محمّد علي مقلّد: العونية ظاهرة أم مهزلة/عمـاد مـوسـى: عون ملك الخسائر/الـيـاس الزغـبـي: الخطّ الرابح

525

العونية ظاهرة أم مهزلة؟
محمّد علي مقلّد/المدن/السبت 15/08/2015
مئات الآلاف في نيسان 1969 نزلوا إلى الشوارع تلبية لنداء وطني. حصل مثل ذلك في مظاهرات مزارعي التبغ في الجنوب، وربما كانوا أكثر عددا يوم حملوا على الأكتاف خليل الجمل أول شهيد لبناني سقط مع المقاومة الفلسطينية.
التظاهرات معانٍ وقيم، والتظاهرات اسلوب مخاطبة بين الخصوم. أسلوب راقٍ وخطير، والمواجهة فيه قد تنزف دماً. الجيوش المستعمرة استخدمت الرصاص الحي والمطاطي وخراطيم المياه لقمع حركات التحرر، وورثت بعض حكوماتنا هذا النهج، فيما رفضه قادة كبار من بلادنا. فؤاد شهاب كان واحدا منهم. كان يحسب حساب التظاهرة بدقة، توقيتها وخط مسيرها وختامها، ولكل احتمال حل ولكل حادث حديث.
انتزعت الشعوب الحق بالتظاهر وجعلته جزءا من حقوق الانسان في التعبير الحر والديمقراطية، وأدرجته في مواد الدستور والقوانين المرعية في دولة القوانين. وهو ككل حق، طريق الوصول إليه شاقة ومكلفة. فهو، بمعنى من معانيه، تعبير نضالي كفاحي يجسد قيم التضحية بالوقت والنفس والمال والدم وأحياناً بالحياة.
الشعب اللبناني قدم نموذجاً نضالياً للتظاهر، منذ سقوط شهداء وجرحى في أجل الاستقلال، إلى مواجهة جيش الاحتلال الاسرائيلي في عاشوراء النبطية، إلى المواجهات الشجاعة مع القوات السورية التي بدأت بالاحتفال الضخم في أربعين الشهيد كمال جنبلاط في ساحة حبيب أبي شهلا، ولم تنته مع الوصاية والنظام الأمني وضحاياه من الجمهور “العوني” وسواهم في السابع من أيار ذات عام.
التظاهر “زفير المقهورين” ضد القهر. من هنا تبدأ الحكاية. البارحة خرجت فرنسا كلها، سلطة ومعارضة ، حكومة وجماهير اعتراضاً على الارهاب. لا معنى للتظاهر إن لم يكن موجها ضد ظالم . جمهور 14 آذار، ومن ضمنهم عونيون، عبروا عن غضب الشارع، الذي تطابقت حسابات القيادة مع حساباته يومذاك ثم أخذت تفترق بعدها، من القهر الذي مارسه النظام السوري ضد كل اللبنانيين.
مع تظاهرة الثامن من آذار بدأ تتفيه التظاهر وتسخيف العمل السياسي. لم تكن تلك التظاهرة تعبيراً عن نقمة ضد سلطة حاكمة، بل انتصاراً للظالم ضد المظلوم. لم تكن غير استعادة شحن النفوس لاستئناف الحرب الأهلية. لو سألت أي مشارك فيها، ضد من واعتراضاً على ماذا نزلت إلى ساحة رياض الصلح، لو سألته في حينه أو البارحة أو غداً، فلن يكون جوابه غير إعلان الخصومة مع أولئك الذين راكموا غضبا واعترضوا على سياسة الاغتيال في وضح النهار. التظاهرة تلك نظمت فرزا بين المظلومين، فجعلت ضحايا ثكنة فتح الله وشهداء حركة أمل، ثم ألحقت بهم معتقلي التيار الوطني الحر، في مواجهة ضحايا الاغتيال السياسي الذي جعله النظام السوري نهجاً علنياً من كمال جنبلاط حتى رفيق الحريري من غير رادع ولا وازع.
