بقلم المفكر والمؤرخ والفيلسوف اللبناني الرحل جواد بولس: لبنان باقٍ

1692

 لبنان باقٍ
بقلم المفكر والمؤرخ والفيلسوف اللبناني الرحل جواد بولس
الفصول اللبنانية 3 – ربيع 1984/نقلا عن موقع جواد بولسhttp://jawadboulos.org/

تقديم
الحقيقة التي كتبها جواد بولس قبل وفاته، وقبل سنوات من الأحداث التي عصفت بكيان لبنان، هي بمثابة الشهادة الدامغة على شرعية هذا الوطن القائم منذ ستة آلاف سنة. وهي بالتالي دحض لكل المحاولات التي تسعى إلى دم لبنان أو قادم أجزاء من أرضه. فها هي المحاولات التي قام بها الآشوريون والفرس ومن بعضهم الإسكندر لجمع المناطق القرية من آسيا الداخلية مع بلدان البحر المتوسط التي عرفت الحضارة المدنية والتجارية في امبراطورية واحدة، أدت إلى المصاعب والثورات والمصائب. فالإمبراطورية الرومانية نفسها شأنها شأن الأمبراطورية البريطانية في الأزمة الحديثة لم تستطع البقاء إلا عندما حافظت كل أجزاءها على طابعها البحري.

من هنا يستحيل على أي مجتمع قري منغلق أن يجب مجتمعاً بحرياً منفتحاً، بالعكس لا يمكن لأي مجتمع بحري أن يجب مجتمعاً قارياً نظراً إلى تضارب النظامين المختلفين إقتصادياً واجتماعياً.

من هنا رهان جواد بولس التاريخي على إستحالة هدم لبنان، ومن هنا رهان اللبنانيين على بقاء لبنان القائم بكل أطرافه، برغم التجاذب والمظلات الحديدية.

س. ع.
يحدد العديد من اللبنانيين نشوء وطنهم الصغير وأسسه التاريخية يعهد الأمير فخر الدين المعني الكبير، ذلك العهد الطويل المجيد الذي إمتد من العام ١٥٧٢ إلى ١٦٣٥، وليس تحديدهم هذا إلا نتيجة حرصهم على تأكيد شرعية هذا الوطن.

وبالرغم من اعترفنا بالقيمة الفعلية لهذا المنطق، يجب ألا ننسى أن حقبة فخر الدين وحكمه الذي شهد قيام لبنان المعاصر هي حديثة العهد نسبياً نظراً إلى تاريخ لبنان العريق. فلبنان أقدم من ذلك بكثير، لأن جذوره العميقة تغوص في العصور القديمة والبعيدة. إنه تجمع جغرافي، إثني او سياسي. وهو يؤلف مع مصر وبصلاد ما بين النهرين أحد أقدم البلدان في العالم. فوجوده وشخصيته المميزة فضلاً عن طابعه الفريد ودوره التاريخي، تبدو جميعها بارزة ومتواصلة بوضوح منذ فجر التاريخ.

إن لبنان هو شرقي ومتوسطي في عن معاً، كما أنه ممر بحري وبري… مما جعل هذه العناصر المختلفة، لا طائفية والإثنية منها، تطبعه بشخصية تعددية في أقرب إلى الشخصية العالمية، وتمنحه هذه الذهنية الديمقراطية الحرة وهذا الدور الوسيط بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب.

إن هذا الطابع الفريد الذي خلف بصماته الخاصة، منذ أقدم العصور، على الشعوب التي إستوطنته إلى أي عنصر أو طائفة دينية انتمت، ميزها عن شعوب البلدان المجاورة.

لبنان كسائر بلدان الشرق غير خلال العصور الغابرة مرات عديدة دينه ولغته دون أن يؤثر ذلك على شخصيته المميزة وطبعه ودوره.

إن الجماعات المضطهدة التي تنتمي إلى مختلف الفئات والأجناس والأديان وجدت في جبال لبنان المضيافة وشعبه المنفتح مناخاً ملائماً لتطوير معتقداتها الدينية وقواعدها الإجتماعية، وخصوصاً مثلها الأعلى في الحرية. ويعتبر قدومها حديثاً نسبياً إذا نظرنا إلى تاريخ لبنان الطويل الذي شهد حقباً مشابهة في مراحل متقاطعة واستثنائية. من هنا يعتبر وجود شعبه الحاضرة نتيجة وليس سبباً لوجوده ودوره المميز.

