د.مصطفى علوش: قيصر روسيا وتركة رجل الشرق الأوسط المريض/الـيـاس الزغـبـي: أوهام المراهنين على القيصر

437

قيصر روسيا وتركة «رجل الشرق الأوسط المريض»
د.مصطفى علوش/04 تشرين الأول/15
«من أية الطرق يأتي مثلك الكرم أين المحاجم يا كافور والجلم جاز الألى ملكت كفاك قدرهم فعرفوا بك أن الكلب فوقهم» (المتنبي)

في أواسط القرن التاسع عشر كانت الإمبراطورية العثمانية في طريقها إلى التفكك بعد الترهل الطبيعي الذي يطرأ على الممالك الواسعة، مضاف إليه بروز النزعات القومية في أوروبا وتداعيات الثورة الفرنسية والحملات النابوليونية في الشرق والغرب والثورة الصناعية التي لم تتمكن ولم ترغب السلطنة بمواكبتها حتى لا تتداعى سلطتها، فتهاوت سطوتها السياسية والعسكرية، وتدهور تماسكها الإداري والإقتصادي، وبدأت الثورات الإنفصالية تعم أطرافها حتى في مناطق إسلامية صافية كمصر مثلا التي أصبحت مملكة مستقلة بعد أن أصبحت تحت راية محمد علي باشا ومن خلفه من «خديويين«.
في مدينتي هناك الكثيرون من النخب الذين يندبون ويترحمون على أيام السلطنة العثمانية ويعتبرون انهيارها مؤامرة يهودية صليبية على المسلمين، لكن الواقع أن انهيارها كان حتميا في دولة استبدادية بقيت فيها الأمية الكاملة فوق 95% من سكانها مطلع القرن التاسع عشر في حين كانت 40% عند الرجال و60% عند النساء في بريطانيا. ما لنا وهذا الجدل الذي سيزيد من الحانقين مني الآن، المهم هو أن قيصر روسيا «نقولا الثاني» دعا دول أوروبا في سنة 1853 إلى اعتبار السلطنة العثمانية بمثابة «رجل أوروبا المريض»، وأن هذا المرض لا شفاء منه، ومن ثم حاول استدراج بريطانيا العظمى بالذات، والتي كانت القوة الإقتصادية والعسكرية الأعظم في ذاك الزمن، إلى اقتسام التركة العثمانية من خلال شن حروب عليها، وفي جبهات متعددة. قيصر روسيا الذي كانت إمبراطوريته تمتد على حوالى خمسة عشر مليون كيلومتر مربع بين آسيا وأوروبا، كان يطمح لمد سلطانه إلى البحار الدافئة وذلك عبر مناطق خاضعة تحت الحكم العثماني. بالطبع، وكما يحصل اليوم، دخل العنصر الديني على الخط وأعلنت الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية مباركتها للحرب لتحرير المسيحيين والأماكن المقدسة من حكم مسلمين.
بريطانيا سنة 1853 كان لها مشاريع أخرى، فقد كانت تنظر بقلق شديد إلى تمدد الإمبراطورية الروسية في الشرق الأقصى وفي الصين تحديدا، أي على تخوم الملك الذي لا تغيب عنه الشمس، لذلك لم تكن ترغب في تشجيع القيصر الطموح على المزيد من الفتوحات. كان القرار، وبالتفاهم مع فرنسا وسردينيا (إيطاليا)، دعم العثمانيين في حرب القرم الدموية الشهيرة، وبالتالي إنهاك الإمبراطوريتين الجارتين اللدودتين في الوقت ذاته.مع أن روسيا تلقت درسا قاسيا في تلك الحرب التي دامت سنتين (وشهدت بالمناسبة انطلاقة مهنة التمريض على يد «فلورنس نايتنغيل») ، فهزمت واستسلمت في معركة «ستافروبول»، إلا أن السلطنة لم تخرج منتصرة، على الرغم من البطولات الأسطورية التي سجلها جنودها، فوقعت تحت وصاية الدول التي ساعدتها وفقدت مساحات واسعة من سيادتها.
