خالد الدخيل: الأسد من رافعة إيرانية إلى أخرى روسية/الســـيد يســــين: يوتوبيا الإسلام السياسي/عبدالوهاب بدرخان: الحرب بلا رؤية سياسية مشروع لترسيخ الإرهاب

321

الأسد من رافعة إيرانية إلى أخرى روسية
خالد الدخيل/الحياة/04 تشرين الأول/15
مهما قيل عن التدخل العسكري الروسي في سورية، فإنه لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة واضحة: توسيع نطاق الدمار، وحجم القتل والتهجير للسوريين. لن يبقي هذا التدخل على الرئيس السوري بشار الأسد في نهاية المطاف. حاول الإيرانيون على مدى أربع سنوات ونصف تحقيق هذا الهدف، وفشلوا. أرسلوا الأموال، والسلاح، و «الخبراء»، والميليشيات من كل حدب وصوب، وجندوا الإعلام داخل سورية وخارجها. ولم يؤدِّ كل ذلك إلا إلى تأجيج الطائفية، وتوسيع نطاق القتل والدمار والإرهاب. سيقال لكن الأسد بقي. لم يسقط، ولم يتنحَ. صحيح، لكن تأمل في هذا الأمر قليلاً. إذا كان كذلك، فلماذا الحاجة إلى تدخل روسي الآن وبهذا الحجم؟ قبل التدخل الروسي اعترف الأسد نفسه في آخر خطاب له الشهر الماضي بأن قواته منهكة، وتعاني من تراجع كبير بين السوريين في الانضمام إليها. واعترف بأنه لم يعد بإمكان قواته الدفاع عن كل المناطق، وأنها مضطرة إلى التخلي عن بعض المناطق للمحافظة على أخرى أكثر أهمية. ومن حيث أن هذا الاعتراف يأتي من أعلى سلطة في النظام، فهو يعني أن الأمر أكثر سوءاً مما يبدو عليه. في العلن جاء القرار الروسي بالتدخل بعد هذا الخطاب، لكن ما يعرفه الروس أكثر من ذلك بكثير. في الأسبوع الماضي نقلت فيدريكا موغريني المفوضة العليا للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي عن سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، قوله: «تدخلنا العسكري في سورية هو لمنع سقوط النظام السوري». وهذا القول يتفق تماماً مع سياق الأحداث، ليس الآن بل قبل ذلك. فما قاله لافروف لموغريني سبق أن قاله الأمين العام لـ «حزب الله» اللبناني حسن نصرالله لنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عام 2013، بأن ما دفع الحزب إلى إرسال عناصره للقتال في سورية آنذاك قناعته بأن سقوط النظام السوري كان خطراً ماثلاً آنذاك بسبب ما كان يتعرض له من هزائم متتالية، وخسائر في المواقع والعتاد.
هذا يعني أننا أمام رئيس فقد كل المقومات الداخلية للبقاء في السلطة: يحتمي بغطاء طائفي داخلي وخارجي، وبميليشيات من قماشة الغطاء ذاته. حوّل جيشه إلى ميليشيا تقتل الناس، وتدمر المدن، وتحوّل بالنتيجة هو نفسه إلى ورقة تفاوضية في أيدي قوى خارجية. نصف شعبه مهجر، والنصف الآخر إما منخرط في القتال ضده، أو يتعرض للقتل ببراميل قواته. اقترب من السقوط فتدخلت إيران لحمايته. فشلت إيران، واقترب مرة أخرى من السقوط، وها هي روسيا تتقدم لحمايته مرة أخرى. ستفشل روسيا في حماية الأسد كما فشلت إيران. لا شك في أن بوتين لا يقارن دولته بإيران، ولا نفسه بالمرشد الإيراني. روسيا دولة عظمى، وتملك ما لا تملكه إيران، وتستطيع ما لا تستطيعه، هذا صحيح، لكن مأزق الأسد ومستقبله ليسا هنا، ولا علاقة له بكل ذلك. مأزق الأسد مع نفسه أولاً، ومع شعبه أولاً وتالياً. ولغ في دم الشعب السوري من دون حدود أملاً بالإبقاء على جدار الخوف سياجاً له ولحكمه. فقد المظلة الشرعية في الداخل. والآن فقد الاعتراف به إقليمياً ودولياً. لا يتحالف معه حقيقة إلا إيران، والميليشيات التي تمولها لحسابه. هل تتحالف معه روسيا حقيقة، وإلى النهاية؟ هذا سؤال يظل برسم مستقبل الأحداث. من الواضح أن «الرئيس السوري» لم يدرك أن عملية التوريث البائسة التي وصل من خلالها إلى الحكم هي نقطة الضعف التي ظلت تلاحقه منذ اللحظة الأولى لتغيير الدستور السوري عام 2000 حتى يكون ملائماً لسنّه كوريث. لم يدرك أن نظام الحكم الذي أقامه والده، حافظ الأسد، هو من أكثر الأنظمة العربية افتقاراً إلى غطاء شرعي داخلي، وبالتالي من أكثرها حاجة إلى غطاء إقليمي ودولي. هو حكم عائلي يستند إلى أقلية طائفية صغيرة، وليس له جذور في تاريخ سورية على الإطلاق. الأدهى أنه حكم يستظل بنظام جمهوري «بعثي» يتصادم رأساً مع طبيعة تركيبته وأهدافه. كان والده أكثر حكمة، وأعمق إدراكاً لهذه الخاصية. كان يدرك حاجته للجمهورية الإسلامية الإيرانية كنظام يستند إلى الطائفية، ويحتاج إلى تحالفات إقليمية من خارج الغالبية السنّية في المنطقة. تحالف حافظ الأسد مع النظام الإيراني على هذا الأساس، ووفر صراع جناحي البعث العراقي والسوري غطاء لهذا التحالف. كان هدفه المباشر والمعلن عراق صدام حسين آنذاك. لكنه تحالف يهدف إلى ما هو أبعد من ذلك، خصوصاً على الجانب الإيراني. في الوقت نفسه كان الأسد الأب مدركاً أن إيران وحدها لا تكفي لتأمين الغطاء الإقليمي الذي يحتاجه كثيراً. من هنا، تمسك بعلاقاته مع السعودية ومع مصر. وقد نجح في لعب الورقة الإيرانية في الرياض والقاهرة، وفي لعب الورقتين السعودية والمصرية في طهران. في هذا الإطار نجح في الاحتفاظ باستقلاليته. لم يرهن نفسه لأي من هذه العواصم الثلاث.
مع بشار الأسد انقلبت الصورة رأساً على عقب. بات الرئيس رهينة لحلف مغلق مع إيران. همّش علاقاته العربية. لم تعد سورية لاعباً إقليمياً. باتت تعود بالتدريج إلى ساحة لعب للآخرين. عملية التوريث لم تضعف الرئاسة السورية، لكنها أضعفت الرئيس نفسه. شاب من دون تاريخ أو تجربة سياسية. جاء إلى الحكم بعملية أمنية غير معلنة. همش الحرس القديم الذي ساهم مع والده في بناء النظام. متمسك بإثبات نفسه وأهليته للحكم. لكنه لم يحتفظ من إرث والده لتحقيق ذلك إلا بالآلية الأمنية الشرسة. تخلى، أو أرغمه التحالف مع إيران على التخلي عن الإرث السياسي، والخيال السياسي لتحقيق ذلك. ارتبط نظامه بظاهرة مسؤولين سوريين ينتحرون بأكثر من رصاصة، وباغتيالات ظلت تجوب لبنان حتى عام 2010، وبإرسال الإرهابيين إلى العراق إبان الاحتلال الأميركي. ثم انتهى به الأمر بأن قاد سورية إلى أبشع وأطول حرب أهلية عرفتها في تاريخها. باتت سورية مهددة تحت قيادته بالتقسيم. وبات هو في هذه الحرب رهينة للإيرانيين وميليشياتهم. والآن هو في أمس الحاجة إلى الروس لإنقاذه مرة أخرى من السقوط. أمام هذا الواقع سيكون الدمار الذي تخلفه قوات بوتين كبيراً ومؤلماً، لكن مآل مهمتها لن يتعدى ذلك كثيراً. إذا كان هدفه تمكين الأسد من البقاء في الحكم فهذا عبث سياسي يفتقد أدنى درجات العقلانية والأخلاق. لأنه اصطدام لا مبرر له مع غالبية الشعب السوري، ومع معظم الدول العربية، ومع المجتمع الدولي. سيجد بوتين نفسه في هذه الحالة وحيداً في سورية، كما كان سلفه في أفغانستان. لن يقف معه إلا إيران وميليشياتها. وهذه لم تنفع الأسد، حتى تنفع بوتين. أما إذا كان الهدف التمهيد لحل سياسي، فهذا الحل ليس ممكناً مع الأسد، ولا