نادية عيلبوني: ملامح كيان علوي في طور الاكتمال/رغيد الصلح: أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

433

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية
رغيد الصلح/الحياة/15 تشرين الأول/15
تذكّر الأجواء المتوترة التي تخيم على سورية وشرق المتوسط راهناً بالأجواء التي سيطرت على أوروبا يوم المباشرة بحصار برلين في ربيع 1948، وبالأجواء التي سيطرت على العالم إبان أزمة الصواريخ النووية الروسية في كوبا ابتداء من 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1962، وبلحظات الرعب التي أعقبت الاستنفارات النووية المتبادلة بين موسكو وواشنطن إبان حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل عام 1973. التصاعد المتزامن في سعة التدخل الروسي – الأميركي وعمقه في سورية، إضافة إلى مقدماته وتداعياته المحتملة، أطلق سلسلة من الذكريات والمناقشات والتكهنات حول احتمال دخول العالم حرباً عالمية ثالثة عبر البوابة السورية.
فقبل أيام قليلة، نشر عدد من المواقع الإلكترونية توقعات لجيم ريكاردز، المستشار في البنتاغون وفي وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي أي) يقول فيها: «انسوا أخطار أوكرانيا وإيران، وراقبوا ما يجري في سورية. إنها ستكون بؤرة الحرب العالمية الثالثة». وأضاف ريكاردز أن «الحال أخطر مما يتصور البعض، إذ إن الحديث لا يتعلق بالنوايا فحسب، بل بإجراءات عملية، إذ يقوم حالياً 16 جهازاً من أجهزة الاستخبارات الأميركية بوضع الخطط لدخول الولايات المتحدة والعالم هذه الحرب»! وفي آخر عدد من أعداد دورية «ذي ناشيونال إنترست» (المصلحة القومية) الأميركية المتعاطفة مع إسرائيل، توقعت دراسة حول الحرب العالمية الثالثة المحتمل أن تبدأ من واحدة من خمس مناطق من بينها سورية بصورة خاصة. وقبل أشهر قليلة، أجرت صحيفة «دايلي تلغراف»، أوسع الصحف البريطانية الرئيسية انتشاراً والمقربة من حزب المحافظين الحاكم، سلسلة مقابلات مع خبراء في العلاقات الدولية والحروب حول الخطر الأكبر الذي يواجه العالم اليوم. وأجاب بعض هؤلاء بالمقارنة بين مسارات السياسة الدولية الراهنة ومساراتها قبل الحرب العالمية الأولى، إذ شبهوا روسيا والصين اليوم بألمانيا في مطلع القرن العشرين عندما كانت تتجه إلى التوسع. وفي حين توقع البعض أن يكون حوض المحيط الهادئ منطلقاً لحرب كونية جديدة، فإن منطقة الشرق الأوسط ظلت المسرح المفضل لدخول الإنسانية المصير المظلم.إلى جانب هذه التكهنات والتوقعات، انتشر كمّ واسع من التنبؤات الدينية الطابع حول النهاية القريبة التي يتجه إليها العالم، من البوابة السورية تحديداً. وفي هذا التحديد ما يضفي على التنبؤات الدينية مشروعية تاريخية، حيث إن مسرح الصراع المستعر دولياً وإقليمياً في سورية كان ممراً ومسكناً للأديان السماوية وما تفرع عنها من فرق وطوائف وجماعات دينية.