بشار الأسد، بفساده ورعونته ونزقه، جعل من سوريا «رجل الشرق الأوسط المريض»! وضع سوريا منذ سنه 2005 تحت وصاية إيرانية متمادية، فتحولت مناطق واسعة منها إلى مستعمرات إيرانية يحكمها الحرس الثوري وأتباعه، وذلك أصبح أشد وضوحا بعد فشل شبيحته في قمع الثورة.
اليوم أصبح واضحا أن منظومة الحرس الثوري، ومعها إنكشارية «المرشد شاه»، فشلت في المحافظة على هلال الولي الفقيه، فتم كسره في سوريا والعراق تواليا، وأصبح مشروع توحيد هذه المناطق تحت الراية الإيرانية من المستحيلات. بالتالي، فإن معارك القصير والقلمون والزبداني التي أقحم بها «حزب الله« لم تكن إلا من ضمن الخطة «ب» في برنامج الحرس الثوري لضمان شريط يمتد من دمشق إلى حمص وصولا إلى الساحل السوري، بعد أن أيقن الجميع استحالة إعادة وصل الهلال الشيعي.
قيصر روسيا الجديد كان ينتظر إنهاك الإمبراطورية الفارسية وأتباعها، وفي الوقت ذاته أن يعلن الغرب إفلاسه في إيجاد حل للقضية السورية بعد تردد قادته في اتخاذ القرار المناسب لوقف حمام الدم وسيل اللاجئين، ليدخل هو بقوة وحزم لفرض رؤياه في سوريا، وربما أكثر!
اليوم يبدو أن تقسيم سوريا أصبح أمرا لا مفر منه، ومن المرجح أن الأسد وحصته سيكونان من نصيب القيصر الروسي ولن يبقى للشاه الإيراني إلا الفتات وستخرج إيران من «المولد بلا حمّص» بعد أن فشلت استراتيجية اللعب على حافة المذهبية والطائفية والفوضى والتطرف في المحافظة على إمبراطورية بدت مكتملة منذ بضع سنوات، اي قبل الثورة في سوريا وتمدد «داعش« في العراق .
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»

أوهام المراهنين على القيصر
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/03 تشرين الأول/15
الآن بدأت تتّضح خلفيّات المواقف المتشدّدة والمتطرّفة في لبنان، عند فريق “حزب الله” وملحقاته، ورهاناته الميدانيّة، عبر مؤشّرات ثلاثة:
–  هدنة الزبداني والفوعا وكْفريا، ليس فقط كنتيجة عجز النظام السوري و”حزب الله”، بل أيضاً كمناورة لكسب الوقت تحضيراً لتغيير ميداني ما.
–  إشارات حسن نصرالله عن تغييرات مرتقبة لمصلحة المحور الذي ينتمي إليه.
–  الرسالة التي نُقلت إلى ميشال عون من بشّار الأسد، ويطلب فيها “الصمود حتّى تشرين”، ولجوء عون على أثرها إلى تكرار قوله إنّه على “الخطّ الرابح”.
لا شكّ في أنّ هذا الرهان سيؤدّي إلى تشنّج أكبر لدى أصحابه، بحيث أنّ الحكومة وطاولة الحوار ستكونان الضحيّتين المباشرتين، بشلّ الأُولى وعرقلة الثانية أو نسفها. ولم تَعُد مسألة ترقية بعض العمداء سوى مشجب يعلّق عليه الفريق المراهن على “انتصاره” الجديد حجّة التعطيل والنسف. وإذا سمح الفريق نفسه بالبقاء الصوري للحكومة والحوار معاً، فلن يكون ذلك إلاّ من باب الإلهاء والتمويه في انتظار قطف ثمار تطوّرات سوريّا، أو من باب “العفو عند المقدرة”، طالما أنّه واثق من “الانتصار”. ومعلوم أنّ لا مقدرة ولا عفو عنده. لكنّ نشوة هؤلاء غير قائمة على أسانيد ثابتة وراسخة، بل في جوهرها هي أمنيات سياسيّة سترتدّ على أهلها عندما تصطدم بخيبة محقّقة. ففي قراءة أوّليّة وبسيطة، تبدو إيران وأدواتها في سوريّا ولبنان في الخطّ الخلفي، وتتقدّم روسيّا المشهدين السوري واللبناني. وفي استراتيجيا موسكو ملفّات معقّدة تتجاوز مصلحة طهران ودمشق والضاحيه والرابيه بكثير.
