آمال موسى: إردوغان: منتهى البراغماتية المُقنعة/باسم الجسر: الاتفاق النووي والحرب على الإرهاب/عبد المنعم سعيد: القيمة الاستراتيجية لقناة السويس الجديدة

297

إردوغان: منتهى البراغماتية المُقنعة
آمال موسى/الشرق الأوسط/03 آب/15
أجمع مراقبو منطقة الشرق الأوسط على أن الاتفاق الأميركي التركي الأخير، إنما يشكل تحولاً نوعيًا مهمًا بالنسبة إلى الأزمة السورية والمنطقة ككل. ولكن اللافت للانتباه والجدير بالتفكير فيه مليًا هو أن مثل هذا الإقرار بالتطور النوعي، لم يُعبر عنه أصحابه من دول وأطراف مختلفة بنبرة تعكس فرحًا سياسيًا أو رفضًا؛ فالغالب على المواقف الحياد والإيجابية الباردة. قد يكون ذلك بفعل الصدمة من الانقلاب النوعي في الموقف التركي، وأيضًا في حصول هذا الانقلاب النوعي بسرعة شديدة، أي أنه دون مقدمات تمهدُ له أو تلوح به. دون أن ننسى أن هذا الاتفاق قد أُبرم وسط تعقيدات وسينفذ على وقع خلافات صريحة. وهو من ثم، يكون مفتوح النتائج؛ وذلك باعتبار أنه انقلاب كبير في الموقف التركي العام من التنظيمات الإرهابية يضم في جوفه – أي الموقف العام – مجموعة من الانقلابات الأخرى الاضطرارية، التي غير معلوم ردود فعل المنقلب ضدهم، وعلى رأسهم جبهة «النصرة» مثلاً. بصراحة إنه تحول نوعي سريع ومفاجئ. ورغم كل أهميته فإنه من الصعب تحديد تأثيراته على الأزمة السورية والمنطقة. وهو صعب على الجميع دون استثناء، بمعنى آخر ليس واضحًا من سيكون الرابح والخاسر من مثل هذه الخطوة النوعية، التي بالضرورة ستتضارب وتتقاطع في الوقت نفسه مع مصالح الأطراف المحركة والفاعلة في الأزمة الرّاهنة.
إذن نحن أمام منعرج كبير في المنطقة، يُنظرُ إليه بعين المجهول.
طبعًا لا شك في أن ما وُصف بالتحول النوعي في الموقف التركي من تنظيم داعش، له ما يُبرره وما يُشرعه؛ ذلك أن تركيا لم تشارك في التحالف الدولي ضد «داعش» وظلت تراقب وكأنها غير معنية بمجازره. وإذا ما أردنا الصراحة فإن تركيا لعبت دورًا خطيرًا في تقوية تنظيم داعش، حيث لا يخفى على أي دولة أنها كانت بمثابة المعبر لمرور المنتدبين الدواعش، أي أنها راهنت بشكل أو بآخر على ما يمكن أن يحدثه هذا السرطان الإرهابي من تغييرات فوق أرض المعركة، يتمُ استثمارها سياسيًا؛ لذلك كان الصمت يلف الموقف التركي والحياد السلبي إزاء الأصوات المتعالية المندّدة والمحذرة من تنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى. والظاهر أن الحادث الإرهابي الذي عاشته مدينة سورج التركية وسقوط 30 مواطنًا تركيًا قتلى قد أيقظ تركيا أخيرًا من حيادها الظاهر لتنضم إلى مجموعة الدول المحاربة لـ«داعش». وبذلك يكون الحادث الإرهابي المشار إليه بمثابة السبب المباشر للتحول النوعي في الموقف التركي من تنظيم داعش ومن التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وتكمن المشكلة في هذه الجزئية في أن الحوادث الإرهابية كانت كثيرة ومتوحشة ومتواترة وقد عاشتها تونس والمملكة العربية السعودية ومصر واليمن والكويت وفرنسا… وكلها أحداث من الوزن الثقيل ولكنها لم تؤثر في الموقف التركي السابق، ولم تجعله يعيد حساباته، بل إن موقف الحياد الظاهر وعلم غالبية الدول بوجود أصابع تركية وراء توسيع قاعدة أنصار «داعش»، قد جعلاها شبه معزولة في خصوص الحرب على التنظيم الإرهابي. ولم يكتف التحول النوعي بمستوى الإجراءات المتخذة فقط، بل شمل أيضًا الخطاب التركي الرسمي، حيث صرح إردوغان على أثر الحادثة الإرهابية الأخيرة بأن تنظيم داعش يمثل تهديدًا لتركيا وللمنطقة. وفي السياق ذاته ذكر داود أوغلو أن الخطر الذي يُشكله «داعش» يأتي في صدارة الأجندة! إن المؤكد اليوم هو أن مسألة انضمام تركيا للحرب على التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، خطوة إيجابية جدًا، حيث إن تركيا قادرة إذا ما أخلصت النية على تقديم مساهمة مهمة جدًا، خصوصًا أنها تمتلك استخبارات قوية وملمة بالكثير من تفاصيل تنظيم داعش وأسراره، إضافة إلى أن مجرد الانضمام يعني بالنسبة إلى «داعش» إحكام الحصار ضده. إننا نسلك هذا المنحى في الفهم ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الحادث الإرهابي الذي عرفته تركيا أخيرًا ليس أكثر من سبب مباشر لحدوث تحول في الموقف التركي، أي أن هناك أسبابًا أكثر أهمية وقوة، تتمثل في الضغط الأميركي المتواصل على تركيا، وأيضًا الاتفاق الذي أبرمته إيران ومجموعة «5+1» الذي قرأته تركيا قراءة خاصة جدًا، رغم أنه أقل بكثير من السقف الأدنى لطموحات إيران.
إن سماح تركيا لقوات التحالف باستخدام قاعدة إنجرليك لضرب «داعش» إنما يمثل نتاج مجموعة من الأسباب القوية، التي حتمت على تركيا تغيير الاستراتيجية والتغاضي عما حصل للإخوان في مصر ومسألة دعم الدول العربية والإسلامية سقوط الإخوان.
الآن هناك أسئلة كثيرة مفتوحة على مصراعيها: هل النجاح في القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا يشكل حلقة تمهيدية للقضاء على نظام الأسد، أم أنه خطوة تصب في صالح الأسد ويمكن أن تجعله أكثر سيطرة؟ وأيضًا نتساءل عن دور إيران فيما سيحدث في صورة نجاح قوات التحالف في تقليم أظافر «داعش». أغلب الظن أن تركيا حاليًا في منتهى البراغماتية المقنعة، وأنه تحركها حسابات جديدة

الاتفاق النووي والحرب على الإرهاب
باسم الجسر/الشرق الأوسط/03 آب/15
كل اتفاق يخضع للموازنة بين مكاسبه وتنازلات أطرافه. وهذا ما اتفق معظم المراقبين والمعلقين عليه بشأن الاتفاق النووي الأخير بين إيران والدول الكبرى في مقدمتها الولايات المتحدة. فإيران كسبت رفع العقوبات الاقتصادية عنها والسماح لها بمواصلة مشاريعها النووية السلمية، أما الولايات المتحدة فقد أرجأت التسابق الحربي النووي في الشرق الأوسط عشر سنوات. غير أن المآخذ على هذا الاتفاق كثيرة، وتستحق التوقف عندها والتفكير الجدي في عواقبها. فالدول العربية والخليجية التي تعتبر حليفة للغرب وللولايات المتحدة بالذات، اعتبرت أن رفع العقوبات عن إيران سوف يزيد من قدراتها على تنفيذ مشروعها الإمبراطوري في الشرق الأوسط، من العراق إلى سوريا إلى اليمن، مرورًا بحزب الله في لبنان. فالاتفاق يكرس اعتراف الولايات المتحدة والدول الكبرى بدور إيراني كبير في الشرق الأوسط. ولذلك سارعت واشنطن إلى طمأنة أصدقائها العرب على استمرار وقوفها بجانبهم في حال تعرضهم لأي خطر. وقد تكون جادة في وعدها ومخلصة، ولكن ذلك لا يكفي لإقناع إيران بوقف تدخلها في شؤون جيرانها العرب وتحريك أقلياتها.