يبدأ بالتالي بقصف معارضيه تحت غطاء محاربة «داعش». هذا غطاء رقيق جداً يشبه كثيراً غطاء «الممانعة» الذي استخدمته إيران وبات عنواناً لفشلها. مع الانكفاء الأميركي أمام بوتين فرصة التأسيس لحل سياسي يعيد سورية إلى أهلها، ويخرج جميع الأجانب منها. لكن، عليه أن يدرك أن سبب فشل إيران قبله هو اصطفافها إلى جانب الأسد ضد غالبية الشعب. ولأنها فعلت ذلك من منطلق طائفي صرف، بات الوقوف إلى جانب الأسد عنواناً لموقف طائفي يعد بالتصعيد والتفجير لا بالحل. في سياق تبرير تدخله العسكري، قال بوتين أن على الأسد تقديم تنازلات حقيقية من أجل الحل السياسي. ستكشف الأحداث قريباً ماذا يعني بذلك. أما السؤال الذي يشغل بال الأسد هذه الأيام فهو: عندما تفشل روسيا مَن الذي سيحميه للمرة الثالثة؟

يوتوبيا الإسلام السياسي
الســـيد يســــين/الحياة/04 تشرين الأول/15
وعدت القراء الكرام بأنني سأشرع من خلال سلسلة مترابطة من المقالات بشرح أبعاد الخريطة المعرفية لثورات الربيع العربي. وذكرت أن «المركز العربي للبحوث والدراسات» بالقاهرة أصدر عام 2014 كتاباً مرجعياً أساسياً بهذا الصدد عنوانه «الخرائط المعرفية لظواهر العالم المعاصر» وله عنوان فرعي هو «سوسيولوجيا الثورة والتحول الديموقراطي». وقد أشرفت على تحرير هذا الكتاب الذي كتبت فصوله مجموعة من الخبراء المرموقين في الفكر السياسي والعلاقات الدولية والنظم السياسية والاقتصاد والتاريخ. وقررت أن أستند إلى بحوث هذا الكتاب في شرح أبعاد الخريطة المعرفية لثورات الربيع العربي.
ومما لا شك فيه أن أبرز ظواهر ثورات الربيع العربي، سواء في تونس أو في مصر هو صعود تيار الإسلام السياسي. فقد رأينا في تونس أن حزب «النهضة» الإسلامي بقيادة الشيخ راشد الغنوشي حصل على الأغلبية في انتخابات المجلس الانتقالي وشكل الحكومة وفي مصر نجح حزب «الحرية والعدالة» الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» في الحصول مع حزب «النور» السلفي على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. وأضاف هذا الحزب إلى انتصاراته السياسية نجاحه في إنجاح مرشح «الإخوان» لرئاسة الجمهورية الدكتور محمد مرسي، وهكذا سيطرت جماعة «الإخوان» على مجمل أركان النظام السياسي المصري، ما سمح لها بأن تطمح عبر «أخونة» الدولة وأسلمة المجتمع الى تحقيق الحلم التاريخي الذي راود الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة وهو استرداد الخلافة الإسلامية عن طريق القيام بانقلابات لا يستبعد فيها استخدام العنف ضد الدول المدنية العربية لتحويلها إلى دول إسلامية تطبق الشريعة تمهيداً لإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية من جديد، بحيث تصبح الدولة المصرية مجرد ولاية من ولايات الخلافة. ومشروع جماعة «الإخوان المسلمين» في ما يتعلق بإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية ليس مجرد استنتاج من خطابها السياسي، وإنما هو قراءة دقيقة للخطاب المؤسسي للجماعة، بالإضافة إلى تصريح الدكتور محمد بديع مرشد «الإخوان» بعد فوز الجماعة بالأكثرية في مجلسي الشعب والشورى بأنه يبدو أن حلم حسن البنا في إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية قارب على التحقق. وأضاف: إنه من خلال خطة التمكين «الإخوانية» سيتحقق هذا الهدف الاستراتيجي وسيصبح المسلمون– كما زعم- هم أساتذة العالم!