اكتسبت هذه التوقعات زخماً كبيراً بعد التدخل الروسي الواسع النطاق في سورية، خصوصاً أنه رافق هذا الحدث تصعيد في التدخل الأميركي في الأراضي السورية. ففضلاً عن الإمكانات العسكرية الكبرى التي يملكها البلدان، وفضلاً عن الأجواء المتوترة التي تطبع العلاقات بينهما بسبب الصراع على أوكرانيا، فإن مجرد وجود قوتين عسكريتين أجنبيتين في بلد يعاني انهيارات على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية كفيل بإثارة التعقيدات بينهما حتى لو كانا حليفين. ففي هذه الحالات كثيراً ما تتعرض قوات أحد الطرفين إلى «النيران الصديقة والحليفة» بحيث تتحول هي ذاتها إلى مصدر للتوتر بين الحليفين. وحتى الآن لم يشكُ أي من الفريقين من «النيران الصديقة»، ولكن هناك شكاوى مستمرة متبادلة حول الأهداف المتضاربة التي يتوخاها كل من الطرفين من عملياته العسكرية. فالقوات الروسية تسدد ضرباتها إلى أطراف تعتبرها «إرهابية»، بينما هي في الحسابات الأميركية جماعات «معتدلة»، والعكس بالعكس. ولقد استفحلت هذه الظاهرة خلال الأيام المنصرمة بحيث بات من المعتاد تسمية العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات الدولتين في الأراضي السورية «حرباً بالوكالة».
يعتقد البعض أن الحرب بالوكالة قابلة للتحول إلى حرب حقيقية في بعض الحالات، بخاصة في أجواء التوتر بين أطراف الصراع «الأصلية»، هذا فضلاً عن كثرة الأطراف والجهات التي دخلت الساحة السورية وباتت تتخذ منها مقراً دولياً وإقليمياً لها. ولا ينسى البعض المشاكل الكثيرة، «غير المقصودة» التي قد تطرأ حتى على العلاقة بين القوات التابعة لدولة واحدة. وهذا يعني أن تلافي مثل هذه المجابهات والتوترات التي قد تتحول إلى حروب شاملة يتطلب مستوى من التنسيق والاستعداد غير متوافر على أي مستوى من مستويات العلاقة بين الأطراف المتعددة التي تعمل في سورية.
لقد ذكر بعد القمة التي جمعت بين الرئيسين الأميركي والروسي في نيويورك، أن التنسيق بين القوات الأميركية والروسية في سورية مستمر، وأن الرئيسين يعتزمان توطيده، لكن الأيام اللاحقة لهذه التسريبات الإعلامية أظهرت أن طابع العلاقة بين الجهتين لم يتبدل بصورة ملحوظة. هذه الواقعة كانت موضع نقد في واشنطن وفي أروقة الحكم والسياسة والرأي في الولايات المتحدة. فجيمس ستافريديس قائد القوات الحليفة السابق في الحلف الأطلسي، وعميد كلية الحقوق والديبلوماسية في جامعة تافتس الأميركية، يؤكد غياب التنسيق وتبادل الآراء والمعلومات بين واشنطن وموسكو بصدد الأوضاع في سورية ويعتبره أمراً مثيراً للقلق. يزيد ستافريديس على ملاحظته قوله أنه حتى خلال الحرب الباردة كان مستوى التنسيق التفصيلي بين البلدين أفضل من مستواه الراهن. وتجنباً للأخطار الكبيرة التي يمكن أن تنجم عن انقطاع التعاون بين روسيا والولايات المتحدة، يدعو ستافريديس موسكو للانضمام إلى التحالف الدولي ضد «داعش» الذي تقوده الولايات المتحدة. واعتبر فيتالي تشوركين، سفير روسيا في الأمم المتحدة، مثل هذه الدعوات «إهانة للأمم المتحدة» باعتبار أن من المفروض أن تمر عملية بناء التحالفات الدولية لصيانة الأمن والسلم العالميين عبر المنظمة الدولية، وردّ البعض على انتقاد السفير الروسي المبادرة الأميركية بالإشارة إلى أن روسيا هي الأخرى عملت على تكوين تحالف دولي – إقليمي يعمل ضد «داعش». تجنباً لمثل هذه الثغرات في المواقف الدولية تجاه المسألة السورية، يقترح غوردون براون أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية، وستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد («نيويورك تايمز» الدولية في 14/10/2015) أن تعمل واشنطن بالتعاون مع موسكو على بناء تحالف إقليمي لمواجهة «داعش» ولإعادة السلام إلى الأراضي السورية. من هذا المنظار، يرى براون ووالت أن رفع مستوى التدخل الروسي في سورية قد يوفر، خلافاً لرأي الناقدين، فرصة مناسبة للبدء بهذه العملية التي تساهم فيها قوى دولية وإقليمية معاً.