الرد الأميركي والدولي على هذه المخاوف والتحفظات كان واضحا؛ أن الاتفاق النووي ورفع العقوبات يخضعان لحسن تطبيق الاتفاق من قبل إيران، وأن أي انحراف أو خلل من قبلها سيقابل بردة فعل من قبل واشنطن والدول الغربية. إن إيران تدرك ذلك، ولكن في جعبة حكامها – كما تبين حتى الآن – أكثر من حيلة للالتفاف على العقبات التي تعترض تنفيذها لمشاريعها. كما اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتفاق تنازلاً دوليًا أمام إيران (شبهه بتنازل فرنسا وبريطانيا أمام هتلر في اتفاق ميونيخ عام 1937)، وحجته أن واشنطن ما كانت «لتعوض عنه بزيادة مساعداتها المالية والعسكرية لإسرائيل لو لم تعترف بينها وبين نفسها بأنها أرجأت خطر إيران النووي عليها، بدلاً من إزالته». وهذا الاحتجاج الإسرائيلي لقي تجاوبًا من الكونغرس الأميركي ولكن يبدو أنه (أي الكونغرس) ليس له إمكانية عرقلة تنفيذه. ففي مطلق الأحوال لن يتمكن الكونغرس الأميركي من نقض الاتفاق، ولن تتراجع الدول الموقعة عليه. ولكن تنفيذه لن يكون سهلاً أو خاليًا من المطبات والأزمات. وعلى الرغم من أهمية هذا الاتفاق على لعبة الأمم وتنافسها في الشرق الأوسط أو كمؤشر على مضي الولايات المتحدة والرئيس أوباما في تنفيذ استراتيجيته الجديدة. إن الهم الأكبر أو الكرة الساخنة حاليًا هو تحجيم وضرب «داعش» في سوريا والعراق، وامتداد العنف الإرهابي المتطرف إلى أكثر من دولة عربية. وهي معركة عجيبة غريبة، إذ يلتقي في جانب واحد منها حلفاء وخصوم ما زالوا يرفعون رايات تحالفهم وخصوماتهم، وليس في الأفق أي مؤشر إيجابي أو تصور لمآل هذه المعركة. إن الحرب على الإرهاب وخصوصًا على «داعش» في سوريا والعراق باتت تشكل أولوية دولية وإقليمية، كما أن قضية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب تراجعت على سلم الأولويات، ولا سيما بعد تصلب موقف تركيا من «داعش» ومن الأكراد في الوقت الذي فعلت أنقرة الكثير ولا تزال لإسقاط النظام السوري الذي يقاتله «داعش» و«الأكراد السوريون»، بينما «الأكراد العراقيون» يتعاونون مع حلفاء النظام السوري في مقاتلة «داعش»!
هل سيؤثر الاتفاق النووي الإيراني – الدولي على مجرى الحرب الدولية – العربية المشتركة على الإرهاب؟ أم أن هذه الحرب سوف تؤثر على تنفيذ هذا الاتفاق؟ كلاهما له تأثيره. إلا أن إيران سوف تتمكن جراءه من تحسين أوضاعها الاقتصادية. إن الاتفاق النووي – كما كتب دومينيك دوفيلبان – رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق – حلّ مؤقتًا إحدى العقد في أزمة الشرق الأوسط المصيرية، ولكن العقد كثيرة، وأهمها في نظره مشكلة السلام بين العرب وإسرائيل والنزاع بين السنة والشيعة، وأن الدول الكبرى عليها أن تساعد قدر طاقتها ومصالحها على حلحلة العقد، إنما الحل الحقيقي يبقى في أيدي دول وشعوب المنطقة وبنوع خاص في اتفاق الدول الوازنة في المنطقة وعلى رأسها السعودية ومصر وتركيا.