والسؤال المهم هنا: ما هو التوصيف الدقيق لهذا المشروع السياسي، وهل يتسم بالواقعية في غمار التحولات الكبرى في النظام الدولي أم هو مجرد «يوتوبيا» أو مدينة فاضلة يسودها العدل كما تحلم جماعة «الإخوان المسلمين»؟
الإجابة أن هذا المشروع الوهمي لا يستند إلى أي تحليل موضوعي للنظام الدولي الراهن الذي تتحكم فيه قوى عظمى كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي التي لن تسمح بقيام إمبراطورية دينية إسلامية. وهي بالتالي مجرد «يوتوبيا» أو حلم خيالي بمدينة فاضلة. والواقع أنني كباحث في العلم الاجتماعي اهتممت منذ سنوات بعيدة بموضوع «اليوتوبيا» واهتممت بتحليل الأسباب التي تجعل بعض المفكرين في عصر بعينه يصوغون «يوتوبيات» وينشرون معالمها في كتيب وقد جددت اهتمامي بهذا الموضوع حين اكتشفت إعادة إحياء كتابات «اليوتوبيا في عصر العولمة».
وملاحظتي الأساسية بهذا الصدد أن جماعة «الإخوان المسلمين» التي تتبنى مشروع إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية تتبنى في الواقع نظرة مثالية خالصة لتاريخ الخلافة الإسلامية وكأنها منذ نشأتها كانت منارة العدل مع أن التاريخ الواقعي يسجل أن الخلافة كنظام سياسي إسلامي مخضبة بالدماء والتي تمثلت في اغتيال بعض الخلفاء وبعد أن قامت الحرب الكبرى بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب وانتصر معاوية بحد السيف الذي أصبح هو رمز تولي الخلافة ونعني من خلال اغتيال الخلفاء وعن طريق مؤامرات القصر، والتي كانت تتعمد إقصاء بعض من يستحقون الخلافة بل وقتلهم بلا شفقة أحياناً.
غير أن هذه «اليوتوبيا الإسلامية» -لو تركنا جانبا تاريخها الدموي- وطرحنا عدة أسئلة جوهرية حول إمكان إعادة تأسيسها في عالم اليوم، لاكتشفنا أن قادة «الإخوان» وفقهاءهم ليست لديهم أي إجابة مقنعة عن هذه الأسئلة.
ويشهد على هذا المساجلة التي دارت بيني وبين الشيخ يوسف القرضاوي أحد الزعماء الكبار لجماعة «الإخوان المسلمين» على صفحات جريدة «الأهرام» المصرية، والتي ابتدأت بمقال لي عنوانه «الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ» وامتدت أسابيع بعد أن تولى الشيخ القرضاوي الرد على انتقاداتي في عدة مقالات بدأت بمقالة حول الحركة الإسلامية بين «حلم الفقيه وتحليل المؤرخ» والتي نشرت في جريدة «الأهرام» في 7/8/1994 ثم أثنى عليها بمقالة أخرى رداً على مقالي بعنوان تعقيب حول مقالي «الإمبراطورية والخليفة» نشر بتاريخ 2/8/1994 ولا يمكن لي أن ألخص هنا نقدي الموضوعي ليوتوبيا الخلافة الإسلامية وردود الشيخ يوسف القرضاوي عليها وقد سجلته بالكامل في كتابي «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» الجزء الثاني «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» الصادر عن المكتبة الأكاديمية في القاهرة عام 1996. وأقنع هنا بإيراد الأسئلة الحاسمة التي طرحتها على الشيخ القرضاوي وفشله في الإجابة المقنعة عن أي منها.
