سمير قسطنطين: الكنيسة والحراك ضد الفساد/جوزف باسيل: نتائج جلسات الحوار/عايدة الجوهري: في أسباب القلق على الحراك اللبناني

352

الكنيسة والحراك ضد الفساد
سمير قسطنطين – وزنات/النهار/23 أيلول 2015
في خضم الحراك المدني المتعدِّد الجانب سألتُ نفسي “أين هي الكنيسة مما يجري؟”. سؤالي ليس استنطاقياً ولا اتهامياً ولا تخوينياً، لا سمح الله. سؤالي محضُ استفهامي. في الوقت عينه أنا أُدرك أنّ الكنيسة لا تقدر أن تغلق الطرق بأكياس النفايات، ولا أن ترمي قناني مياه فارغة على رجال الأمن، الأمر الذي ليس مطلوباً من أيٍّ كان. وليس من لياقات الكنيسة أن تشتم الآخرين، أو أن تستعمل العبارات النابية ضد مواطنين أو مسؤولين. وليس من المُرحّب به أن تتورّط الكنيسة في اشتباكات في الشارع أو أن تتماهى مع هذا الطرف السياسي أو ذاك. ولا تقدر الكنيسة أن تقتحم مبنى وزارة أو أن تحاصر وزيراً داخل مكتبه. هذا كُلُّه أفهمه وأؤيّده وأتوقعه. وفي الوقت عينه، أسأل: “وما هو موقف الكنيسة من الفساد في البلد”؟ أُدرك كلّ الإدراك أنّ الكنيسة لا تستطيع وأنّه من غير المطلوب منها الانخراط في العمل السياسي اليومي واتخاذ المواقف السياسية الصارخة والتسبُّب بإحداث شرخٍ بين المؤمنين. لكن “أَوَليست الكنيسة هي ضمير العالم؟”، وأذهب بسؤالي إلى ما هو أبعد من ذلك، وماذا يضير الكنيسة إن بادرَ خمسة وعشرون كاهناً وراهباً وراهبة إلى الاعتصام في الشارع ضد الفساد؟ الكنيسة لن تطالب بإسقاط النظام لأنه مطلبٌ غير مضمون التبعات، ولن تنادي باستقالة الحكومة، لأن الكنيسة لا يمكنها أن تكون مع الفراغ العدمي، لكن ألا يحق لنا أن نتوقع من الكنيسة أن تقول بصوتٍ صارخٍ “كفى فساداً”؟ وإذا كانت ساحة رياض الصلح أو باحة اللعازرية أمكنةً مثيرةً للجدل فليعتصم أهل الكنيسة في مكانٍ آخر، لكن لتَرفع الكنيسة صوتها بحكمةٍ وبجرأة في آنٍ معاً، فهي إن فَعَلت ذلك لن تثير نعرات طائفية أو حساسياتٍ مذهبية. الكنيسة علّمَت الناس في مدارسها حُسن الكلام والإصغاء أيضاً، وهي لن تُخطئ في التعبير إذا أقدَمَت. في تبنّيها موضوع محاربة الفساد ستُزعج الكنيسة كل الأطراف السياسية لكن أحداً لن يستطيع اتهامها بالانحياز إلى 8 آذار أو 14 آذار. الكنيسة تدرك أنّ البلدَ منهوبٌ وأنّ المال العام مهدورٌ، وأنّ كل ذلك يؤدّي إلى هجرة اللبنانيين من بلدهم، وتحديداً المسيحيين منهم. فماذا تنتظر إذاً؟ لماذا لا تُقدم؟ هي دعوة لأهل الكنيسة من المكرّسين والمكرّسات للاعتصام السلمي الحضاري ضد الفساد. إفعلوها أينما شئتم وكيفما شئتم وادرسوها جيّداً قبل الإقدام عليها، لأن الكنيسة لا تستطيع أن تُخطئ بأي خطوةٍ متهوّرة، لكنّها وفي الوقت عينه لا يمكنها أن ترى كل هذا الفساد ولا تنتفض. إذا انتفضت ضد الفساد تحديداً ستجد أنّ كلّ الناس معها، المسلمون قبل المسيحيين، وأهالي الجنوب والشمال قبل أهالي كسروان والمتن والبقاع. فلماذا الانتظار؟!