القيمة الاستراتيجية لقناة السويس الجديدة
عبد المنعم سعيد/الشرق الأوسط/03 آب/15
كل قيمة مضافة لأي من البلدان العربية هي إضافة للقوة الشاملة للعرب جميعًا، وعندما يتحقق ذلك في أوقات المحنة من الحروب الأهلية والإرهاب والموت والخراب والفشل، فإن قيمة ما يُضاف تصبح مضاعفة. ويوم الخميس 6 أغسطس (آب) 2015 سوف يجري افتتاح الممر الإضافي أو التفريعة الجديدة لقناة السويس في مصر مشكّلاً نوعًا من الاستجابة لتحديات الإرهاب، وما سببه عصر الثورات من تراجع، وقد يشكل بارقة أمل إضافية لما هو أكثر. ومن الناحية الاستراتيجية البحتة، فإن قيمة العالم العربي الاستراتيجية قامت على عدد من العناصر يعد منها النفط عادة، ويضاف لها الممرات البحرية مثل قناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز وجبل طارق. وعندما يتم تعزيز طاقة المرور في قناة السويس بحيث ترتفع من 49 سفينة يوميا الآن إلى 98 سفينة أو أكثر حسب درجة النمو في الاقتصاد العالمي في نهاية هذا العقد، فإننا نصبح أمام قفزة في قدرات المرور، سواء بالنسبة للنفط العربي أو بالنسبة للتجارة العربية من وإلى أوروبا وشمال أميركا.
وبالنسبة لمصر، وكذلك بالنسبة للعالم العربي، فإن هذا التطور مضافًا لخط السوميد العربي لنقل النفط من ميناء عين السخنة على خليج السويس إلى سيدي كرير على البحر الأبيض المتوسط، يجعل القيمة الجيو – اقتصادية لمصر وحلفائها العرب منافسة بقوة لكل مشروعات المرور والترانزيت للسلع والبضائع في العالم، ويقطع الطريق على المشروعات الروسية لخلق ممر بحري عبر القطب الشمالي، والأحلام الإسرائيلية لخلق بديل لقناة السويس بين إيلات وأشدود. هنا فإنه يجب عدم تجاهل ثلاثة أمور، أولها أن الإضافة الجديدة لقناة السويس ساهمت فيها دولة الإمارات العربية المتحدة بشركاتها المتخصصة بعمليات الحفر و«التكريك» في المناطق المائية. وثانيها أن شركة «سوميد» أو شركة أنابيب البترول العربية الممتدة لمسافة 320 كيلومترًا تمثل واحدًا من أنجح مشروعات «الوحدة العربية» التي لم تهتز أو تتراجع نتيجة حروب أو أزمات في المنطقة. وهذه الشركة تملكها مصر (50 في المائة) والسعودية والإمارات والكويت (15 في المائة لكل منها) وقطر (5 في المائة). وثالثها أن الإضافة المصرية الجديدة للطاقة الكلية لقناة السويس هي في حقيقتها بداية لمشروع أكبر يتعلق بتنمية محور قناة السويس الذي هو مشروع يزيد من الطاقة البحرية للمنطقة (ستة موانئ جديدة)، كما يخلق قاعدة صناعية للاستخدامات البحرية والتجارية تمثل نافذة متقدمة على ممر مهم للتجارة الدولية بين الشرق والغرب.
وبالتأكيد فإن القضاء على الإرهاب، واستعادة الدولة العربية إلى حالة صحية بعد العواصف التي ألمت بها، وحماية الممرات البحرية في باب المندب من التدخل الإيراني، كلها أولويات أمنية واستراتيجية يُعتد بها. ولكن الحرب الحالية سواء كانت في سوريا والعراق أو اليمن أو مصر أو ليبيا، تحتاج إلى التصميم نفسه في عملية بناء ودعم القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها. باختصار، فإن التحالف العربي الحالي بين دول الخليج ومصر والأردن عليه أن يستمر في التنمية وبناء قواعده الاقتصادية كما لو كان لا يوجد إرهاب، وأن يقاوم الإرهاب، ويعمل على هزيمته كما لو أن التنمية لا تحدث. كلتاهما معركة وجب الانتصار فيها، وربما كانت معركة التنمية وتطوير القاعدة الاقتصادية هي التي سوف تبقى آثارها على المدى البعيد.