وكما أن الماضي ينبئ بالمستقبل، فمن المحتمل أن يستمر لبنان بأشكال مختلفة وبأديان ولغات أخرى في تأدية رسالته التقليدية العريقة.

من الخطأ الإعتقاد، كما يحدث مراراً، أن اللبنانيين يتطلعون نحو الغرب بدافع العاطفة الدينية. لأن موقعه وتكوينه الجغرافي الذين يديرانه نحو الغرب يجعلانه يميل إلى هذا ألإتجاه. كما أن مناخه وتدريسه المتوسطية تقربه من بلدان البحر المتوسط.

إن ما يبحث عنه لبنان في الغرب هو الدعم والعون المحتملان كيما يواجه مطامع الشعوب المجاورة، قريبة كانت أو غريبة.

إن ردة الفعل الغريزية هذه هي عند سائر البلدان المحددة من الخارج والتي تحاول إستعادة توازنها عن طريق إقامة أحلاف.

وليس أدل على هذه النظرية من مثال فخر الدين، الأمير اللبناني الدرزي الذي إتجه إلى إيطاليا لإقامة علاقات ومعاهدات مع أمراء مسيحيين من تلك البلاد كيما يتحرر من الوصاية العثمانية.

وفي ظروف ممثلة، لجأ خلفه البعيد الأمير بشير الثاني إلى مصر. كما أن الإسلامية في عهد محمد علي استعانت بفرنسا في صراعها من أجل التحرر من السلطان – الخليفة في الآستانة.

وحتى في العصور التي سبقت ظهور الإسلام والمسيحية نرى فينيقيا أو لبنان القديم المتعدد الآلهة والسامي يلوذ بمصر الفراعنة الحامية ليواجه اشقاءه الساميين في بلاد آرام أو سورية اليوم.

وفي الوقت نفسه، نجد لبنان القديم، وكذلك المعاصر، لا يتردد في انتسابه إلى الشرق عندما يرى في ذلك فوائد حقيقية وصدقات بعيدة عن الأغراض. وهو ما حصل قديماً عندما تحالفات فينيقيا مع بلاد فارس القارية ضد اليونان المتوسطية التي كانت تنافس نشاطها البحري في الجزء الأوسط من البحر المتوسط.

الطروحات والطروحات المضادة
إن خصوم الفكرة اللبنانية، أو بالحري مناهضيها، يواجهونها بالاعتراضات التالية التي لا تخفى عن أحد.

١- أول هذه الإعتراضات ينفي عن لبنان طابعه الجغرافي كمنطقة طبيعية. فلبنان، في نظر هؤلاء، إن هو إلا بقعة جغرافية مجتزأة إعتباطياً من بلد مجاور، من سورية الكبرى التي يفترض أن يؤلف معها كياناً طبيعياً.

وتثبيتاً لهذا الطرح، الذي سيعالج ويستبعد فيما بعد، يأخذون على لبنان عدم محافظته محافظة دائما في الماضي على سيادته واستقلاله، وبخاصة وحدة أرضه الحالية.

وفي الواقع، فمنذ الحرب الأهلية السنة ١٨٦٠ – ١٨٦١ حتى ١٩١٨ ٬ كان لبنان بمثابة إمارة طبيعة للأمبراطورية العثمانية قبل أن يتحول كياناً إدارياً ذا إستقلال داخلي ومصغراً في حدوده الجبلية، فيما ضمت مقاطعته القديمة، بما فيها بيروت العاصمة الحالية، إلى الولايات المجاورة التي كان يحكمها مباشرة ولاة تابعون لسلطان الآستانة.

ويبدو أن أصحاب هذه المآخذ يخلطون بين المصائب والكوارث التي تواكب تطور كل حياة بشرية والموت بحد ذاته. وقد غاب عن بالهم أن الإستقلال ليس وحده مقياس الوجود البشري.

إن هذه الشعوب يمكن أن تجتاز الكوارث حتى لو امحت عن الخريطة السياسية إذا عرفت كيف تحافظ على شخصيتها التاريخية ووجدانها الوطني.

وكما أن الفرد الذي حرم حريته لم يفقد جوهر وجوده، كذلك فأن بلداً إستعاد استقلاله حتى بعد حقبة متفاوتة تحت نير غريب ليس بلداً حديث الولادة.