وقد بدأ المشهد يقدّم موسكو في مركز القائد، وجميع الآخرين من “حلفائها” في موقع المَقود. للأُولى القرار الاستراتيجي من الجوَ وفي غُرَف العمليّات، ولسواها التجنيد والتحشيد على الأرض لتنفيذ عمليّات بريّة، وحصاد القتلى والخسائر. وشتّان ما بين الرؤية الواسعة من فوق والضيّقة من تحت.
وبغضّ النظر عمّا إذا كانت موسكو تفرّدت بقرار الحرب في سوريا أم نسّقته مع واشنطن وباريس وتركيا وسواها، فإنّ ما يجري يضع المشروع الإيراني في جيب روسيا، وقد تنفّذ شيئاً منه، أو تتخطّاه، أو تحقّق نقيضه. وفي الاحتمالات الثلاثة ستكون هناك عمليّة توظيف لإيران و”حزب الله”، والموظّف يعمل لقاء راتب وليست له يد في قرار عمله ومصيره. لا غرابة إذا رأينا ذات يوم في المدى المتوسّط السفير الروسي في بيروت يتقدّم المشهد السياسي أمام زميليه الإيراني والسوري، وليس مستبعداً أن نرى معادلة “س – ر ” جديدة بين السعوديّة وروسيّا بمباركة أميركيّة، قد تكون “سرّ” التفاوض الجديد حول أزمة لبنان وانتخاب رئيسه.
ما تقوم به موسكو الآن في سوريّا يضخّ الكثير من المياه تحت جسور إيران وأذرعها اللبنانيّة. حتّى ولو كان بوتين يرسم من الجوّ خريطة “الدويلة البحريّة الغربيّة”، فإنّه لن يقدّم الرسم لغيره، وربّما لن يقدّمه لبشّار الأسد نفسه الذي لم يعد مؤهّلاً لحكم الدويلة التي تضع روسيّا حدودها.
وفي أيّ حال، ستكون دويلة طوليّة من شمال اللاذقيّة إلى دمشق وأطراف الجولان بمساحة لا تتعدّى 15% من مساحة سوريّا، وبعمق لا يتعدّى 30 كيلومتراً في حدّه الأدنى و100 كلم في حدّه الأقصى، ولا يتجاوز عدد سكّانها 8 ملايين بمن فيهم أقليّات شيعيّة وسنيّة ومسيحيّة.
وسيدرك “حزب الله” ومن ورائه إيران أنّ كسر التوازن التاريخي اللبناني لضمّه إلى الدويلة سيبقى مجرّد وهم، كما أنّ تغيير ديمغرافيّة العمق السوري في اتجاه العراق وهمٌ آخر. لذلك، ستكون “الدويلة البحريّة” محاصرة من الشرق والغرب، وكخيمة صيفيّة تُطوى مع بدء هبوب الريح واشتداد العصف. وحتّى لن تكون لها حظوظ إسرائيل في حضانة العالم. أوهام كثيرة يعقدها فريق “حزب الله” في لبنان، تبدأ من كرسي بعبدا وتنتهي بالاتحاد مع الدولة الطوليّة الموعودة. فلا كرسي بعبدا دانية القطاف، ولا كونفدراليّة دويلتين علويّة وشيعيّة ممكنة التحقّق. والأشدّ حماسةً من بين جميع المراهنين على “الحرب الصليبيّة” الروسيّة في سوريّا، هم المسيحيّون الذين يدغدغهم وعد خادع بالخلاص. وفي لبنان منهم الكثير. عساهم لا يرتطمون بخيبة جديدة من العمليّة القيصريّة التي يقودها قيصر جديد.