على أهمية هذا الاقتراح، فإن ما ينقصه هو تحديد طابع العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، والقوى الإقليمية من جهة أخرى. إن ترك هذه القضية معلقة سيثير إشكالات لاحقة لا مسوغ لها. من أجل تلافي هذه الإشكالات، وخلق مناخات أفضل لإيجاد حل للمسألة السورية، فإن من الممكن السير على محورين رئيسيين:
الأول، هو محور تفعيل لجنة رؤساء الأركان التابعة لمجلس الأمن، حيث يتم التنسيق بصورة مباشرة وفي إطار الشرعية الدولية بين واشنطن وموسكو. إن هذه اللجنة ستعمل كأداة للتنسيق بين الدولتين والدول الأخرى ذات العلاقة، ولإطفاء أية توترات قد تنشأ نتيجة أخطاء غير محسوبة وغير مقصودة بين هذه الدول. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفترات القصيرة التي عملت خلالها اللجنة تميزت بنشاط مثمر وذي فائدة. كذلك، فإن من الضروري التشديد هنا على أن تفعيل اللجنة سيعتبر مكسباً كبيراً للتعاون بين الأمم والحكومات من أجل إيجاد حلول لقضايا معقدة مثل القضية السورية.
الثاني، محور مجلس الدفاع العربي المشترك، فالمجلس يضم دول المنطقة التي تملك قدرة على توفير الحلول لمعضلاتها الكبرى. فإذا كان المقصود بالتدخل في سورية الحد من أخطار الإرهاب، فإن للدول العربية القدرة على المساهمة في هذه الحرب عبر قواتها البرية أي القوات التي تتجنب الدول الأجنبية إرسالها إلى المنطقة العربية. ثم إن مجلس الدفاع عمل في فترات وحقق خلالها نجاحات يمكن تكرارها. وبمقدار ما أعطي هذا المجلس من الصلاحيات ومن الوقت والدعم، فلقد حقق، على سبيل المثل، نجاحاً خلال الإعداد لحرب تشرين. وإذا أعطي المجلس الصلاحيات الكافية فإنه يستطيع أن يضطلع بدور مهم في تخليص المنطقة والعالم من شرور الإرهاب.

ملامح كيان علوي في طور الاكتمال
نادية عيلبوني/الحياة/15 تشرين الأول/15
هذا على الأقل ما تشير إليه كل الإجراءات العملية على الأرض السورية، ويأتي التدخل الروسي بهذا الحجم الواسع لتدعيم المسار الذي يتلخّص بعبارة واحدة: «عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة».