لم يقف تتفيه التظاهر وتسخيفه عند هذا الحد، بل أخذ يتردى ويهوي من الرابية إلى حضيضه في التظاهرات العونية. المشارك فيها يتظاهر ضد نفسه، الوزير ضد وزارته، الفاسد ضد فساده. متظاهر الزمن الأول كان يمضي، “دمه على كفه” . متظاهر اليوم بسيارات مكشوفة وعروض أزياء وربات بيوت وخادمات من كل الجنسيات. كان الوزير ينتظر في مكتبه تقارير القوى الأمنية عن سير التظاهرة ليحسن، مع حكومته، اتخاذ القرار بمواجهتها أو بحمايتها، صار الوزير على رأس التظاهرة بنظارات وحركات ومشاهد صبيانية، يشير بإصبعه البلهاء ويافطاته الغبية إلى عدو افتراضي، يتوعده ويهدده كأنما يتسلى و يلهو في لعبة على وسائل التواصل.
ليست اصبعه وحدها البلهاء. الداعون إلى التظاهرة ومنظموها لا يدركون أنهم يستخدمون سلاحاً خطيراً، وأنهم في التظاهرة ينظمون حرباً أهلية ولا يطالبون بحقوق. لا يدركون أنهم لا يمثلون لا إرادة حرة ولا قراراُ حراً، بل مجرد أداة تتلقى الأوامر، يلعبون دور الكومبارس بأدوار ثانوية. أبطالهم مدانون بتصغير القضايا الوطنية وتحجيمها حتى حدود المصالح العائلية والشخصية الضيقة، مدانون بقصور وطائرات خاصة وحسابات بنوك وبمال حرام ينطبق عليه قانون من أين لك هذا. بعضهم مدان بفساد كل إدارة تولاها، وبوعود كهربائية نكث بها، وكلهم مدانون بزج أنفسهم وجمهورهم في حروب دونكيشوتية يخوضونها نيابة عن الآخرين.. وجنرالهم متهم بتضليل جمهوره الذي التف حوله، ذات يوم، ليكون منقذاً له وللوطن من التطرف المحلي، فإذا بتياره يؤوي المتطرفين القدامى ويبتكر صوراً مضحكة للتطرف، وتوسموا في علمانيته خيراً فإذا به تلميذ كسول وبليد للمارونية السياسية، وتخيلوه بطلاً في مواجهة الأجنبي، كل أجنبي، ومدافعاً عن الدولة ومؤسساتها، فإذا به يخذلهم ويمعن في تخريب الدولة وانتهاك الدستور.
التيار العوني ليس وحده الكومبارس، بل كل من يستخدم التعبير السهل والمجاني عن القضايا الكبرى، في الشارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، في تحركات فردية أو محصورة، وكل من لا يحسن التشخيص ولا التصويب فتخبط سهامه خبط عشواء فتسيء إلى القضية وينجو منها المرتكبون.
وليست التظاهرة وحدها التي فقدت معناها النضالي وقيمتها التعبيرية، بل السياسة كلها في لبنان تمضي في انحدار قوي نحو هاوية بلا قرار، على أيدي رجال سياسة صغار في السلطة، ويسار مشرذم يحن إلى ماضيه ويشوه تاريخه ويلتحق بمؤخرة أهل الممانعة وتظاهراتهم، ومعارضة لا تملك أي برنامج غير التنافس مع السلطة على المحاصصة وسرقة المال العام.
لبناننا ، وطن الرسالة، ينتظر من ينقذه من المهزلتين اليسارية والعونية.

عون ملك الخسائر
عمـاد مـوسـى/لبنان الآن/15 آب/15
ينعدم لدى الجنرال ميشال عون أي حسّ نقدي يُفترض وجوده لدى “القائد” المتمرس في خوض المعارك الواقعية حيناً والمُتخيّلة أغلب الأحيان، كأن يفترض عدواً ويخوض ضده معركة بأسلحته المعهودة وشعاراته المتناقضة. فلم يسجَّل له أن اعترف يوماً “هنا أصبت. هنا أخطأت. هنا تهوّرت. هنا هوّرت البلد”. خسائر عون في معاركه السياسية أو العسكرية طوال 27 عاماً لا يمكن إخفاؤها، مع أنها أنها ترد في خطبه كانتصارات ووقفات عز زادته عناداً، وإن يكن بيت المتنبي “وصرت إذا أصابتني السهامُ / تكسرت النصالُ على النصالٍ” أقل بلاغة من واقع الحال وسيرة المحال.