من هذا المفهوم فإن مشروع قناة السويس – كمجرى للمرور أو كمحور للتنمية – يفتح الباب لفهم أوسع للطبيعة الاستراتيجية للمنطقة الممتدة من مضيق باب المندب إلى قناة السويس، ومن عدن حتى بورسعيد. هنا يصبح البحر الأحمر كله نطاقًا استراتيجيًا واحدًا، سواء بالمعنى العسكري أو التنموي. وما علينا إلا أن ننظر إلى الخريطة لكي نجد البحر يشكل نقطة اتصال كبيرة وواسعة وعميقة بين الجزيرة العربية ووادي النيل ولا يحول بينهما إلا الماء والصحراء. مشروع قناة السويس الجديدة، ممرًا ومحورًا، يقدم لنا مثالاً لعبور الماء والصحراء وخلق مساحة كبيرة من التفاعل السكاني والإنتاجي التي تملأ الفراغات التي كانت تاريخيًا مسارًا للغزاة، وحاضرًا لتجوال الإرهاب. المشروع المصري هو نقل المصريين من النهر إلى البحر، فهو من الناحية العملية يملأ بالحياة مساحة لا تقل عن مساحة سنغافورة، قاعدتها طريق القاهرة – السويس الصحراوي، وفي يمينها قناة السويس مع عمق داخل سيناء عبر مدن القناة: السويس، والإسماعيلية، والقنطرة، وبورسعيد، وفي يسارها فرع نيل دمياط ومن ورائها الدلتا، ويعلوها على البحر الأبيض طريق دمياط – بورسعيد. هذه المساحة التنموية الكبرى لها عمق ممتد لمسافة 100 كيلومتر مربع على ساحل خليج السويس شرقًا وغربًا، حيث العين السخنة والزعفرانة ورأس سدر والطور، أما خليج العقبة من شرم الشيخ إلى طابا فقد زارته الحياة من قبل، وصار واحدًا من أفضل المناطق السياحية في العالم.
كل ذلك من الممكن أن يكون متكاملا مع الشاطئ السعودي وعمقه الممتد حتى الخليج العربي، إذا ما شرعنا في ربط سواحل الشرق والغرب. وربما آن الأوان للمشروع السعودي التاريخي لربط السعودية ومصر عند مضيق تيران بجسر كان أو نفق يصير شريانًا يكمل الدورة الدموية لحركة البشر والسلع والبضائع بين أفريقيا والجزيرة العربية، ومن يعلم في المستقبل أيضًا بر الشام كله. البحر الأحمر هو الآخر ليس «نداهة» لغرق العبارات، وإنما هو معبر مهم يمكن أن يكون بحرًا عربيًا ليس بحكم الادعاء أو الاحتلال أو السيطرة، وإنما بحقيقة الوجود. الخطط المصرية الحالية تقول بربط محافظات جنوب مصر بساحل البحر الأحمر من خلال شبكة طرق كبيرة، مضافًا لها سلسلة من مشروعات التنمية الكبرى، مثل المثلث الذهبي، مما يمثل انتقالا آخر لمصريين آخرين من النهر إلى البحر. عرب شبه الجزيرة العربية الذين تميزوا وتفوقوا في عمليات «تحلية المياه» يمكنهم تقديم استثمارات واسعة في هذه المنطقة الممتدة لألف كيلومتر من الزعفرانة إلى حلايب وشلاتين، فيكون العمق الاستراتيجي المصري على مرمى حجر. التجارب الأولية للنجاح قائمة بالفعل في الغردقة ومرسى علم، وهناك 81 جزيرة تنتظر من ينميها على طول الساحل المصري للبحر الأحمر.
مشروع قناة السويس الجديدة يستحق الاحتفال قائما بذاته، ولكنه سيصير ذكرى بعد ذلك، أما إذا كان نقطة بداية لتغييرات استراتيجية في البنية السكانية والاقتصادية في المنطقة تجعلها أكثر رخاء ومنعة، فإن ذكراه سوف تمتد على مدى التاريخ. لم ينسَ العالم الأهرامات يوما، لأنها قدمت لفكرة «الخلود»، وربما لن ينسى أحد أيامنا هذه، لأنها قدمت أن جيلاً جديدًا من العرب يستطيع أن يجعل المستقبل ممتلئًا بالقوة والمنعة. وطوبى لكل البنائين العظام شعوبًا وقادة.