طرحت في مقالي «الإمبراطورية والخليفة» الذي نشر في «الأهرام» بتاريخ 15/8/1994 أسئلة عدة موجهة للشيخ يوسف القرضاوي نصها كما يلي: «هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولو كان بالتعيين من الذي سيعينه؟ هل هو مجلس المجتهدين (الذي اقترحه القرضاوي) أم أنه إيماناً بقواعد الديموقراطية سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطياً؟ وتظل هناك أسئلة: من له حق الترشح؟ وهل لا بد أن يكون من رجال الدين مع أنه لا كهانة في الإسلام ولا احتكار في معرفة الشريعة، أم أن أي مواطن عادي له حق الترشح؟
وهل سيتم تداول السلطة بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية أم أنه ما دام قد جلس على كرسي الخلافة فلن ينزل عنه أبداً؟ فشل الشيخ القرضاوي في الإجابة عن أي من هذه الأسئلة الحاسمة. وقرر في رده تعقيباً على مقال «الإمبراطورية والخليفة» الذي نشر في «الأهرام» بتاريخ 2/8/1994: أقول للأستاذ يسين -بعد أن أورد نص أسئلتي الموجهة إليه- إني لم أفصل ذلك لسببين: الأول أني لم أكتب بحثاً عن نظام الخلافة أو النظام السياسي في الإسلام، إنما كتبت مقالة عن الأمة المسلمة باعتبارها حقيقة لا وهماً، والثاني أنه ليس من حقي أن أحتكر هذا التفصيل لنفسي إنما هو حق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد فيها تختار ما تراه أنسب لظروفها ومرحلة تطورها. وهكذا تهرب الشيخ القرضاوي من الإجابة على أسئلتنا الموضوعية، غير أن تيار الإسلام التكفيري الذي تمثله التنظيمات الإسلامية الجهادية الإرهابية تولت هي بنفسها الرد على أسئلتنا بدلاً من الشيخ القرضاوي. فقد أقام الإرهابي أبوبكر البغدادي «خلافته الإسلامية» الوهمية بحد السيف وعن طريق ذبح الرهائن والأسرى وإغراقهم وحرقهم، وما له دلالة أن الداعية «الإخواني» المعروف الدكتور وجدي غنيم صرح بأنه ليس ضد «خلافة» أبوبكر البغدادي وإن كانت لديه بعض الملاحظات على سلوك الإخوة. وهؤلاء الإخوة هم الإرهابيون الذين افتتحوا عصراً جديداً للتوحش الإنساني!

الحرب بلا رؤية سياسية مشروع لترسيخ الإرهاب
عبدالوهاب بدرخان/الحياة/04 تشرين الأول/15
وفي نهاية السنة الرابعة، أبدى العالم مؤشرات العجز عن إغاثة اللاجئين السوريين، وواصل نظام دمشق إظهار لا مبالاته الكاملة. أبدى المانحون سأماً من حروب غزة واستعجلوا ضوءاً في آخر النفق، فيما يتحدّث الاسرائيليون عن احتمال حرب قريبة. وأي حرب تطول يصبح التمويل المخصص للإيواء والإطعام والتدفئة أشبه بتمويل للحرب نفسها. في الشهر الأخير، برز خطر العجز الإغاثي في لبنان خصوصاً، شعرت المنظمات بجزع بالغ سُمعَت أصداؤه في نداءات استغاثة أطلقتها. وفي المؤتمر الأخير في برلين، اتضح أن الحاجة الى المال باتت أكبر بكثير من عروض التبرعات لمنطقة لا تنتهي صراعاتها. فخريطة الإغاثات المطلوبة تشمل أيضاً بلداً نفطياً مثل العراق، وهي ماضية في الاتساع: سورية، غزة، اقليم كردستان العراق، لبنان، الاردن، تركيا… بشرٌ كثرٌ دمّرت بيوتهم وأرزاقهم وسُوّيت أحياؤهم وحاراتهم بالحضيض، أو اقتُلعوا من مناطقهم وأرضهم وأُجبروا على التشرّد من قلب غزّة لأنهم يزعجون قوة الاحتلال، من الموصل والأنبار لأنهم مسيحيون أو أيزيديون أو سنّة، ومن معظم مدن سورية وبلداتها لأن نظامهم يعتبرهم مواطنين زائدين، ووجبت مساعدتهم على البقاء. بل إن منظمات الاغاثة تواجه الآن واقعاً جديداً، فعليها أن تساعد أيضاً لبنانيين وأردنيين وأكراداً تأثرت أوضاعهم بوجود اللاجئين على أرضهم.