بالفعل فإن شعبان أو أما حصيلة العرق والأرض والتاريخ لا يرتبط وجوده لا بحدود ثابتة أو دقيقة ولا بعدد محدد من الكيلومترات المربعة. باستطاعته أن يمتد على كل أرضه في دخل حدوده الطبيعية أو التاريخية، كما باستطاعته أن ينكفئ إلى جزء من هذه الأرض، أو حتى أن يمتد خارج حدوده.

وكما يقول رينان (Renan) فإن التاريخ “قد رسم حدود الأمم بطريقة ليست بالضرورة الأكثر طبيعية. فكل أمة تملك أقل أو أكثر. وعليه فأفضل مرجع لنا هو التاريخ وإرادة المناطق لتنجب تحليلات مستحيلة وصعوبات معقدة”.

ويضيف دو لا براديل (De la Pradelle) “ألا يبقى الجسم الإنساني هو هو رغم النمو والإنحطاط والبتر!”

إن بلداناً تعد بالمئات شهدت خلال وجودها مراراً عديدة وخلال حقب متفاوتة سيطرة غريبة على جزء من اراضيها أو على كل اراضيها: مصر، العراق سورية، إيطاليا، بولونيا، هنغاريا، اليونان، إيران، يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، رومانيا، بلغاريا، وحتى روسيا. حتى أن بريطانيا نفسها عاشت تحت السيطرة النورماندية. وكذلك، الأم يكن ملك فرنسا، في وقت من الأوقات، ملك بورج (Bourges) الصغيرة!

إن لبنان مثله مثل كل البلدان الصغيرة. ففضلاً عن كونه ممراً واسعاً دولياً هو كالسفينة التي تتقاذفها العواصف الدورية قد جنح ممراً عبر العصور.

صحيح أن لبنان إضطر في حقب من تاريخه للتنازل عما هو غالٍ من أجل تسوية ما، إلا أنه، كتجمع جغرافي يتحسس شخصيته، لم يغرق كلياً ولا مرة.

٢- إعتراض آخر لا يقل خطأ عن الأول يتصدى لكون لبنان، ظاهرياً، مؤلفاً من تجمعات دينية أو طائفية غير متجانسة تؤلف الأمة اللبنانية الحالية.

إن هذا المظهر الفرد يحمل أصحاب الأفكار المشوشة على استبعاد صفة الوحدة الوطنية عن هذا المجتمع ويدفعهم على ألا يروا في لبنان المعاصر سوى وجود مصطنع يحتضن اقليات اثنية وطائفية.

إن أنصار هذه النظرية تناسوا أن الأمة الحديثة ليست القبيلة أو المدينة القديمة. انها إتحاد أسر روحية، مزيج أعراق وأديان، وحتى في بعد الأحيان لغات مختلفة، تجمعها “إرادة العيش المشترك”. ومهما يكن من عمر الجماعات الطائفية أو العناصر الإثنية التي تؤلف الأمة اللبنانية، تبقى هذه الحاصلة المباشرة لإرادة العيش المشترك الذي يعتبر التعريف الأفضل للأمة الحديثة.

فمنذ إستقلال لبنان، لا يسع عيان كان أن يدعي أن هذه الحياة المشتركة هي نتيجة أي ضغط غريب أو داخلي أو أنها تعرضت لخلل جدي.

ليس لبنان ملجأ “لتجمع بشري معين” بل هو أكثر من ذلك، أنه وحدة جغرافية طبيعية تؤلف كياناً وطنياً حقيقياً. إن العوامل الطبيعية، والإقتصادية، والتاريخية، شجعت باستمرار روح التسامح والحرية التي هي في أساس الدور اللبناني الراهن كموثل طائفي أو متعدد الطوائف، وكملجأ للتجمعات الطائفية هو إذن نتيجة وجود لبنان وليس سبباً لوجوده. كما أن مظهر لبنان اليوم المتعدد الطوائف ولذي يبدو غير متجانس ليس إلا نتيجة دوره التاريخي كبلد عبور واختلاط واتصلات. هذه الظاهرة الفريدة والعارضة يمكن أن تزول في يوم من الأيام بزوال الأسباب التي أوجدتها. فقبل نشوء دولة الأقليات الإثنية والدينية، أثبت لبنان وجوده كوحدة جغرافية وحقيقية تاريخية فهو أقدم بكثير من التجمعات الطائفية التي تسكنه اليوم وسيبقى بعد زوالها.