نتائج جلسات الحوار
جوزف باسيل/النهار/23 أيلول 2015
ينتظر قسم من اللبنانيين أن تصدر عن جلسات الحوار قرارات سياسية تتعلق مثلاً بانتخاب رئيس للجمهورية أو اجراء انتخابات نيابية، سواء بعد اقرار قانون انتخابي، وهذا مستبعد، أو من دونه… لكن معظم اللبنانيين لا يتوقعون شيئاً من هذه الجلسات… أما إذا ما صدر بيان أو اعلان ما أو ما شابه، فإنه يبقى حبراً على ورق، فضلاً عن ان احداً لا ينتظر ان تتوصل جلسات الحوار الى حلول لمشكلات المواطن الحياتية. ليس لأن المتحاورين يشعرون بأنهم اكثر رفعة من البحث في هذه الصغائر فحسب، بل لأنهم عاجزون عن ايجاد الحلول، الا اذا تحولت محاصصات بينهم يمكن الاتفاق عليها، فتصبح سهلة الحل.
هل ترفع النفايات من تحت انوفنا؟ هل تتحسن الكهرباء، بحيث ندفع فاتورة واحدة للدولة فقط؟ هل تبنى السدود وتؤهل شبكة المياه كي تصل الى بيوتنا نظيفة، فلا ندفع ثلاث فواتير للمياه؟ هل تجد حلاً لقضية العسكريين الأسرى؟… مئة هل يمكن طرحها والتساؤل في شأنها، لكن جواباً واحداً لن نلقى.
اذا كان التمنين ان المتحاورين يبحثون في مسألة رئاسة الجمهورية فألف مرة قالوا: انها ليست في يدهم، بل في يد الخارج، اذاً فيم يبحثون؟ أم سيتفقون على قانون للانتخابات النيابية، وقد مرروا سنوات دون أن يتفقوا في المؤسستين الأوليين اي مجلسي النواب والوزراء، فما هو السحر في جلسات الحوار كي يتوصلوا الى قانون الآن؟ لم يكونوا مستعجلين على اقرار قانون جديد، ولا على اجراء الانتخابات، بل على اقرار التمديد فقط. اظهروا انهم في كل قضية سياسية هم مسيّرون وليسوا مخيرين، يتلقون التعليمات في شأنها من دول خارجية عربية أو أجنبية ومن سفرائها – فأي قضية سينجزون اذا لم يرضَ الخارج؟
إذا لم يكونوا قادرين على حل قضايا النفايات والكهرباء والمياه، فهل نصدق انهم قادرون على حل قضيتي الرئاسة والانتخابات النيابية؟ ما هي نتائج جلسات الحوار الثلاث التي انعقدت في المربع الامني في ساحة النجمة؟ إن النتائج التي ظهرت على الارض، وكانت أهم من تصريحات المتحاورين الذين لم يتوصلوا الى شيء، هي:
– التعدي على الناشطين في التحرك المدني واعتقال العشرات منهم. – ارسال البلطجية للتعدي على المعتصمين امام مبنى وزارة البيئة، والمضربين عن الطعام الذين كانوا ينقلون الى المستشفيات لاسعافهم. وعمد المعتدون الى رشق المعتصمين بالحجارة وبكل ما طالته أيديهم فجرح عدد كبير منهم، فيما عناصر مكافحة الشغب وقفت تتفرج على مسرحية التعدي. – زحمة سير خانقة على كل مداخل بيروت ومحيطها، أدت الى عرقلة المواطنين من الوصول الى وظائفهم واعمالهم. – اختراق الحركة الشعبية بتصعيد التوتير