هكذا يفكر رأس النظام لحماية وجوده واستمراره نتيجة عجزه الظاهر عن السيطرة على الأرض، وفقدانه أكثر من ثلثي مساحة سورية وتهديد المعارضة المسلّحة آخر معاقله على الساحل، وهو بات يرى نفسه مضطراً لإعادة ترتيب بيته الداخلي الذي لا يتعدى جغرافياً مدن الساحل وما حولها. ولكي يكون العصفور باليد تماماً، لا بد من استدعاء كل أسباب القوة وتركيزها في تلك المناطق التي تعتبر بديموغرافيتها حاضنة طائفية له حتى لا تحلق بعيداً في الطيران! لقد جاء استدعاء التدخل الروسي في لحظات مصيرية حاسمة بالنسبة الى مستقبل النظام ككل. هذا على الأقل ما أدركه أيضاً حكام الكرملين الذين جاؤوا ليدافعوا عن منفذهم الوحيد على المتوسط بعد أن فقدوا منافذهم كافة، وآخرها المنفذ الليبي. الواضح أن القوات الروسية لم تأتِ لتتورط عسكرياً في المناطق السورية التي يحتلها تنظيم «داعش»، وهي لن تتوسّع في عملياتها لتشمل تلك المناطق، ولن تكرر التجربة الأفغانية، فهي جاءت تحديداً للدفاع عن حدود الدولة العلوية المقبلة، ليس حباً بالنظام ولا بالطائفة العلوية، بل لأن قواعدها على المتوسط تقع هناك. هذا كله يبدو جلياً من خلال متابعة المواقع العسكرية التي تقصفها القوات الروسية، فهي لا تتعدى جوار اللاذقية وحماة وحمص وإدلب، تلك المدن التي تعتبر جدراناً بما يستدعي تأمينها بعد تفريغها من سكانها السنة وبالقوة. إيران التي فشلت حتى الآن في توسيع نفوذها في المنطقة، معنيّة أيضاً بوجود دولة طائفية موالية لها لضمان نفوذها الإقليمي في المنطقة، كما لا يستبعد أبداً أن تكون إيران قد أعدت مع النظام السوري وحزب الله سيناريو يرمي إلى اقتطاع مناطق لبنانية ذات أكثرية شيعية وضمّها إلى الدولة العلوية قيد التكوين.
المراقب لسلوك نظام دمشق وإجراءاته الفعلية على الأرض، لا بد من أن يستنتج أن نظام الأسد ما عاد معنياً بمصير سورية ككيان موحد، ليس فقط بسبب عجزه عسكرياً عن الاحتفاظ بها، بل أيضاً لإدراكه المتزايد بعقم الاحتفاظ بمناطق لا يدين سكانها له بالولاء الطائفي، بعد أن غرس خنجره الطائفي في لحمها ومارس عليها عمليات الإبادة والاقتلاع على أسس طائفية. فالجروح في الجسد السوري لا يمكنها الالتئام بوجود نظام يتصرف على أساس مذهبي، ولهذا لم يتبقَّ أمام بشار الأسد إلا خيار واحد ووحيد للنجاة: خلق كيان له على أساس طائفي.
النظام الذي يشعر بالعزلة عن شعبه، بات مدركاً، أكثر من أي وقت مضى، عبثية تبديد قوته العسكرية للاحتفاظ بمناطق شاسعة في سورية لا تدين له بالولاء، وهو بات يعي كذلك أن الاستمرار في االقتال في تلك المناطق استنزاف للقوة يأتي على حساب حماية معاقله الأساسية في الساحل.
كثيرة هي المؤشرات التي تقود إلى استنتاج مفاده تهيئة الأرض لإقامة كيان علوي في الساحل وما حوله، منها ما أعلنه الأسد شخصياً من دون لفّ أو دوران حين قال: «إن الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جواز سفره أو جنسيته، إنما لمن يدافع عنه ويحميه». هذا التصريح الذي تلى محاولة النظام سحب قواته من جبل العرب بحجة امتناع المواطنين الدروز عن مشاركته حربه ضد شعبه، كما اغتيال المعارض الدرزي وحيد البلعوس، بما هو استفزاز للمواطنين في الجبل، لجعلهم ينتفضون ضد مؤسسات الدولة، وفي السياق ذاته أتى سحب القطعات العسكرية من الجبل وإعادة نشرها في الساحل حيث معاقل النظام الأساسية، بالتزامن هذه المرة مع قيام أجهزة النظام الاستخبارية بحملات تطهير طائفي فعلي في بعض مناطق اللاذقية للسنّة، باعتبارهم خطراً وجسداً غريباً وقنابل موقوتة في جسد الدولة الطائفية المزمعة إقامتها، وهذا من دون نسيان انسحاب النظام من مدينة تدمر من دون قتال.
قصارى القول إن النظام لا يريد التقسيم وهو غير مهموم بمصير وحدة سورية. ما يريده فقط اقتطاع الأجزاء التي تهمه منها ليبني عليها دولته.