٣- وأخيراً، ثمة إعتراض ثالث يزعم أصحابه أنه على فرض أن لبنان، هذا البلد الصغير، لاعب بالفعل دوراً وخلف أثراً بارزاً في التاريخ، إلا أن هذا الإفتراض قد تجاوزه الزمن. فالعالم تطور كثيراً ومعه الحضارة الآلية مما ضيق التباعد الجغرافي في الأرض، فما كان قائماً في المدي لم يعد مناسباً مسار العصر.

فإذا جارينا تفكير أصحاب هذه النظرية، رأينا أن المنطق الصارم يفرض علينا أن نقر للعمالقة وللأمبراطوريات الكبرى فقط بحقها في الوجود. وننسى في غمرة ذلك أن الأهمية العددية والاتساعية هي أهمية نسبية. فنحب نعرف أن بلدناً بالمئات ليست متشابهة أو على نمط واحد أو هي نسخ مسحوبة. فهناك البلدان المتوسطة التي تتدرج بين ما هو صغير وما هو كبير. ولا أحد يستطيع أن يرسم حدود الحجم الذي يتيح لبلد ما أن يتمتع بحياة مستقلة. فالأحداث تؤكد وجهة نظرنا. فما من بلد إلا وبجواره بلد أو أكثر أكبر أو أصغر حجماً منه. والأرض ما زالت تحتضن، كما في الماضي، العديد من البلدان الصغيرة التي تواصل وجودها المميز.

بالطبع، العالم يتطور نحو الفدرالية والوحدة العالمية، إلا أن هذا الحد أو شاطئ الأمان هذا ما زال بعيداً، فقبل أن يصل إلى هذا الحد، لا بد للبشرية اى تامر في تجارب عديدة. وإذا كان التقدم التقني الحديث قد دفع بالبشرية شوطاً بعيداً إلى أمام، إلا أنه بقي محصوراً في المجال المدي والمعارف العلمية العلمية دون أن يغير كثيراً من نفسية البشر. فالإنسان ما زال يحتفظ بذهنية أجداده القدامى. والأهواء لم تتبدل. والشعوب كالأفراد بقيت محتفظة بأنانيتها وجشعها كما في العصور الغابرة.

فالرواسب الوراثية والتربوية هي فالواقع أقوى من أنوار العلم، وهي لا تتقدم بنسبة ما يتقدم العلم. فالطبع الذي تكون عبر المدي هو أقوى من الطابع الذي تكون بفضل التأمل والمعلومات الشخصية. هذا التشابك يؤدي في الفرد نفسه، كما في الشعب نفسه إلى تناقضات غريبة يتغلب فيها الماضي إجمالاً.

لا شك، يقول جاك بيرين (Jacques Pirenne) “أن الظروف التي طرحت فيها بين المسائل منذ ثلاثة أو ألفي سنة قد تبدلت اليوم. فالتقنية غيرت العالم بعمق. ومع ذلك، فإني أعتقد أن الناحية البشرية في تلك المشاكل تغيرت أقل بكثير مما يتراءى لنا للوهلة الأولى.

فبالرغم من أن الإنسان إستقاع، بفضل العلم، أن يصبح سيد العالم، وأن يغير كل شيء من حوله، فإنه في غرائزه العميقة لم يتبدل”.

خلاصة
إن أسس لبنان المعاصر هي حقيقة وقع كسائر أسس البلدان التي تكونت طبيعياً.

إن هذا البلد الصغير الذي استاع أن يقاوم الدهور وأعاصيرها هو حقيقة جغرافية وتاريخية، وهو أيضاً كيان طبيعي ووجود قديم مستمر أوجدته الجغرافيا والإثنية والتاريخ. فوجوده وتطوره الألفي يخضعان لمراقبة الأحداث، ويتأكدان بأقدم تاريخ.

إن تأثير البوتقة وظروفها الطبيعية والإقتصادية تغلب على مختلف التجمعات الفريدة والأقليات واللاجئين والمهاجرين بصهرهم لبنانيين حقيقيين وطبعهم بالطابع اللبناني في نهاية المطاف.

إن لبنانيي اليوم، مسيحيين ومسلمين، هم حصيلة هذه البيئة الفريدة، فإذا لم نعتبرهم متحضرين من كل الأجيال التي سبقتهم على هذه الأرض العريقة الجميلة، فهم على الأقل وبالتأكيد، خلفاء الأجيال السابقة ومكملون لها. فالبيئة الجغرافية الثابتة نسبياً، طبعات دوماً بطابعها المميز هذه السلسلة الطويلة من الأجداد وورثتهم بإعطائهم ملامح عامة مشتركة.

من دفاتر جواد بولس

http://jawadboulos.org/?p=1779