الطائفي واثارة التوتير المذهبي، فضلاً عن اختراقها بمن يثير الشبهات حولها ويدفع الى الترهيب من الانضمام اليها، المحاولات لم تنجح لكنها ستتكرر، وإن اخفقت حتى الآن. بعض النفوس الضعيفة سيقع في المخطط له، لكن الغالبية صارت اكثر وعياً وصلابة. إنّ تداعي المواطنين الى رياض الصلح السبت الماضي، رفضاً لمقولات “ابو رخوصة”، وبينهم كثيرون من أهل بيروت الأصيلين، يثبت أن أسواق بيروت قبل “سوليدير” كانت تجمع كل الناس من كل الطبقات والطوائف والمناطق، وكانت غالبية روّادها من الفقراء ومتوسطي الحال، وكانت تنعم بالوفرة والرزق، لأنها كانت تنبذ التفرقة والبغضاء اللتين يشيعهما حالياً أرباب المال. فقد بدا واضحاً في كلام “ابو رخوصة” الحقد الطبقي على الفقراء مظهِّراً بكلام عنصري انه يحتقرهم وليس يفقرهم فقط. هذه كلها من نتائج ثلاث جلسات للحوار، فنتمنى ألاّ تأتي نتائج الجلسة الرابعة أكثر سوءاً.

في أسباب القلق على الحراك اللبناني
عايدة الجوهري/الحياة/23 أيلول/15
نكتبُ الآن وهنا، لأنّنا قلقون على مآل الحراك المدني الذي كان لمُطلقيه فضل إخراج أصوات اللبنانيين الحانقة المكتومة، ورجّ عقول المتذبذبين ومشاعرهم، وإعادة الحياة للموات السياسي، وإحياء الآمال الشعبيّة المترنّحة. ولأنّنا قلقون على قوام رؤيته المشتركة، المفترضة، واستراتيجياته وآلياته المشتركة، المفترضة، فنحن حيال مشروع واحد مفترض، وُلد من ظروف تاريخية اجتماعية سياسية واحدة، وبواعث انطلاقته واحدة. وأبواب الإصلاح لا تحتاج إلى اجتهاد كبير، فيما التنوّع في الرؤى والاستراتيجيات والآليات، يُبدّد الجهود والضغوط، ويُشتّت الرسائل، ويُنبئ إلى حدّ ما بمخرجات هذا الحراك.
إنّ رهانات اللبنانيين التغييريين المحمومة على الحراك هي التي تدفع إلى وضعه المستمرّ تحت المجهر. عمليّاً، كشف الحراك النقاب عن اختمار حالة شعبية ناقمة على أداء السلطة منذ أمد بعيد، وتنتظر اللحظة المناسبة لتفجير غضبها، لتنفي نفياً قاطعاً أن يكون إصلاح الحال من المحال، وأن تكون الأقدار الكونية هي التي شاءت أن تكونَ الأمور على هذه الشاكلة، وأنّ قوى غاضبة مجهولة تتربّص بالكائنات والموجودات وتُلزمها بالسّكون. كشف الحراك النقاب عن شريحة واسعة من اللبنانيين سئمت لغةَ الجماعة ومفرداتها وتهويلاتها وهلوساتها، وأصنامها المعصومة، كما سئمت بالمقدار ذاته لغة سلطة أبطلت، متآزرة، شرف إدارة شؤون الناس والبلاد، وجوّفت مفهوم السياسة ولوّثته. كما لم يعد يُغري تلك الشريحة تحويلها إلى كائنات استراتيجية تُدمن الانتظار والترقّب والتلقّي، وتتغرغر بالعناوين والأهداف الكبرى، التي تحجب الواقع اليومي وتمنع رؤيته.