وفي ما يأتي جردة مقتضبة للنكسات والخسائر:
• خسر العماد عون إمكانية الوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية بثلاث مناسبات وبثلاث طرق: لا بالوسائل الديمقراطية وصل. لا بالعصيان وصل. لا بدعم حزب الله والإنتخابات المباشرة من الشعب سيصل. خسر في العام 1988، وفي العام 2008 وفي العام 2004. خسر لقب صاحب الفخامة وحظي بلقب ملك. “لا يحتاج الملك الى مراكز بل هو ملك تَوّجَه شعبه على لبنان. وهو أيقونة وجدانية وطنية لجميع اللبنانيين، ونحن وإيّاكم أولاد ذلك البطل الذي وإن لم يتوّجوه في بعبدا فلن يأخذوا توقيعه بتسليم لبنان إلى الغرباء” قال خطيب التيار الوطني بيار رفول في جحافل المتظاهرين البرتقاليين يوم الأربعاء العظيم.
• خسر البطل ورقة الجيش عندما افتعل المواجهة مع قائده، وذروة الحماقة تلك الجملة “إياك يا جان قهوجي” إختلط الزمن على عون. ظن أنه القائد الحالي للجيش والقهوجي نقيب بين النقباء. ومختصر علاقة عون السيئة ـ من طرفه ـ بقهوجي اختصرها اللواء أشرف ريفي على هذا النحو “سيبقى عون يقاتل العماد جان قهوجي حتى يوصله إلى رئاسة الجمهورية”.
• خسر عون جولات كباش وشطرنج مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، واكتفى بفوز يتيم:كباش جزين في الـ2009.
• خسر مع بطريركين من بطاركة الموارنة: لم يجاره مار نصرالله بطرس صفير في شطحاته، ولم يعفه ما بشارة بطرس الراعي من مسؤولية تفريغ موقع رئاسة الجمهورية.
• خسر الحلم بإمكان التفاهم مع تيار المستقبل. ومن يقبل بعد بالتحالف مع “الدولة الإسلامية ـ إمارة لبنان”؟
• خسر الدعم العملاني لـ”حزب الله”. (تخيلوا الحزب متظاهراً لرفع الغبن عن الموارنة!)
• خسر سوق الجملة مع سليمان فرنجيه الذي بات يتعاطى مع الجنرال عالقطعة.
• فشِل بـ”تقريش” ورقة النوايا مع القوات أصواتاً.
• خسر الشارع المسيحي بشعارات جوفاء تحريضية خادعة.
• خسر برسائله المتدحرجة فتدحرجت عليه.
• خسر بأداء دور المحرر ودور الشهيد.
• خسر ببناء علاقة طبيعية مع الصحافة اللبنانية.
• خسر في تعميم ثقافة اللبيط بشكل واسع (راجع زياد عبس)
وسيخسر الجنرال حزبه في حال فوز جبران باسيل ذي النظارتين البرتقاليتين برئاسة التيار. فوز جبران يعني انشقاقات في صفوف الحزب الفتي وربما حركات تصحيحية.
وفي مقابل الخسائر المحققة والمرتقبة مَنّ الزمن على العماد عون بمستشاري دعاية، يرفع جوزف غوبلز لهم القبعة (من قبره) احتراماً.

“الخطّ الرابح”
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/15 آب/15
لم يكن منتظَراً من السيّد حسن نصرالله ألاّ يكرّر ردحه بـ”الانتصار الإلهي” قبل 9 سنوات، وألاّ يبحث عن عنوان جديد يَعِد به “مجدَّدا” أتباعه من وادي الحجير إلى وديان سوريا وبطاحها. فـ”الانتصار” هو العنوان المستدام، في وضعه وحالته ووظيفته و”تكليفه الشرعي”، وأيّ اعتراف بما دون الانتصار هزيمة، والهزيمة ليست في قاموس وكلاء المهدي وظلّه الوليّ الفقيه، ومِن ورائهما الله! غير أنّ الجديد وراء هذه اللازمة لدى نصرالله هو إشراك الموقِّع معه على ورقة “التفاهم”، النائب ميشال عون، في هذا الانتصار، بعدما مهّد لـ”المكرمة” بتحميل العنوان لهذا الأخير تحت اسم “الخطّ الرابح”. لم تكن صدفة أو زلّة لسان حين أعلن عون قبل أيّام أنّه “على الخطّ الرابح”، فالاشارة أتته جاهزة، واضحة، حاسمة، عشيّة وصول وزير