«نفد لدينا الكلام»، قالت فاليري آموس منسّقة الإغاثة في الأمم المتحدة، «لنصف كامل الوحشية والعنف والاستهانة بحياة البشر» في سورية التي أصبحت من «أكثر الأماكن خطورة على الأطفال في العالم»، فأكثر من خمسة ملايين طفل فيها يحتاجون الى مساعدة فورية لأنهم «يتعرّضون للقتل والتعذيب وللعنف الجنسي من جميع أطراف الصراع، وفي الشهور الأخيرة زادت التقارير عن قتل الأطفال وإعدامهم علناً وصلبهم وقطع رؤوسهم ورجمهم حتى الموت، وأصيب ملايين منهم بصدمات عنيفة من هول ما اضطروا لأن يروه». وهذه خلاصتها قبل أن تغادر مهمتها: «أصبح المجتمع الدولي متبلّداً ازاء الأرقام الجامدة والمأزق السياسي»… لم تعد قادرة على التمييز بين النظام السوري و «داعش» وفصائل اخرى، وإذ تقاربت الأحوال زالت الفوارق أيضاً بين «الدواعش» والاسرائيليين، وبينهم وبين «نظام المالكي» وميليشيات ايران. منطقة موبوءة بإجرام أشد فتكاً من «الايدز» و «ايبولا».
بالفعل لم يعد أحد يحصي الضحايا. تجمّد الرقم المتداول عند حدّ المئتي ألف انسان قتيل في سورية، كما لو أنه أقصى ما يتقبله الضمير في مقتلة تدور أمام الأنظار، كما لو أن العالم يعتبره «معقولاً»، «مقبولاً»، شرط أن يتوقف، لكنه لا يتوقف، بل إنه فاق المئتي ألف قبل زمن طويل من اعتماد هذا الرقم المروّع معياراً للفظاعة التي قتلت أي ارادة دولية لمواجهتها. الفظاعة نفسها سبق أن ابتُلعت مراراً في غزة، وفي العراق، من دون أن تحرّك المجتمع الدولي. ماذا عن مئات آلاف المفقودين وما هو مصيرهم؟ وماذا عن اللاجئين في المخيمات، هل يعتقد أحد أنهم يعيشون أم يموتون بشكل آخر؟
كالعادة أفلتت اسرائيل العنان لغرائزها هذه السنة فشنّت حربها الثالثة (خلال ستة أعوام) على غزة، وكرر العالم تركه مجرمي الحرب يفلتون من العقاب، حتى أن هؤلاء لا يترددون في التنبيه الى الأخلاقيات: بنيامين نتانياهو يقول إن اوروبا اذ تعترف بالدولة الفلسطينية لم تتعلّم من دروس «الهولوكوست»، لكن هل تعلّم هو شيئاً؟.. هذا «النموذج» الاسرائيلي فعل فعله طوال العقود الستة الماضية في شيطنة الأنظمة العربية، فغدت سلطات احتلال لبلدانها وشعوبها وصار حكامها، تحديداً في سورية والعراق، نسخاً مقلَّدة من شارون ونتانياهو. يعيب الاسرائيليون على الآخرين نسيان «المحرقة» فيما هم يعيدون انتاجها، وعاب بشار الاسد ونوري المالكي وسيدهما الايراني على عرب وغير عرب دعمهم لـ «الارهاب» فيما كانت الأنظمة الثلاثة تتفنن في تصنيع الوحش «الداعشي» حتى صار لفترة حليفها الرابع في تقتيل السوريين والعراقيين (من كل المذاهب)، ثم راحت تنسب نشأته وصعوده الى مصادر شتى، تارة الى تركيا وطوراً الى اميركا وإسرائيل، ما يؤكد المؤكّد وهو أن الجميع شركاء في ذلك التقتيل، وأن «داعش» صنيعتهم مثلما هو الآن عدوّهم الأول.