في الواقع، انتفضت عشرات الألوف من اللبنانيين ضدّ انحدار قيم الدولة والقانون والحق، وضدّ هيمنة أخلاق الميليشيا والبلطجة والتشبيح على الحكّام وأزلامهم، وعلى بعض المحكومين من باب العدوى، واستفحال الفساد الذي أدّى ويؤدّي إلى إهدار الأموال والأملاك العامّة، وإلى إثقال كاهل الشّعب بديون فلكية، يُسدّدها اللبنانيون، صاغرين، بقوّة الضرائب، والحرمان من المشاريع العامّة. وفي المقابل تُدرك شريحة واسعة من اللبنانيين المنتفضين أنّ مفهوم «حقوق الطوائف» الذي بُني عليها النظام اللبناني لم يُفضِ منذ تأسيسه سوى إلى التحكّم والاستبداد المحلّي المناطقي والوطني، وإلى تحاصص سياسي وإداري ومالي وعسكري واستخباري وثقافي وقضائي، فوقي، وحتّى بشري، إذا نظرنا إلى التقسيمات الانتخابية، وبالتالي إلى تشتيت قوى الشعب وشرذمتها، وإلى قصور في التنمية والتحديث، وإلى تشويه مفهوم العدالة، وإرساء آليات اللاعدالة والتقهقر، ما لم يُؤدِّ هذا المفهوم إلى حروب واحتكاكات وانتفاضات بائسة كاريكاتورية.
لهذه الأسباب تُطالب هذه الشريحة المنتفضة بحق اللبنانيين في الإدلاء برأيهم في كل من القوى السياسية التي تزعم إدارة شؤون لبنان، شؤونها، كي تستشعر هذه التكوينات بالمسؤولية الوطنية ولا تتهرّب من المحاسبة، وتتوقّف عن ادّعائها تمثيل «حقوق طوائفها» وعن ابتزاز طوائفها والطوائف الأخرى من أجل المحاصصة، أو من أجل مشاريع خاصّة، فئويّة، تتخطّى فيها القوانين. إنّ أشواقَ اللبنانيين الغزيرة التي يتعذّر سردها كلّها، تُلخَّص بإرادتهم في تطبيق القانون، القانون الذي يمنع التعسّف باستخدام السلطة من أجل مصالح خاصّة والذي يُعطّل التشريعات التي تُجيِّر هي الأخرى العام من أجل الخاص، وذلك من خلال تفعيل القضاء النزيه الذي يبقى السلاح الأقوى لملاحقة الفاسدين. هل لا يزال ديوان المحاسبة مثلاً حيّاً يُرزَق؟ هل تمّ ولو لمرّة واحدة تفعيل «قانون الإثراء غير المشروع»؟ هل تمّ إنشاء مجلس محاكمة الوزراء والرؤساء؟ وما هي الحكمة من مبدأ «الحصانة» التي يتمتّع بها النواب؟
وحين يحلم اللبنانيون بلبنان دائرة انتخابية واحدة وخارج القيد الطائفي، وبالنسبية، إنّما يُكرّرون ما جاء في دستور الطائف الذي يقول بإلغاء الطائفية السياسية وبتكبير الدوائر الانتخابية وبالنسبية. بعد محاولتنا تقويم مضامين الحراك واقتراحنا هدفاً أوليّاً له وأسباب قلقنا عليه، نختم بالقول إنّه، لقوّته الأخلاقية، المتأتّية من مشروعيّته، أحدث ثغرةً في الجدار السياسي يتعذّر ردمها، لكنّ فوضى الاستراتيجيات العابقة بالنوايا الطيّبة، قد تُفقده زخمه، وقد تُذهب حماسة اللبنانيين المتحلّقين حوله، وتجعلهم يفكّرون أنّ عيش المجتمع المدني الواحد متعثّر، مثل عيش طوائفه، وأنّ مخرجاته غامضة، متدحرجة، غير مضمونة، بل بعيدة المنال، وأنّ المجتمع المدني ليس جاهزاً بعد لتولّي مسؤولية التغيير، بنيةً وخطاباً. إنّ التغيير في لبنان يحتاج إلى قباطنة مهرة، يقودون باخرته في مشوارها الطويل وسط الأعاصير والأنواء بعد أن آن لليل أن ينتهي. إنّها مسؤولية تاريخية تحتاج إلى نضوج وجديّة.