خارجيّة “الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة” محمّد ظريف إلى بيروت، وفي حساب “حزب الله” وشريكه أنّه رسول الميتروبول المنتصر، والحامل أختام العالم بالاتفاق النووي، والوصيّ الجديد، غير المنازَع، على لبنان. لا شكّ في أنّ للحليفَين، نصرالله وعون، أكثر من سبب وحجّة للاعتقاد بأنّهما على “الخطّ الرابح” ومتّجهان إلى “النصر الإقليمي” المؤزّر. ودائماً على قاعدة تحويل الانكسار إلى انتصار، وعلى خلفيّة “حرب تمّوز” نفسها. وليس اختيار وادي الحجير للاحتفال سوى للبحث عن شعار جديد، واختصار الحرب مع نتائجها الكارثيّة بعبارة “مقبرة الدبّابات”. ولكنّ هذه المقبرة تحوّلت إلى واحة سلام مع “العدو الإسرائيلي”، ولا يختلف إثنان حول مدى ارتياح إسرائيل على حدودها الشماليّة التي باتت حالة جولانيّة هادئة، ولا يجد أيّ مراقب في هذا الارتياح سوى نتيجة أرادتها تل أبيب وحقّقتها، فعن أيّ انتصار يتحدّثون؟ ليس هناك حالة هدوء وتسالم وثقة بين “عدوّين” كما هي الآن بين إيران – “حزب الله” من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. فإذا كان “الانتصار” هو بهذا المعنى، فسوريا منتصرة منذ 42 عاماً، وكذلك مصر منذ اتفاق “كامب ديفد”. وكم هي رخيصة دماء عشرات الآلاف في الجولان وجنوب لبنان! أمّا لجهة “النصر الإقليمي” و”الخطّ الرابح”، فلا يعلم أيّ متابع على أيّ أسس وثوابت ووقائع يُقيم هؤلاء حسابهم. على انتصارهم في اليمن مثلاً؟ أو في سوريا والعراق؟ أَم في لبنان حيث تجري الرياح بما لا تشتهي سفنهم؟ إذا كانوا يحسبون تعطيلهم الدولة وشلّهم المؤسّسات وتسييبهم حقوق الناس وحاجاتهم، انتصاراً، فإنّهم حكماً جزء من الخاسرين، يمارسون لعبة شمشونيّة قاتلة، ويقطعون الغصن الذي يستندون إليه. وهذا هو الانتحار بعينه. والمنتحر غير منتصر. لا يقدّم التاريخ أيّ نموذج لمنتصر منتقم أو منتحر. المنتصرون يحبّون الحياة، وهم دائماً إيجابيّون تحت الحكمة المعروفة: العفو عند المقدرة. وحده المأزوم مهزوم. فهل هناك في لبنان مأزومون أكثر من “حزب الله” وتيّار عون؟ الأوّل لا يعرف كيف ينجو بنفسه من المحرقة السوريّة، ومن الجنازات التي لا تنتهي. ويبحث في بيروت عمّا يخفّف من لهيبه، سواء عبر حوار شكلي هنا، أو تسويات وتمرير قرارات هناك تصبّ في مصلحة الآخرين. والثاني علّق نفسه في أعلى شجرة الأزمة ولا يعرف كيف ينزل عنها، أو من يستطيع إنزاله. تبرّع، عن إدراك أو عدمه، بخوض حرب بديلة عن “حزب الله” مع “تيّار المستقبل” وعبره مع السنّة. ولم يترك وصمة طائفيّة إلاّ واستخدمها، وشعارات مخجلة ومخزية إلاّ ورفعها. فهل يكون هكذا “على الخطّ الرابح”، ويعد نفسه وأنصاره المخدوعين بـ”النصر مجدّدا”؟ ما يقومان به لا يشي إلاّ باقتراب الهزيمة وليس النصر. ولم يَعُد شعار الجلوس على ضفّة النهر والتفرّج على عبور جثث الأزمة افتراضيّاً أو خياليّاً. بعد مرور تسع سنوات ونصف على “ورقة التفاهم”، وتسع على حرب تمّوز، وأربع على ورطة “حزب الله” في سوريّا، يتعب الباحث في العثور على فتات انتصار، أو شبه نجاح على الأقلّ، اللهمّ سوى التعطيل وسدّ منافذ الحياة أمام اللبنانيّين. فالعرقلة وسيلة الضعفاء وليس الأقوياء. ما بين الربح الفعلي والربح الوهمي فارق شاسع. الأوّل انتصار والثاني هزيمة. وما بين وادي الحجير والرابيه الكثير من الخيبة والندم. ومقبرة أحلام.