الأخطر أن الجميع يبحثون حالياً عن أفضل السبل لاستثمار وحشية «داعش» في خدمة مصالحهم، وعلى رغم أن صناعة السلاح تعيش أكثر مراحلها ازهاراً بعد سبعة أعوام من التراجع (أرقام السنة تقترب من 90 بليون دولار)، إلا أنهم يتلكأون في تقديم الطعام والرعاية الصحية الى اللاجئين (8 ملايين نازح سوري و12 مليوناً في الخارج يحتاجون الى المساعدة، وكذلك نحو مليوني عراقي، عدا أكثر من مئتي ألف غزّي بلا مأوى، وفقاً لآخر تقديرات للأمم المتحدة). وفي غمرة المواجهة مع «داعش»، ينسى الجميع الظروف التي ساهمت في ظهوره، والأسباب التي يقولون إنهم يريدون تبديدها. لكن مجريات الحرب تبدو، على العكس، حافزاً لاستيلاد جيل آخر من الارهاب: «التحالف» ونظام الاسد يضربان معاً في الرقّة، الأول يستهدف «داعش» والآخر معارضيه من المدنيين. ويغير «التحالف» الذي تقوده اميركا على مواقع في العراق ثم يتقدّم الايرانيون وميليشياتهم لغزوها واحتلالها. خلال ذلك، وفي السياق نفسه، كانت حرب اسرائيل (بتأييد اميركي) على غزّة، ثم «الفيتو» الاميركي على أي مشروع فلسطيني في مجلس الأمن» وكأن واشنطن تقول للفلسطينيين إن قبول الاحتلال الاسرائيلي هو أفضل الخيارات المتاحة لهم طالما أن أي مقاومة حتى السلمية مرفوضة وأن المفاوضات أضحت حلقة مفرغة.
مع دخول «داعش» المعادلة، صارت الأولوية لتقتيل أكبر عدد من قادته ومقاتليه، فلا خيار معه سوى إلغائه دوراً ووجوداً، فهو لا يعرض التفاوض ولا أحد يرغب في التفاوض معه. ولعل المواجهة أظهرت «فائدة» وحيدة لهذا التنظيم، اذ إنه وسيلة الكثير من الأطراف لتحقيق مكاسب، فظهوره أتاح للأميركيين عودة غير مستَحَقَّة كـ «منقذين»، وسوّغ للإيرانيين تدخلاً أكثر سفوراً وفجوراً كـ «محاربين ضد الارهاب»، وفتح للأتراك بازاراً يساومون فيه على مكانتهم ودورهم كـ «قادة الاسلاميين» في الاقليم، فيما كرّس غياب العرب أكثر فأكثر، حتى أن «الحرب على داعش» باتت مدخلاً لتحديد مستقبل سورية كبلد موحّد أو مفكك، وكذلك مستقبل العراق. كما لو أن كل كلمة في اسم هذا التنظيم تلغي ما قبل وما بعد، فلا هو «دولة» ولا هو «اسلامي» ولا هو «العراق» أو «الشام». أما إضعافه والقضاء عليه فقد يكونان ارهاصاً لإنشاء كيانات عدة بمثابة «مكافآت» للدول النافذة في الاقليم، طالما أن دستور عراق ما بعد الاحتلال الاميركي يمنح الحق في «الفدرلة» كترجمة عربية خاطئة لـ «الانفصال»، وطالما أن خطة ستيفان دي ميستورا تلحظ امكان انشاء كيانات لا مركزية غير مرتبطة بأي مركز. أما اسرائيل فقد تكون مكافأتها بالمساعدة في تصفية قضية شعب فلسطين وأرضها. ما الهدف من الحرب الراهنة، أهو القضاء على «داعش»، ثم ماذا بعد؟ لا شك في أن عدم الوضوح بالنسبة الى «ما بعد» يلقي بظلال قاتمة على «وحدة» الهدف. فما نعتقد أن اميركا وايران تحاربان من أجله قد لا يكون واقعياً، فكلاهما تحارب خارج أرضها، وفي اتفاقهما أو اختلافهما إشكالات تتعلق بالشعب والأرض اللذين تريدان طرد «داعش» منهما. وبالنظر الى ما هو جارٍ، فإن الحرب، من رؤية سياسية للعراق وسورية وكذلك لفلسطين، تبدو منذ الآن وصفة لخطرين مستقبليين: أولهما ان المعاناة الانسانية للاجئين والمهجّرين لن تنتهي قريباً، بل ستتفاقم وتؤدي الى مآسٍ أكبر، والآخر أن هذه المآسي معطوفة على «انتصار» تسجّله ايران ستعني ترسيخاً وتجديداً للإرهاب أياً تكن تسمياته…