي ترهبنا . نحن نرى على ضوء التاريخ امكانيات وحدود مبادراتنا . ينير الماضي الحاضر ويشكل المستقبل . وتلخيصا لهذه الحقائق التي أدرجناها أعلاه , كتب احد المؤرخين المشهورين : ” البشر القدماء يشبهون البشر اليوم وأعمالهم لها دوافع تشبه دوافعنا”.